بعد فترة من الترقب وحبس الأنفاس، قرر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الدخول في الحرب الإسرائيلية الإيرانية، جاء قراره رغم معارضة كبيرة أبدتها حركته السياسية الداعمة له بالأساس "اجعلوا أمريكا عظيمة مجددا" أو ما يعرف ب"ماجا"، وأول المبادئ التي ترتكز عليها هذه الحركة هو الانعزالية في السياسية الخارجية والتركيز على ما يقع في صلب مصالح الأمريكيين وعدم الالتفات إلى التحالفات المكلفة للأمريكيين، ومن هذا المنطلق، راجعت الإدارة الأمريكية تحالفاتها التقليدية، فلم تكترث مثلا بأمن الأوروبيين أو الحفاظ على علاقات وثيقة معهم مما قسم فعليا الجبهة الغربية. ما سبق يعنى أن ترامب المعروف بتجاوزه للمؤسسات وللأعراف التقليدية في السياسة الخارجية وانحيازه لرؤيته الشخصية دون الالتفات لأى أحد أو شئ آخر، قد طبق بالفعل ذلك فى الفترة السابقة إلى حد اصطدامه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سرًا، وعلنًا فيما يخص الرؤية تجاه إيران. وكان التطور السريع للأحداث التي وقعت منذ اندلاع المواجهة بين إسرائيل وإيران فجر 13 يونيو الجارى، قد كشف عن عدة أمور، أولها أن ترامب لم يخطط للدخول والمشاركة فى الحرب منذ يومها الأول، حيث إن التحركات العسكرية الأمريكية التى رصدتها التقارير حدثت بعد ذلك بأيام، ويمكن تفسير ذلك بمدى نجاح الجانب الإسرائيلي- المستغيث بالأمريكيين- فى إقناع واشنطن بضرورة دخولها الحرب لمواجهة أضرار ستطولها بين وقت وآخر. وفي ذلك السياق، تزامن تحرك حاملة الطائرات نيميتز من منطقة بحر الصين الجنوبى باتجاه بحر العرب بعد تهديدات مقتضبة صدرت من مسئولين إيرانيين بغلق مضيق هرمز الاستراتيجى فى حركة النفط عالميًا، أى أن ترامب قرر دخول الحرب فى وقت لاحق على اندلاعها. ◄ اقرأ أيضًا | 12 يومًا من الحرب بين إسرائيل وإيران ◄ حسابات مُعقدة الأمر الثاني، أن قرار ترامب جاء بعد حسابات مُعقدة، ففى البداية بدا أن ترامب يحاول مسايرة الأمر الواقع والحرب التي أصرت عليها إسرائيل، عبر توظيفها لخدمة أهدافه السياسية، فترامب حاول تصوير الحرب بالنسبة للإيرانيين على أنها دليل مصداقية تهديداته السابقة لهم لتقاعسهم في المفاوضات النووية وإصرارهم على عدم تقديم تنازلات، وكأن ترامب يقول للإيرانيين: «كان يجب عليكم تصديقى أن البديل للتفاوض هو الحرب»، وربما ظن ترامب أن ضربات إسرائيل قد تلين الموقف السياسى في طهران وتدفعها للتفاوض.. ولذلك طلب منهم «الاستسلام»، لكن ما لم يتوقعه ترامب كانت الضربات الندية والعنيفة التى شنها الجيش الإيرانى ضد الأهداف الإسرائيلية بكل قوة، بما حول مناطق فى مدن إسرائيل لكومات من الأنقاض. لم يتوقع ترامب، أن تتلقى إسرائيل هذه الضربات القوية. وتزايدت مساعي استمالة الإدارة الأمريكية للدخول في الحرب. وأفاد موقع أكسيوس نقلا عن مسئول إسرائيلى لم يكشف عن هويته بأن الرئيس ترامب تحدث مع نتنياهو بعد اجتماعه مع فريق الأمن القومي في البيت الأبيض في أعقاب مشاركته في قمة السبع فى كندا وذلك لمناقشة الحرب المتصاعدة بين إسرائيل وإيران. قبل الاجتماع، صرح 3 مسئولين أمريكيين بأن ترامب يدرس بجدية الانضمام للحرب وشن ضربة أمريكية على منشآت إيران النووية، وخاصة منشأة «فوردو» المحصنة تحت الأرض. لكن تقارير أعقبت الاجتماع كشفت أيضا ل«أكسيوس» عن مصادر مطلعة أن الولاياتالمتحدة تدرس إمكانية تسليم إسرائيل قنابل خارقة للتحصينات كأداة ضغط على إيران. وأوضحت المصادر أن «ترامب يعتبر القنابل المضادة للتحصينات اللازمة لتدمير منشأة التخصيب تحت الأرض فى فوردو، والتى تمتلكها الولاياتالمتحدة، أداة ضغط رئيسية لإجبار إيران على إبرام صفقة». ويتضح بذلك الهدف الأصلي