د. شادن دياب بعبارة لابن عربى يفتتح جيلبير سينويه كتابه الجديد «العصر الذهبى للحضارة العربية»، الصادرة ترجمته باللغة العربية عن دار الجمل، بترجمة دعاء نونو: رَأى البَرقَ شَرقِيّاً فَحَنَّ إِلى الشَرقِ وَلَو لاحَ غَربِيّاً لَحَنَّ إِلى الغَربِ فَإِنَّ غَرامى بِالبُرَيقِ وَلَمحِهِ وَلَيسَ غَرامى بِالأَماكِنِ وَالتُربِ. «الغرب لا يدين للشرق بشيء»، عبارة سمعها جيلبير سينويه ذات يوم، فهزّته بعمق لما تحمله من ظلم تاريخى صارخ، وكانت الدافع الرئيسى وراء تأليفه لكتابه عن الحضارة العربية. ومن هنا بدأ لقائى معه فى أبو ظبى، فى معرض أبو ظبى الدولى للكتاب، وفى إطار النقاش الثقافى الذى نظّمته «التحالف الثقافى الفرنسي-العربي»، حيث طُرحت أسئلة جوهرية حول الذاكرة والتاريخ المشترك. فى حديث صادق دار حول دوافعه: لماذا يؤلف اليوم كتابًا عن الحضارة العربية؟ ولماذا الآن، فى عالم تهيمن عليه الذاكرة الانتقائية والنسيان المتعمَّد؟ اختار جيلبير سينويه أن يبدأ سرده ، مؤكدًا الدور التأسيسى فى الفكر العربى. لم يكن هدفه مجرد سرد الوقائع، بل إبراز كيف أن هذه المنطقة، بعمق بنظرة على بلاد العرب قبل الإسلام وتاريخهم مع الكتابة، أرست دعائم حضارة أثّرت فى الغرب. ويُفرد سينويه فصلًا مهمًا للحديث عن الترجمة، والتى لا يتردد فى وصفها ب«الخيانة الضرورية»، إذ كانت الترجمة الجسر الحقيقى بين الشرق والغرب، لا لمجرد معرفة الآخر، بل للاعتراف به كمصدر للمعرفة. فكما أشار ابن حبان فى قراءته لترجمات جالينوس، لم يكن الترجمان يترجم نصًا فحسب، بل يترجم رؤيةً للوجود. واليوم، لم تعد مسألة الترجمة محصورة فى اللغة، بل صارت مرتبطة بنقل المعنى ذاته والمعرفة، فى زمن أصبحت فيه جهالة الآخر قاعدةً لا استثناء. خلال لقائنا، قال لى سينويه بعبارة جارحة، لكنها فى نظره تصف انقسامًا لم يُحل بعد: «الغرب مصاب بجنون الارتياب، والشرق مزدوج الشخصية.» كلمات تعكس، من وجهة نظره، صدعًا فكريًا ونفسيًا عميقًا، وجعل من كتابه هذا محاولة للمصالحة، وفعلًا للذاكرة والوعى معًا. يتحدث عن هذا الدور المحورى فى أوكسفورد على ضفاف دجلة ليس من قبيل المصادفة أن بيت الحكمة فى بغداد، أحد أعظم مؤسسات الفكر فى التاريخ الإنسانى، قد تأسس فى قلب المدينة. لم يكن مجرد مكتبة أو مركز ترجمة، بل معبدًا للفكر والنقاش والكتابة. كل مخطوطة كانت مقاومة للنسيان، وكل كتاب منسوخ كان شعلةً تنير الدرب. ومن بغداد، يأخذنا سينويه إلى قرطبة، مرآة الأندلس ونظيرها فى التوهج الثقافى. لم تكن قرطبة فقط جامعًا ومكتبات، بل كانت أيضًا أصوات نساء فى فصله شاعرات ومتمردات حرّة، شاعرة، عميقة. من بينهن ولّادة بنت المستكفى، الأميرة الشاعرة، التى لُقبت ب»سافو العرب»، والتى كتبت على جدران قصرها: « والله إننى لُخلقتُ للمجد، وأسيرُ بفخرٍ فى طريقى.» لم تعد البيئة مجرد ديكور، بل ذاكرة حسية. كانت القصيدة أداة حوار مع الكون، مع الذات، ومع الصمت. كأنها كانت تكتب بعطر زهر البرتقال، وبهمس النسيم فى السرو. قال لى سينويه فى لقائنا: «الكتابة وسيلة أخرى لقول ما تم إسكاتُه، ليست فقط لما قيل.» وأضاف: «جيل اليوم من العرب، البعيد عن تراثه، لا يستطيع أن يتحاور مع الآخر إن لم يعرف ذاته أولًا». وكان يؤمن أن المعرفة الحقيقية تبدأ من الداخل. فى فصول لاحقة، يُنير سينويه دروب الذاكرة بإحياء أسماءٍ طال نسيانها، لكنها كانت أعمدةً فى مجالات الجغرافيا والملاحة والفكر. مختارات فى روائع العباقرة