د. أحمد الصغير الشاعر فتحى عبدالسَّميع من الشعراء المخلصين لحقيقة قصيدة النثر المصرية الخالصة فى المعنى والمبنى، لأنه شاعرٌ / بنَّاءٌ ماهرُ فى لحظة انفصال العالم عن أوراح الآخرين، وبقايا مراياهم المقعرة حيث إنه اعتكف فى محراب القصيدة أشبه براهب أدرك حقيقة الشعر الغائبة فى اللحظة الراهنة، لايخرج إلى العالم إلا متأملا فى حقيقه الوصل بالحياة المحيطة به، مفكرًا بالشعر، وللشعر مغموسًا بعرق الجنيَّات فى الجنوب (قنا). يمتلك الشاعر تجربة طويلة فى قصيدة النثر المصرية، فهو كثيرُ الإلحاح فى تجربته على استحلاب الحنين رغم مرارته، وقسوة عشقه، إنه الشاعر الذى طوى عجاف السنين فى العشق، محاربا العالم، منطلقا فى مشاريع الثأر للقصيدة التى تعانى كثيرا من الظلم والتهميش الذى لحقها، لتنل من شرف القصيدة. يعد ديوان الموتى يقفزون من النافذة هو الخامس للشاعر، بعد الخيط فى يدى، هيئة قصور الثقافة1997، وتقطيبة المحارب، كتاب حتحور 1999، وخازنة الماء، المجلس الأعلى للثقافة 2002، وفراشة فى الدُّخان، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2008، تمثال رملى، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012. جاء ديوان (الموتى يقفزون من النافذة)، محملا، ومشحونا بالشفرات التأويلية بدءا من العنوان المخاتل، ومن ثمَّ ينبغى الوقوف على المؤشر الدلالى الأول/ العنوان الذى يحمل الكثير من المفارقات المشهدية، اللقطات الروحية، والتناقضات المنطقية، حيث نبدأ تأويلنا من السؤال ، ألا وهو كيف للموتى أن يقفزوا من النافذة ؟ يبدو لى أنَّ الموت فعل إلهى بحت خارج عن إرادة الانسان، فقد تسلم الروح إلى بارئها، أما القفز، هو فعل إنسانى بحت أيضا ؛ لأن الإنسان نفسه، هو من يقرر القفز من النافذة أو البلكونة أو السطوح... أو من أى مكان مرتفع . ولماذا النافذة تحديدا ؟ هل هم مجموعة من اللصوص ؟ أم أرادوا الفرار من الواقع الكئيب الذى يعيش فيه بنو البشر، كل هذه تكهنات تأويلية، وفى ظنى أن عبدالسميع اتكأ على الخيال كثيرا فى العنوان، من خلال شعرية الصدمة التلقائية التى يمكن أن تحدث أثناء مشاهدة النص لحظة عملية التلقى البصرى، كما أنه امتلك حسا ساخرا داخل العنوان ،وهو حتى الموتى يريدون أن يتخلصوا من حياتهم فرارا من الواقع الكئيب الذى تغلفه المتناقضات أيضا!! جاء الإهداء موجهاً إلى سليمة أحمد محمود العَفِى، تلك المرأة التى تحفر التاريخ بيديها، وكأنها الراوية/ المخاطبة التى اختارها الشاعر للتعبير عن مأساة الموتى الذى أعلنوا تمردهم على الواقع فقرروا الخروج والقفز من الحياة. فالشاعر يحرك الأشياء والشخوص داخل الإهداء كما يحرك قطع الشطرنج، كى يؤدى كل منها دوره فى عملية بناء النص الشعرى.. فيقول : «كلما ضاقت عليها الدنيا تجلس عند السلم الطيني تكرُّ غناءَ الجنائز وتحرض الموتى على العالم يتكئ الإهداء على لعبة المفارقة من خلال البنية الممزوجة بالموت والحياة فى الوقت نفسه من خلال