لترامب وهو إبرام صفقة نووية ينتزع فيها من إيران كل التنازلات الممكنة دون أن يدخل بلاده الحرب معها، ومع ذلك، فلا يملك ترامب رفاهية ترك إسرائيل لهزيمة كاملة أمام إيران، حتى لا تخرج طهران من الحرب كعملاق إقليمي منتصر ذى طموحات نووية. ومن ثم، فالرئيس الأمريكى قد يقدم كل الدعم الممكن لإسرائيل حتى لا تنهزم أوحتى تطلب إيران وقف الحرب مقابل تقديم تنازلات نووية جوهرية وما هو يفسر طلب ترامب لطهران بالاستسلام غير المشروط. وفى منشورات على منصة تروث سوشيال، هدد ترامب إيران بشكل صريح، قائلاً إن «السماء فوق إيران باتت تحت السيطرة الكاملة»، وأضاف موجهًا كلامه للمرشد الإيرانى: «نعلم أين يختبئ... لكنه بأمان، حتى الآن»، قبل أن يختتم منشوراته بعبارة: «الاستسلام غير المشروط». ◄ اقرأ أيضًا | ◄ المستوى الشعبي لم يكن ترامب يبدو حاسمًا لرأيه بالدخول فى الحرب، لاسيما مع معارضة داخلية قوية، سيكون عليه الآن مجابهتها، حيث إنه على المستوى الشعبى فى أمريكا، لا يعرف الأمريكيون حتى الآن ما قد يكون الهدف من الحرب، هل هو تغيير النظام فى طهران؟ أم القضاء على البرنامج النووى. ووفقًا لمحللين أمريكيين، فإن خبرة واشنطن فى تغيير الأنظمة السياسية في العراق وأفغانستان كانت فاشلة، كما أن القضاء على المرشد الإيرانى الأعلى على خامنئى - كما يرغب نتنياهو- لا يضمن تغيير النظام السياسى فى إيران ولا يضمن القضاء على الطموحات النووية والبرنامج النووى للبلاد، ومن ناحية أخرى، فالخيارات فى التعامل مع البرنامج النووى الإيرانى لا تقتصر على العمل العسكرى بل تضم أيضا المفاوضات الدبلوماسية والتى شرع فيها ترامب بالفعل، إذن فالحرب غير ضرورية بالنسبة لواشنطن ما دامت الأزمة يمكن حلها بطرق أخرى، كما أن الضربة التى شنها ترامب بالفعل فجر الأحد على ثلاث من منشآت إيران النووية لم تقض عليها بالكامل، وعلاوة على ذلك فقد أكدت إيران أنها كانت نقلت مخزوناتها من اليورانيوم المخصب إلى أماكن أخرى قبل الضربة، وترامب نفسه يعلم ذلك، بدليل أنه لايزال ينتظر الإيرانيين على طاولة المفاوضات، فإن كان قضى على برنامجهم النووى فما حاجته إلى التفاوض بعد ذلك.؟ ◄ السيناريوهات المتوقعة أما الملاحظة الثالثة، فتتعلق بالسيناريوهات المتوقعة، وفى الواقع، ومع وجود شخص مثل ترامب على رأس السلطة الأمريكية فإن كل الاحتمالات واردة، وستتكشف الحقائق لنرى هل ستصعد إيران وتستهدف مصالح أمريكية ردا على ترامب أم لا. والواقع أن ايران سيكون عليها الرد على خطوة ترامب سياسيا أكثر منها عسكريا، فوفقا لتقديرات المراقبين، فإن تدمير المنشآت النووية لا يمكن أن يقضى على البرنامج والطموح النووى لدى إيران، وبالتالى، فإن دخول أمريكا الحرب كان خطوة سياسية عدائية أكثر مما كانت عسكرية مؤلمة، كما بدت لتكون تصعيدا عسكريا أمريكيا محدودا ومصمما بدقة ليضع حدا للحرب وينهيها بدلا من أن يوسعها، ترامب نفسه عشية الضربة صرح بأنه أحيانا تكون الحروب مفيدة لصنع السلام، ومن ثم فقد قام بما يظن أنه سيكسر شوكة الإيرانيين ويجبرهم على التفاوض. ترامب، ليس من نوع القادة المحبين للحروب، فقد نسق بنفسه الانسحاب الأمريكى من أفغانستان وكذلك العراق، كما شدد لمواطنى بلاده على أنه لن يدخل بلاده فى حروب. ومن ثم فلا يتوقع أن ترامب شن ضربته إلا ليؤدى ما تمنى من إسرائيل أن تؤديه وفشلت فيه: كسر شوكة الإيرانيين لإجبارهم على التفاوض. ◄ الاصطفاف الدولي أما الملاحظة الرابعة، فتتعلق بنذر الاصطفاف الدولى الناشئ، وفى حين أن الحياد فى ظل أزمة مثل تلك رفاهية لا تملكها الدول لاسيما دول المنطقة، فإن الأطراف الدولية أيضا قد نظموا صفوفهم ليتخذوا مواقف تناصر أحد طرفى الحرب، لكن مع