يشهد عالم الأزياء والموضة تحولا جذريا تقوده تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي باتت تقتحم مختلف جوانب هذه الصناعة، من تصميم الأزياء إلى عرضها، مرورا بالتصوير والترويج, ففي السنوات الأخيرة، أصبح من الممكن تنفيذ حملات دعائية وعروض أزياء متكاملة دون الحاجة إلى مواقع تصوير فخمة أو عارضات أزياء بشريات، وذلك بفضل نماذج افتراضية يتم توليدها رقميا بدقة واقعية مذهلة. تجاوزت عارضة الأزياء البريطانية أليكساندرا غوندورا، المقيمة في لندن، حدود استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في صناعة العارضات، إذ ذهبت إلى أبعد من ذلك, حيث اعتمدت على نسخة رقمية مطابقة لها تم إنشاؤها بالذكاء الاصطناعي، لتكون متاحة للمشاركة في جلسات التصوير والحملات الإعلانية دون أن تغادر مكانها, فهي ترى أن هذه التقنية توفر الوقت، وتمكنها من التواجد في مكانين في وقت واحد، في إشارة إلى قدرة الشركات على الاستفادة من نسختها الرقمية دون الحاجة لسفرها, وترى "غوندورا" أن الذكاء الاصطناعي، إذا ما استخدم بشكل أخلاقي، لن يكون تهديدا للعارضات، بل فرصة لفتح آفاق جديدة، مؤكدة أن النسخة الرقمية الخاصة بها ليس لها تاريخ صلاحية لا تزول ولا تشيخ وستظل تمثلها في ذروة شبابها في أي زمان ومكان، حتى عندما تكبر في السن. من جهة أخرى، أصبح للذكاء الاصطناعي دور في تعزيز التنوع العرقي، حيث ساهم في إحياء شخصية "شودو غرام"، أول عارضة أزياء رقمية سوداء في العالم، التي تم إنشاؤها عام 2017 على يد المصور البريطاني كاميرون جيمس ويلسون، الذي يمتلك خلفية طويلة في صناعة الموضة, جذبت "شودو" أكثر من 237 ألف متابع على "إنستجرام"، وشاركت في حملات دعائية حقيقية بالتعاون مع علامات بارزة مثل "Fenty Beauty", الخاصة بالمطربة الأمريكية ريهانا، حيث ظهرت وهي تضع أحمر الشفاه من الماركة، في صورة لاقت رواجا واسعا. كما استخدمت ماركة "Max&Co" نسخة "شودو" في تعاون فني مع المصمم ريتشارد كوين، مستوحى من أزياء الستينيات, وتساهم "غوندورا" وعدد من عارضات الأزياء ذوات البشرة السوداء في إضفاء لمساتهن الخاصة على صور ومشروعات "شودو"، مما يعزز التنوع ويعكس الجمال المتعدد في صناعة الأزياء الرقمية. تم إنشاء "شودو" باستخدام برامج تصميم ثلاثية الأبعاد مثل "Daz 3D" و"Blender", واستلهم ويلسون ملامحها من دمية "باربي" "Princess of South Africa"، ومن عارضات حقيقيات مثل ناعومي كامبل وغريس جونز, ويستغرق إنتاج صورة واحدة لها حوالي 3 أيام من العمل المكثف، بالإضافة إلى أسبوع من التخطيط. اتجه عدد كبير من مصممي الأزياء إلى توظيف التقنيات الرقمية الحديثة في خدمة تصاميمهم وإبراز أعمالهم بأساليب مبتكرة, حيث تم تداول صور لأول عرض أزياء مستوحى من المرأة الفرعونية على موقع "فيس بوك"، والذي تم تصميمه بتقنيات الذكاء الاصطناعي وأقمشة الصبغات الفلورية في تصميم الأزياء، والفكرة تعود للشاب إيهاب أحمد عصمت، خريج كلية الهندسة قسم العمارة بجامعة الإسكندرية. ونشرت صفحة الموضة العصرية، التابعة لمصممة الأزياء الفرنسية، Karime Granados"" عبر حسابها الرسمي على منصة "إنستجرام", مقاطع مصورة لفيديوهات عرض أزياء من إنتاجها، تظهر فساتين يتم عرضها على منصات افتراضية بواسطة الذكاء الاصطناعي، دون تدخل العنصر بشري, وقد ظهر الفستان وكأن به عارضة حقيقة تمشي بالتفاصيل المثالية المطلوبة بالعارضات البشريات، مما يمنح تجربة بصرية متكاملة دون الحاجة لتوظيف عارضة أزياء فعلية. وتعد هذه التجربة الثانية ل"غرانادوس" في استخدام الذكاء الاصطناعي بعروضها، حيث عرضت فستانا آخر باللون الأسود مزين بقطع براقة، لاقى تفاعلا كبيرا على