اختياردوال لغوية ذات شحونات متعددة مثل (ضاقت تكر الجنائز ضاحكة تتطاير أوجه عذابات) إن اختيار الشاعر فتحى عبد السميع لهذه الدول الشعرية داخل النص، إنما هو اختيار إشارى دال فى حقيقة الأمر، لأنه يحمل وراءه الكثير من الأنسجة الشعرية المائية داخل النص نفسه التى تمنح المتلقى الإبداعى مساحة على هامش النص يكتب فيها تجربته حول القراءة . إضافة للأوجه البريئة الخالصة التى تتأمل فى وجه العالم الظالم الذى سلبها حقوقها فى الحياة، والسكينة والسلام، والماء الأبيض الذى يسكن فى عينى سليمة محمود العفى التى تحمل العالم على طرف حجرها الأسود الذى تتساقط منه حكايات، وأساطير القدامى الذين قفزوا من معابدهم الخاصة حالمين بحياة أخرى بعد الموت، وكأن نافذة عبدالسميع هى الحياة التى نتوق إليها كى نقفز منها لترسب الحنين الحميم داخل ذوات القصيدة . ويقول عبدالسميع فى قصيدة بعنوان (أر بى جى) : «أعودُ من معبد دندرة ما فى الرأس سوى حورس وهو يطعن الوحش. كل الذين أحببتهم طعنوا وحوشا وصعدوا» إن اختيار الشاعر شخصية حورس الإله يقوم على استدعاء الأسطورى، لأن حورس فى إحدى الأساطير فى مصر القديمة، كان يعتبر رمز الخير والعدل، وهنا ندرك الدلالة التى أراد الشاعر فتحى عبدالسميع التأكيد عليها، وهى بحث الذات الشاعرة عن قيم العدل والخير والجمال والمحبة، التى منحتها لنا الأسطورة، كما تجلت أسطورة حورس فى نصوصه فى مواضع عدة، متأثرا بالحياة التى يعيشها فتحى نفسه، خالقا من الجمال الفرعونى أصوات الحياة الراهنة، كما يشكل معبد دندرة فى جنوب مصر طاقة من طاقات الضوء التى فتحها عبدالسميع كى يقفز منها الموتى، لأن الذات الشاعرة مشغولة بثقافة الجنائز بدءا من مطلع الديوان فى الإهداء حتى النص الأخير، هذه الثقافة التى تجلت فى تراثنا الفرعونى القديم، لأن الفراعنة القدامى قدموا الموت بوصفه حياة أخرى للبقاء والخلود. يصنع الشاعر من (الآر بى جى) عالما مربكا فى القصيدة من خلال الأصدقاء الذين رحلوا من قبل، وكأن السلاح نفسه لا يمنع الموت عنهم أيضا، كما يصنع إيقاعا ممزوجا بأحزان الذات الشاعرة المتولدة داخل النص، هذا الإيقاع الذى أسميه هنا إيقاع الخوف من الحياة المتولد من خلال مفردات تدل على انهيار الذات الشاعرة أمام استدعاء الحضارات الفرعونية القديمة، استدعاء منطق القوة والسلام والهراوات الشعرية داخل الواقع الافتراضى الذى يعيش الشاعر داخله، وعندما تتجلى الذات فى لحظات قوتها الفتية، بمجرد قفز قطة، تخرج الذات الخائفة، معلنة طلقات تخرج من المؤخرة، هل هى مؤخرة الذات أم مؤخرة الآربى جى؟ جاءت الصورة الشعرية التى كسرت حاجز المجاز التقليدى، لتصنع عالما من المجازات المتوالدة داخل النص أيضا فى قوله : ( كل الذين أحببتهم، طعنوا وحوشا وصعدوا.) التوالد المجازى فى جدار النص منحه قدرة على البقاء فى حياة الآخرين الذين عاشت الذات فى كنفهم آمنة مطمئنة من هول الفجيعة والضياع، كلهم طعنوا الوحش البرية وصعدوا،كما أن الحديث عن الصعود والخلود والموت، حيدث متصل بالعالم الذى تعيش فيه الذات رغم الإيقاع الحزين الذى يتصدر المفردات، والمجازات التى صنعها الشاعر، فإنها تبقة وحيدة أسر عالم لا يرحم ولا يقدم لها ورة البقاء . ويقول عبد السميع : عن الطفولة الحائرة الباكية فى ديوانه : «أريد أن أحدث أصدقائى عن شيخوخة لا تصنعها السنوات أريد أن أحدثهم عن وقع أقدام عسكرية أسمعها كلما انتهيت من ضحكة أو من ارتشاف كوب من الماء أريد أن أحكى لأى مخلوق عن موتى يقفزون من النافذة تبدو الذات الشاعرة فى النص السابق منهزمة أمام ضمير الواقع الذى لايشعر بها، ويرجع سبب هزيمتها تلك الأحزان التى ترسبت فى جنبات أعضائها المختلفة، حيث إنها تدرك أن الأصدقاء لن يتحملوا الحديث عن شيخوخة لم تصنع السنوات التى مرت بالذات الشاعرة، ولكنها شيخوخة صنعها الألم اليومى والتهميش غير المبرر الواقع على الذات نفسها، بل تطرح الذات كل هذه المشاهد الشعرية داخل القصيدة، لتبدأ فى الحديث عن الوجع الإنسانى الحقيقى، بل هى الأسباب الخالصة التى تكمن خلف الشيخوخة المبكرة التى تتحدث عنها الذات الشاعرة، تجلى ذلك فى اتكاء النص على أعمدة لغوية مهمة حتى تكتمل معمارية القصيدة على حد قول (عزالدين إسماعيل، وتى اس إليوت)، كلاهما فتنا بمعمارية القصيدة فى الشعر العربى والأوروبى، وهنا نلاحظ، العلاقات المتوالدة عن تراكيب لغوية، تعتمد على شفرات ملغزة فى حقيقة الأمر، وأولاها (أقدام عسكرية ضحكة الخوف سرادقات الجنائز الموتى المستشفيات ارتشاف كوب أخير من الماء قبل الخروج إلى الموت). إنَّ جل هذه الإشارات/ العلامات النصية من أهم معطيات النص لدى عبدالسميع، لأنها تسهم فى الوصول إلى كنهه، وأغراضه السيميائية، حيث إن الذات الشاعرة/ المأساوية التى تنعى حظها البائس فى الحياة، تلك الحياة التى ترفض مجيئها ( الذات)، كارهة لكل ألوان الزيف، والعنف الاجتماعى الذى فُرِضَ عليها من قِبَلِ السلطة السياسية التى تجبرها على إخفاء ضحكاتها، خوفا من التنكيل بها. وعليه فإن الشاعر فتحى عبدالسميع على الرغم من حديثه الطويل فى الديوان عن الموتى، راصداً أسباب قهرهم وهروبهم، ورحيلهم المعلن، فإنه يحتفى بالحياة والأحياء الذين يشبهون الموتى فى معيشتهم، الموت هنا ليس موتاً حقيقياً، لكنه الموت المجازى، لأن الإنسان يبحث عن الحياة فى صورتها العظيمة التى تحترم ذاته، وكيانه ومشاعره، بوصفه إنسانا له حقوق وعليه واجبات لكن السلطة تخفى هذه الحقوق، وتطلب من الإنسان الواجبات فقط فى الضحك والتبسم والكلام وممارسة الجنس، حتى هؤلاء الموتى/ الأحياء لن يتذكروا فى حياتهم سوى سرداقات الجنائز والمستشفيات والموت والأكواب المهشمة التى تشير إلى حياتهم المهشمة أيضا. فى هذا الديوان تحديداً خرج عبدالسميع عن البيئة اللغوية التى كان ملتحما بها من ذى قبل، ليرتبط بلغة العالم الواسع والكبير فى آلامه وإيقاعاته ومجازاته التى تتوالد من رحم الحياة والموت معاً.