الشاعر فتحي عبدالسَّميع من الشعراء المخلصين لحقيقة قصيدة النثر المصرية الخالصة في المعني والمبني ، لأنه شاعرٌ / بنَّاءٌ ماهرُ في لحظة انفصال العالم عن أوراح الآخرين ، وبقايا مراياهم المقعرة . حيث إنه اعتكف في محراب القصيدة أشبه براهب أدرك حقيقة الشعر الغائبة في اللحظة الراهنة، لايخرج إلي العالم إلا متأملا في حقيقه الوصل بالحياة المحيطة به ، مفكرًا بالشعر،وللشعر مغموسًا بعرق الجنيَّات في الجنوب(قنا) . يمتلك الشاعرتجربة طويلة في قصيدة النثر المصرية ، فهو كثيرُ الإلحاح في تجربته علي استحلاب الحنين رغم مرارته، وقسوة عشقه ، إنه الشاعر الذي طوي عجاف السنين في العشق ، محاربا العالم ، منطلقا في مشاريع الثأر للقصيدة التي تعاني كثيرا من الظلم والتهميش الذي لحقها ، لتنل من شرف القصيدة . . يعد ديوان الموتي يقفزون من النافذة هوالخامس للشاعر، بعدالخيط فييدي، هيئة قصورالثقافة 1997،وتقطيبة المحارب،كتاب حتحور 1999 وخازنة الماء، المجلس الأعلي للثقافة 2002، وفراشة في الدُّخان،الهيئة المصرية العامة للكتاب 2008، تمثال رملي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012 . جاء ديوان (الموتي يقفزون من النافذة)،محملا ، ومشحونا بالشفرات التأويلية بدءا من العنوان المخاتل ، ومن ثمَّ ينبغي الوقوف علي المؤشر الدلالي الأول / العنوان الذي يحمل الكثير من المفارقات المشهدية ، اللقطات الروحية، والتناقضات المنطقية ، حيث نبدأ تأويلنا من السؤال ، ألا وهو كيف للموتي أن يقفزوا من النافذة ؟ يبدو لي أنَّ الموت فعل إلهي بحت خارج عن إرادة الانسان ، فقد تسلم الروح إلي بارئها ، أما القفز، هو فعل إنساني بحت أيضا ؛ لأن الإنسان نفسه، هو من يقرر القفز من النافذة أو البلكونة أو السطوح ... أو من أي مكان مرتفع . ولماذا النافذة تحديدا ؟ هل هم مجموعة من اللصوص ؟ أم أرادوا الفرار من الواقع الكئيب الذي يعيش فيه بنو البشر ، كل هذه تكهنات تأويلية ، وفي ظني أن عبدالسميع اتكأ علي الخيال كثيرا في العنوان ، من خلال شعرية الصدمة التلقائية التي يمكن أن تحدث أثناء مشاهدة النص لحظة عملية التلقي البصري ، كما أنه امتلك حسا ساخرا داخل العنوان ،وهو حتي الموتي يريدون أن يتخلصوا من حياتهم فرارا من الواقع الكئيب الذي تغلفه المتناقضات أيضا!! . جاء الإهداء موجها إلي سليمة أحمد محمود العَفِي ، تلك المرأة التي تحفر التاريخ بيديها ، وكأنها الراوية / المخاطبة التي اختارها الشاعر للتعبير عن مأساة الموتي الذين أعلنوا تمردهم علي الواقع فقرروا الخروج والقفز من الحياة . فالشاعر يحرك الأشياء والشخوص داخل الإهداء كما يحرك قطع الشطرنج ، كي يؤدي كل منها دوره في عملية بناء النص الشعري . فيقول : "كلما ضاقت عليها الدنيا تجلس عند السلم الطيني تكرُّ غناءَ الجنائز وتحرض الموتي علي العالم " يتكئ الإهداء علي لعبة المفارقة من خلال البنية الممزوجة بالموت والحياة في الوقت نفسه من خلال اختيار دوال لغوية ذات شحونات