المسعودى، الإدريسى، ابن ماجد — أصواتٌ لا تزال تتردد فى أروقة الزمن، حين كانت المعرفة فعل إيمان، لا هروبًا من الواقع بل استجابةً له. ويتحدث عن كتاب «الحيل»، موسوعة ميكانيكية تصف مئة آلة ليس للسيطرة، بل لفهم قوانين الطبيعة. أما خرائط الإدريسى، فلم تكن رسمًا جغرافيًا فحسب، بل إعلانًا شعريًا وسياسيًا: أن «الآخر» موجود، ويستحق أن يُعرف. وفى صوت ابن ماجد، بحّار الصحراء المائية، تهب رياح التعايش، وتمتد الأشرعة نحو حوار كونى، لا صراع فيه بل تبادل. ويؤكد سينويه أن العصر الذهبى للحضارة الإسلامية لم يكن فقط زمن علم، بل زمنٌ كانت فيه معرفة الآخر واجبًا أخلاقيًا، وسدًا أمام الخوف والكراهية. كما قال ابن رشد: «الجهل بالآخر هو أول أسباب الكراهية.» ويعيد سينويه تذكيرنا بأن الإيمان الحقيقى لا يناقض العقل، بل يُنيره، وأن حرية التفكير هى أساس الإيمان الصادق. لغة الحوار يومًا كانت العربية، لغة أعادت الحياة للفكر اليونانى، وأتاحت للفلاسفة التعبير، وأقامت جسرًا حيًا بين الشرق والغرب، دون أن يُلغى أحدهما الآخر. والعلم، كما يقول، لم يكن مجرد معرفة، بل أداة حوار بين الحضارات، ووسيلة للاعتراف بعقلانية الآخر، كما يظهر فى سيرة ابن سينا، الذى جمع بين الفلسفة والطبيعة، بين الإيمان والعقل. هذا الفكر الغنى امتد حتى إدخال الأرقام العربية فى أوروبا، والتى غيرت مجرى الرياضيات. ومن قرطبة إلى بغداد، حمل العلماء والفلاسفة والمترجمون — من المسلمين واليهود والمسيحيين — مشعل الفكر، رغم الانتقادات التى ظهرت لاحقًا على لسان شخصيات مثل رولان بارت وأدورنو. ويشير إلى أن الملك هنرى الثانى استُشير لقراءة كتب عربية فى الطب والفلك، وأن 76 كتابًا تُرجم من العربية وأثّر فى تشكيل الفكر الأوروبى الحديث. فى أحد الفصول المؤثرة، يتحدث سينويه عن دور المفكرين العرب فى بناء منهجية منطقية عقلانية، وأمثال الرازى الذين كانوا روادًا فى التشكيك البنّاء، ناقدين للسلطة العلمية القائمة، واضعين أسسًا أخلاقية سابقة لعصرهم. وابن النفيس سبق هارفى فى فهم الدورة الدموية، وابن طفيل حكى قصة «حى بن يقظان» كمجاز لرحلة المعرفة، وابن الهيثم أسس المنهج التجريبى، وابن خلدون وضع حجر الأساس لعلم الاجتماع. فى مواجهة الأصوات الغربية التى وصفت هؤلاء بالماضويين أو «متطرفى التقاليد»، يردّ سينويه: لم يكونوا رجعيين، بل مبتكرين، حفروا فى التراث وأعادوا صياغته، وتحاوروا مع اليونان وأعطوهم روحًا جديدة. وفى زمنِ الأزمةِ الهُويّاتيّة والمعرفيّة التى يعيشها جزءٌ من العالم العربى اليوم، يرى جيلبير سينويه أن هذه الذاكرة ليست مجرّد حنين، بل هى ضرورةٌ معاصرة، ونقطةُ انطلاقٍ نحو المستقبل، ودعوةٌ للعودة إلى جوهرٍ نسيه كثيرون. ويختم مؤكدًا على أهمية تحقيق التوازن فى السلوك الإنسانى بين العلم والمعرفة، والعقل والإيمان. نحن اليوم، أكثر من أى وقتٍ مضى، فى أمسّ الحاجة إلى إعادة قراءة ماضينا وفهم تاريخنا بعمق، حتى نتمكّن من التقدّم نحو المستقبل برؤية بنّاءة، تتيح لنا وضع أسسٍ جديدة لتفكيرٍ عربى معاصر، فى خضمّ تساؤلاتٍ كبرى تعصف بالهويّة، وتحدياتٍ غير مسبوقة مرتبطةٍ بالتحوّل التكنولوجى المتسارع، وانتقال المعرفة، والأزمة المناخية، والتقلّبات الجيوسياسية المتسارعة. فكيف يمكننا، فى ظلّ هذا السياق المتغيّر، أن نعيد بناء الجسر بين الذاكرة والحداثة؟ وكيف نؤسّس لحوارٍ حضاريّ يُنير طريقنا، ويمنحنا الأدوات اللازمة لفهم العالم، وصياغة موقعٍ فاعلٍ لنا فى قلبه؟