من كان يتخيل أن يأتي يوما تصبح فيه الشخصيات الافتراضية أكثر تأثيرا من البشر, وأن يصبح المؤثرون الرقميون المصممون بخوارزميات الذكاء الاصطناعي نجوم السوشيال ميديا؟, في زمن لا يعترف بالثوابت، أصبحنا نتابع ونحب، وربما نتأثر، بشخصيات لم تولد يوما على أرض الواقع, هذه هي ثورة مؤثري الذكاء الاصطناعي، أو ما يعرف بالمؤثرين الافتراضيين AI Influencers" ", نماذج رقمية فائقة الواقعية تنافس البشر على قلوب الجماهير وصفقات الإعلانات, وتعيد رسم خريطة التأثير الرقمي. لم تعد الشهرة حكرا على المؤثرين من لحم ودم، بل باتت الشخصيات المولدة بالذكاء الاصطناعي تتربع على عرش "الترند"، وتقدم محتوى يدهش ويقنع ويروج له بكل احترافية. وفي زمن أصبح فيه "الوهم الرقمي" قادرا على صناعة رأي عام, ربما نحتاج لإعادة النظر في مفاهيم "الحقيقة" و"المؤثر", ويطرح هذا العالم سؤالا فلسفيا, هل نحتاج أن يكون من نثق فيه إنسانا حقيقيا، أم يكفي أن يقنعنا بأنه كذلك؟. عند تصفح منصات التواصل الاجتماعي، قد تصادف حساب لمؤثر يقدم محتوى أنيقا، بتنسيق بصري مدهش وشخصية آسرة تتفاعل مع الجمهور بسلاسة, لكن عند التعمق قليلا أو مشاهدة فيديوهات متعددة، تكتشف المفاجأة, فهذا الشخص ليس حقيقيا، بل شخصية رقمية بالكامل صنعت باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. هنا، تبدأ الرحلة إلى عالم جديد من التأثير، حيث لا يتحكم البشر وحدهم في "الترند"، لقد أصبح "المؤثرون الافتراضيون" ظاهرة حقيقية، يزداد عددهم وشهرتهم يوما بعد يوم, ومن أشهرهم, "لو دو ماغالو", ولديها 7.3 مليون متابع هى مؤثرة برازيلية بدأت كمساعدة افتراضية وتحولت إلى رمز إعلاني, تعاونت مع علامات تجارية كبيرة وظهرت على غلاف Vogue البرازيلية. "ليل ميكيلا" ولديها 2.5 مليون متابع, تعتبر الرائدة في مجال الإنفلونسرز الافتراضيين، وتمكنت من الجمع بين مظهر واقعي، محتوى سردي جذاب، وشراكات تجارية وموسيقية ضخمة, هي مثال حي لمحاكاة شخصيات الذكاء الاصطناعي للإنسان والتفوق عليه في بعض جوانب التسويق الرقمي. ابتكرتها شركة "Brud" في لوس أنجلوس, مغنية وعارضة ظهرت في حملات Dior، Prada، وغنت مع J Balvin"", وضعت ضمن قائمة أكثر 25 شخصية تأثيرا. "ليا لوف" استطاعت جذب أكثر من546 ألف متابع, هي مناصرة للبيئة من سويسرا, ألفت كتابا عن البيئة وشاركت في قمة الشباب للأمم المتحدة, لذلك تعتبر مثال نادر لمؤثرة رقمية ذات رسالة بيئية قوية. "أيتانا لوبيز" وتتمتع ب 338 ألف متابع, هي أول عارضة أزياء افتراضية في إسبانيا, صممت لتكون بديلا أكثر التزاما وانضباطا من العارضات الحقيقيات. كما بدأت المنطقة العربية تلتحق بالركب, فظهر عدد من المؤثرات الافتراضيات منهن, "جود" من الإمارات, فتاة افتراضية عمرها 24 عاما، تهتم بالموضة والتصوير. و"مياسين" أول شخصية خليجية افتراضية تظهر في حملات إعلانية رقمية. ومن النماذج الصاعدة، شخصية "رهف" على تيك توك، هي مؤثرة افتراضية مصرية جديدة تقدم محتوى اجتماعي ساخر وتسويقي بذكاء لافت، وصلت متابعتها إلى حوالي 7 آلاف متابع، وبلغ إجمالي الإعجاب نحو 35 ألفا، مما يعني أنها في مراحل النمو المبكر, تنشر مقاطع فيديو تروج فيها لنفسها كخيار مثالي للشركات. وللتعرف أكثر على هذا العالم لابد أولا من معرفة هوية المؤثر الافتراضي, فهو شخصية رقمية بالكامل، لا وجود لها في الواقع بل صنعت باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة وأدوات التصميم ثلاثي الأبعاد