متعددة مثل ( ضاقت تكر الجنائز ضاحكة تتطاير أوجه عذابات ) إن اختيار الشاعر فتحي عبد السميع لهذه الدول الشعرية داخل النص ، إنما هو اختيار إشاري دال في حقيقة الأمر ، لأنه يحمل وراءه الكثير من الأنسجة الشعرية المائية داخل النص نفسه التي تمنح المتلقي الإبداعي مساحة علي هامش النص يكتب فيها تجربته حول القراءة . إضافة للأوجه البريئة الخالصة التي تتأمل في وجه العالم الظالم الذي سلبها حقوقها في الحياة ، والسكينة والسلام ، والماء الأبيض الذي يسكن في عيني سليمة محمود العفي التي تحمل العالم علي طرف حجرها الأسود الذي تتساقط منه حكايات ، وأساطير القدامي الذين قفزوا من معابدهم الخاصة حالمين بحياة أخري بعد الموت ، وكأن نافذة عبدالسميع هي الحياة التي نتوق إليها كي نقفز منها لترسب الحنين الحميم داخل ذوات القصيدة . ويقول عبدالسميع في قصيدة بعنوان ( أر بي جي ) : "أعودُ من معبد دندرة ما في الرأس سوي حورس وهو يطعن الوحش. كل الذين أحببتهم طعنوا وحوشا وصعدوا" إن اختيار الشاعر شخصية حورس الإله يقوم علي استدعاء الأسطوري ، لأن حورس في إحدي الأساطير في مصر القديمة ،كان يعتبر رمز الخير والعدل، وهنا ندرك الدلالة التي أراد الشاعر فتحي عبدالسميع التأكيد عليها ، وهي بحث الذات الشاعرة عن قيم العدل والخير والجمال والمحبة ، التي منحتها لنا الأسطورة ، كما تجلت أسطورة حورس في نصوصه في مواضع عدة ، متأثرا بالحياة التي يعيشها فتحي نفسه ، خالقا من الجمال الفرعوني أصوات الحياة الراهنة ، كما يشكل معبد دندرة في جنوب مصر طاقة من طاقات الضوء التي فتحها عبدالسميع كي يقفز منها الموتي ، لأن الذات الشاعرة مشغولة بثقافة الجنائز بدءا من مطلع الديوان في الإهداء حتي النص الأخير ، هذه الثقافة التي تجلت في تراثنا الفرعوني القديم ، لأن الفراعنة القدامي قدموا الموت بوصفه حياة أخري للبقاء والخلود . يصنع الشاعر من ( الآر بي جي ) عالما مربكا في القصيدة من خلال الأصدقاء الذين رحلوا من قبل ، وكأن السلاح نفسه لا يمنع الموت عنهم أيضا ، كما يصنع إيقاعا ممزوجا بأحزان الذات الشاعرة المتولدة داخل النص ، هذا الإيقاع الذي أسميه هنا إيقاع الخوف من الحياة المتولد من خلال مفردات تدل علي انهيار الذات الشاعرة أمام استدعاء الحضارات الفرعونية القديمة ، استدعاء منطق القوة والسلام والهراوات الشعرية داخل الواقع الافتراضي الذي يعيش الشاعر داخله ، وعندما تتجلي الذات في لحظات قوتها الفتية ، بمجرد قفز قطة ، تخرج الذات الخائفة ، معلنة طلقات تخرج من المؤخرة ، هل هي مؤخرة الذات أم مؤخرة الآربي جي ؟؟ جاءت الصورة الشعرية التي كسرت حاجز المجاز التقليدي ، لتصنع عالما من المجازات المتوالدة داخل النص أيضا في قوله : ( كل الذين أحببتهم ، طعنوا وحوشا وصعدوا.) التوالد المجازي في جدار النص منحه قدرة علي البقاء في حياة الآخرين الذين عاشت الذات في كنفهم آمنة مطمئنة من هول الفجيعة والضياع ، كلهم طعنوا الوحش البرية وصعدوا ،كما أن الحديث عن الصعود والخلود والموت ، حيدث متصل بالعالم الذي تعيش فيه الذات رغم الإيقاع الحزين الذي يتصدر المفردات ، والمجازات التي صنعها الشاعر ، فإنها تبقي وحيدة أسر عالم لا يرحم ولا يقدم لها دورة البقاء . ويقول عبد السميع : عن الطفولة الحائرة الباكية في ديوانه : " أريد أن أحدث أصدقائي عن شيخوخة لا تصنعها السنوات أريد أن أحدثهم عن وقع أقدام عسكرية أسمعها كلما انتهيت من ضحكة أو من ارتشاف كوب من الماء أريد أن أحكي لأي مخلوق عن موتي يقفزون من النافذة تبدو الذات الشاعرة في النص السابق منهزمة أمام ضمير الواقع الذي لايشعر بها ، ويرجع سبب هزيمتها تلك الأحزان التي ترسبت في جنبات أعضائها المختلفة ، حيث إنها تدرك أن الأصدقاء لن يتحملوا الحديث عن شيخوخة لم تصنع السنوات التي مرت بالذات الشاعرة ، ولكنها شيخوخة صنعها الألم اليومي والتهميش غير المبرر الواقع علي الذات نفسها ، بل تطرح الذات كل هذه المشاهد الشعرية داخل القصيدة، لتبدأ في الحديث عن الوجع الإنساني الحقيقي ، بل هي الأسباب الخالصة التي تكمن خلف الشيخوخة المبكرة التي تتحدث عنها الذات الشاعرة ، تجلي ذلك في اتكاء النص علي أعمدة لغوية مهمة حتي تكتمل معمارية القصيدة علي حد قول (عزالدين إسماعيل ، وتي اس اليوت) ، كلاهما فتنا بمعمارية القصيدة في الشعر العربي والأوروبي ، وهنا نلاحظ ، العلاقات المتوالدة عن تراكيب لغوية، تعتمد علي شفرات ملغزة في حقيقة الأمر ، وأولاها ( أقدام عسكرية ضحكة الخوف سرادقات الجنائز الموتي المستشفيات ارتشاف كوب أخير من الماء قبل الخروج إلي الموت ) . إنَّ جل هذه الإشارات / العلامات النصية من أهم معطيات النص لدي عبدالسميع، لأنها تسهم في الوصول إلي كنهه ، وأغراضه السيميائية ، حيث إن الذات الشاعرة / المأساوية التي تنعي حظها البائس في الحياة ، تلك الحياة التي ترفض مجيئها ( الذات)، كارهة لكل ألوان الزيف ، والعنف الاجتماعي الذي فُرِضَ عليها من قِبَلِ السلطة السياسية التي تجبرها علي اخفاء ضحكاتها ، خوفا من التنكيل بها .. وعليه فإن الشاعر فتحي عبدالسميع علي الرغم من حديثه الطويل في الديوان عن الموتي، راصدا أسباب قهرهم وهروبهم ،ورحيلهم المعلن ، فإنه يحتفي بالحياة والأحياء الذين يشبهون الموتي في معيشتهم ، الموت هنا ليس موتا حقيقيا ، لكنه الموت المجازي ، لأن الإنسان يبحث عن الحياة في صورتها العظيمة التي تحترم ذاته ، وكيانه ومشاعره ، بوصفه إنسانا له حقوق وعليه واجبات لكن السلطة تخفي هذه الحقوق ، وتطلب من الإنسان الواجبات فقط في الضحك والتبسم والكلام وممارسة الجنس ، حتي هؤلاء الموتي / الأحياء لن يتذكروا في حياتهم سوي سرادقات الجنائز والمستشفيات والموت والأكواب المهشمة التي تشير إلي حياتهم المهشمة أيضا. في هذا الديوان تحديدا خرج عبدالسميع عن البيئة اللغوية التي كان ملتحما بها من ذي قبل، ليرتبط بلغة العالم الواسع والكبير في آلامه وإيقاعاته ومجازاته التي تتوالد من رحم الحياة والموت معا .