جُرعة مُكثفة من الحُزن، تعاطاها قبل ساعات معظم من تابعوا مأساة عصافير الجنة، الباحثات عن الرزق فى حقول العنب. حادث سيْر أيقظ بداخلنا المواجع، رغم أن نزيف الطرق أمر بات معتادا. ما زاد حجم الألم هذه المرة، أن وراء كل زهرة ذبلت قبل أوانها حكاية، لفتاة أصبحت ماضيا وهى تخطو نحو المستقبل، وبدلا من أن تكون ملهمة لشاعر يكتب فيها قصيدة غزل، صارت محور تراجيديا بائسة. تحوّلت الأحلام إلى كوابيس، وانطلقت الاتهامات فى كل اتجاه، غير أن سائق «التريلا» متعاطى المخدرات.. ليس المذنب الوحيد. يفتح الحادث الأبواب على مصراعيها على ملفات عديدة، مثل سلامة الطُرق وعمالة الأطفال والاستهانة بسلبيات تتكاثر إلى أن تُفجّر كارثة، وقد تبارت وسائل الإعلام فى فتح ساعات البث لمناقشتها، وسرعان ما تنشغل بقضية جديدة، حتى إشعار آخر بمأساة مسيلة للدموع. قلتُ فى البداية إن معظم المتابعين شعروا بالحزن، وكلمة «معظم» بالغة الدلالة، لأنها تفضح تشوهات أصابت البعض، فامتلكوا جرأة تقديم تحليلات كارثية. أحدهم مثلا زعم أن كل بنت خرجت لتعمل، بهدف الهروب من سلطة أبيها، أو لتجهيز نفسها والحصول على «قائمة» تهدد زوجها بها «وقت اللزوم»! أصدر حُكمه الجائر، ثم اتهم من فعلت ذلك بأنها «مجرمة وجابته لنفسها»!! الإجرام الحقيقى هو أن ينسى المشوّهون نفسيا قصص كفاحٍ، لفتيات اضطررن للعمل فى ظروف بالغة الصعوبة، وتحدّت كل منهن فقرا لا يرحم فى سبيل تحقيق حلمها أو تقديم مساعدة لأهلها، وهكذا يجرى تحويل مسارات القصص بالإكراه، لتحقيق مآرب أخرى. الأكثر غرابة منشورٌ مستفز كتبته فتاة، مستنكرة استعداد إحدى الشهيدات الفقيرات للزواج، من شاب فقير أيضا بالتأكيد. انتقدتْ إعادة إنتاج الفقر، وقالت بصفاقة: «ربنا ليه حكمة فى الموضوع. البنات دى كانت هتتجوز وتخلّف ويعيدوا نفس الدورة مع جيل جديد.. مش حرام برضه؟»! الدموع فى عصرنا مؤقتة، لأن مدة صلاحية التعاطف تنتهى بسرعة البرق، لكن المدهش أن يعيش بيننا من يفقدون الحد الأدنى من الإحساس!