مثل Midjourney وStable Diffusion, ويتم إنشاؤهم بناء على "أوامر نصية" وعبر توليد صور واقعية انطلاقا من نصوص يكتبها المصمم "prompt-based design"، ثم تبرمج لشخصية افتراضية كاملة, هذه الشخصيات قد تكون شبيهة بالبشر إلى حد كبير أو أقرب لشخصيات الأنمي والرموز التعبيرية "أفاتار". وتمر صناعة المؤثرين الافتراضيين بسلسلة من الخطوات التقنية والإبداعية التي تعتمد على أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي والتصميم الرقمي, تبدأ بتصميم الشكل والمظهر, ثم تحريك الشخصية، ويتم الاستعانة ببرامج مثل Blender أو Unreal Engine لتحريك الشخصية، مع استخدام الذكاء الاصطناعي لمزامنة حركات الوجه والصوت مع الفيديو. الخطوة التالية هي بناء الهوية والسرد, وفيها يتم تصميم خلفية واقعية ومقنعة للشخصية من حيث العمر، الشخصية، الهوايات، أسلوب الحياة, هذه السمات تستخدم في المحتوى لتقوية الارتباط مع الجمهور. بعد الإطلاق على إنستغرام أو تيك توك، يتم جدولة المحتوى والردود، وأحيانا تدار بالكامل عبر روبوتات مدعومة بالذكاء الاصطناعي. بالنسبة للصوت واللغة, فيستخدم الذكاء الاصطناعي لتوليد صوت بشري مخصص، يمكن برمجته بلهجات مختلفة ولغات متعددة ليتناسب مع الجمهور المستهدف. أما الذكاء العاطفي, فبعض المؤثرين الافتراضيين مزودون بأنظمة تتفاعل عاطفيا، مما يجعلهم يردون بنبرة ودية أو حزينة أو ساخرة حسب السياق. ومع تطور أدوات مثل ChatGPT وSora وMidjourney، أصبح من الممكن لأي شركة، أو حتى شخص واحد، إنشاء شخصية مؤثرة رقمية خلال أيام. يشكل المؤثرين الافتراضيين عامل جذب مهم خاصة للشركات والعلامات التجارية الكبرى, وذلك لعدة أسباب أهمها, التحكم التام بالمحتوى والمظهر والسلوك, غياب الفضائح أو النزاعات القانونية, سهولة تخصيصهم ليتماشى ذلك مع صورة العلامة التجارية, وأيضا تكلفة أقل على المدى الطويل. وقد أظهرت الدراسات أن نحو 48.7% من المسوقين باتوا يدمجون الذكاء الاصطناعي في استراتيجياتهم الترويجية بشكل مباشر. وبالرغم من علم المتابعين أن هؤلاء الإنفلونسرز غير حقيقيين، فإنهم يتابعونهم بشغف لأسباب عديدة أهمها، الجاذبية البصرية لما يتميزون به من تصميم مثالي لا يتأثر بالزمن, كذلك التحكم في السلوك, لا فضائح، لا مواقف سياسية مثيرة للجدل, أيضا الخيال والواقع, فهم يربطون بين الخيال الرقمي والقصص الواقعية بطريقة تسحر المتلقي. وقد نجحوا في تحقيق أرباحا مثل المؤثرين الحقيقيين بل وأحيانا أكثر, على سبيل المثال، "ليل ميكيلا" حققت أكثر من 10 ملايين دولار في السنة من الإعلانات والرعاية, وقد بدأت شركات عملاقة في الاستثمار في هذه الشخصيات لتقليل تكاليف الإنتاج والتقليل من مخاطر التعامل مع مؤثرين حقيقيين. وبالرغم من هذا النجاح لا يمكن اعتبارهم بديلا كاملا، لكنهم أصبحوا منافسا قويا, فالمؤثر الافتراضي لا يتعب، لا يمرض ولا يتعرض لفضائح, لكنه يفتقر لتجربة الحياة الحقيقية. فنحن أمام حقبة جديدة يعاد فيها تعريف مفهوم "المؤثر", والواقع الرقمي بات مليئا بشخصيات افتراضية تتفوق أحيانا على البشر في التأثير، التنظيم، والانضباط, إنها ثورة صامتة يقودها الذكاء الاصطناعي, وتغير مستقبل الإعلام والإعلان, فالمؤثرون الافتراضيون ليسوا مجرد صور أو رسوم، بل كيانات رقمية متكاملة تمتلك صوتا، شخصية، وجمهورا, وربما السؤال لم يعد "هل سينجحون؟", بل "من سيكون التالي؟". اقرأ أيضا: باستخدام Veo 3.. الذكاء الاصطناعي يصنع الأفلام بلغة البشر