وسائل التواصل الاجتماعي. في الواقع، بدأت شركات الأزياء وتجار التجزئة بالفعل في توظيف الذكاء الاصطناعي لإنشاء محتوى بصري لمواقع التجارة الإلكترونية، ولإنتاج حملات دعائية بتكاليف أقل ودقة عالية, أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو استوديو "Coppy Lab" الذي أنتج إعلانا كاملا باستخدام الذكاء الاصطناعي، يظهر فيه عارضون بعضلات بارزة ونساء جميلات في مشهد تحيطه المسابح الرخامية والمرايا الذهبية, لكن كل ذلك لم يكن حقيقيا. ويشهد هذا العام 2025، تنظيم عدة عروض أزياء تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مما يعكس التوسع المستمر لهذه التقنية في صناعة الموضة. من أبرز هذه الفعاليات, أسبوع طوكيو للموضة بالذكاء الاصطناعي ويتضمن الحدث مسابقة تصميم مفتوحة للجمهور، بالإضافة إلى معرض رقمي يعرض فيه أعمال مبتكرة تم إنشاؤها بالتعاون بين الذكاء الاصطناعي والمصممين البشر, سيقام المعرض في طوكيو خلال الفترة من 20 إلى 22 سبتمبر 2025، ويهدف إلى استكشاف مستقبل الموضة من خلال دمج التكنولوجيا والابتكار الإبداعي. بالإضافة إلى ذلك، شهد "أسبوع سيول للموضة", استخداما متقدما للذكاء الاصطناعي، حيث قدمت المصممة هانا شين مجموعة "Cosmogonie" التي دمجت بين تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد والذكاء الاصطناعي، بالتعاون مع معهد KAIST وشركة Stratasys Korea, تميز العرض بتقديم تصاميم مستوحاة من الكون، بما في ذلك فساتين قصيرة وسترات معدنية، مع التركيز على الاستدامة والابتكار. وفي "أسبوع الموضة في ميلانو", قدم المصمم "جوزيبي دي مورابيتو" عرضا فريدا بعنوان "Alone with the Stars"، حيث افتتح العرض بروبوت بشري يدعى Ameca، مما رمز إلى التقدم التكنولوجي السريع والحاجة إلى التأمل الذاتي, تضمنت المجموعة تصاميم مستوحاة من الدروع القديمة، مع دمج عناصر تكنولوجية حديثة، مما يعكس توازنا بين التقليد والابتكار. تظهر هذه الفعاليات كيف أن الذكاء الاصطناعي أصبح أداة قوية في صناعة الأزياء، مما يفتح آفاقا جديدة للإبداع والتصميم، ويعيد تعريف كيفية تقديم الموضة والأزياء للجمهور. وفي هذا السياق، يذكر أن أول أسبوع موضة باستخدام الذكاء الاصطناعي أُقيم في مدينة نيويورك عام 2023 بتنظيم من وكالة Maison Meta بالتعاون مع شركة Revolve Group, استضاف الحدث أكثر من 130 مصمما عالميا عرضوا مجموعاتهم الرقمية في مركز Spring Studios بحي سوهو، حيث تم التصويت لأفضل التصاميم عبر تطبيق مخصص، وقامت لجنة تحكيم متخصصة باختيار الأفضل, وقد شهد الحدث نجاحا لافتا، مما دفع المنظمين لإقامة موسمين لاحقين في ميلانوونيويورك نهاية نفس العام، مؤكدين بذلك بدء عصر جديد من الموضة الرقمية. ورغم هذه القفزة التكنولوجية، يبدي البعض مخاوف من تأثير هذه التطورات على وظائف المصورين وخبراء التجميل والعارضات، فضلا عن خطر الترويج لمعايير جمالية غير واقعية, لكن الواقع يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي بات جزءا لا يتجزأ من مستقبل صناعة الموضة، ومع استمرار تطوره، ستتغير معه طبيعة العمل في هذا القطاع الذي لطالما ارتبط بالإبداع والابتكار. اقرأ أيضا: أسبوع باريس للأزياء الراقية.. أبرز الإطلالات والتوجهات وبين الحماسة والقلق، يقف عالم الموضة على مفترق طرق جديد، حيث لا تزال الأسئلة مفتوحة, هل سيكون الذكاء الاصطناعي شريكا في الابتكار، أم خصما يهدد الاستدامة المهنية؟, وبينما يزداد الاعتماد على النماذج الرقمية، يبقى مستقبل العنصر البشري في هذا المجال مرهونا بقدرة الصناعة على التوازن بين التطور التكنولوجي والحفاظ على الطابع الإنساني الذي لطالما ميز الموضة.