التحذير الكامل من اتساع المواجهات العسكرية. وكانت الملفات الدولية وقضايا التماس قد طغت على حسابات الأطراف فى ذلك الاصطفاف لتملى على كل الأطراف مواقفها من الحرب الجارية. بالنسبة للأوروبيين، فيبدو هؤلاء ملتفين حول إسرائيل، وقال تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال إنه رغم تصاعد الغضب الأوروبى من الحرب الإسرائيلية فى غزة، أبدت حكومات أوروبا دعمًا دبلوماسيًا لإسرائيل فى صراعها مع إيران، معتبرة أن منع طهران من امتلاك سلاح نووى أولوية مشتركة، وخلال قمة مجموعة السبع فى كندا، أشار المستشار الألمانى فريدريش ميرتس إلى أن «إسرائيل تقوم بالعمل القذر نيابة عن الآخرين»، مؤكدًا احترامه لشجاعة الحكومة والجيش الإسرائيليين فى مواجهة إيران، وكانت بريطانيا وفرنسا وألمانيا قد أعلنت قبل الهجوم أن طهران لا تفى بالتزاماتها فى مجال السلامة النووية، وكانت تأمل أن يدفعها التهديد بفرض عقوبات جديدة إلى العودة للمفاوضات، ورغم دعوة الاتحاد الأوروبى إلى وقف التصعيد، فقد أكد التزامه بمنع إيران من امتلاك سلاح نووى. ووفقا للتقرير، ففى الوقت الذى تضعف فيه العلاقات الأوروبية مع إسرائيل بسبب حرب غزة، لا تزال أوروبا تميل لمساندة إسرائيل فى مواجهة إيران، بشرط عدم تجاوز الخطوط الحمراء، وهو إذا فشلت إسرائيل فى تحقيق نتائج حاسمة أو أدّت أفعالها إلى كارثة إقليمية أوسع، وكانت رئيسة المفاوضية الأوروبية برئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو فى أعقاب الضربات الإسرائيلية على مواقع إيرانية، وصرحت بتأييدها «حق إسرائيل فى الدفاع عن النفس»، كما عرض الاتحاد الأوروبى، المساعدة فى مكافحة التلوث الكيماوى والنووى فى إيرانى إذا اختارت إسرائيل مهاجمة أحد المفاعلات النووية فى إيران. في المُقابل، تتكشف ملامح الجبهة الداعمة لإيران، وحذرت موسكو، من زعزعة حقيقية لاستقرار المنطقة، وأكدت على حق ايران فى تطوير طاقة نووية سلمية ونددت بالهجمات على المنشآت النووية الإيرانية، ووصفتها بأنها «غير قانونية» وتؤسس لتهديدات غير مقبولة للأمن الدولى وتدفع العالم إلى كارثة نووية»، لكن الموقف الروسى الذى بدا «لطيفا» يمكن تفسيره بشكل خاص، فقد وقفت موسكو بجانب إيران بقوة وبشدة فى اكتوبر الماضى إبان جولة مواجهة بين إيران وإسرائيل، لكن الموقف الروسي هذه المرة كان أقل حدة، ويمكن تفسير ذلك بعدم رغبة موسكو فى خسارة التفاهمات التى بنتها مع إدارة ترامب بخصوص الملف الأوكرانى وهو الأولوية لدى روسيا، فلن تخاطر موسكو بإبداء العداء للرئيس الأمريكى فيما يتعلق بالوضع فى منطقة الأوسط تجنبًا لإحداث شرخ جديد فى العلاقات قد يلقى بظلاله على الموقف الأمريكى المتشدد مع كييف. ◄ الزعيم النازي أما تركيا التى وصف رئيسها رجب طيب أردوغان الهجمات الإسرائيلية ضد إيران بأنها «إرهابية»، واعتبر أن نتنياهو تجاوز الزعيم النازى أدولف هتلر فى جرائمه، فلا يمكن فصل موقفها السياسى من الاطار العدائى الناشئ بينها وبين اسرائيل فيما يتعلق بسوريا، وقد نددت أنقرة بمحاولات لتقسيم المنطقة من جانب إسرائيل وذلك على نمط معاهدة سايكس بيكو الشهيرة القديمة. ولا يخفى على أحد رغبة إسرائيلية شديدة فى تقسيم سوريا وعمل دولة للأكراد والدروز.. إلخ، وأعرب أردوغان فى تصريح عن أمله بأن «يحاكم نتنياهو بالمحاكم الدولية قبل أن يموت»، مشيرا إلى أن تصرفات إسرائيل هى «تصرفات قطاع طرق، وإسرائيل المدللة من الأطراف الغربية، تستمر بمخالفة القانون الدولى»، وشدد على أن «دفاع إيران عن نفسها ضد هجمات إسرائيل هو حق مشروع لإيران»، مؤكدا أن «إسرائيل تنفذ هجمات إرهابية، والمجتمع الدولى والمنظمات الدولية تلتزم الصمت الكامل». أما الصين، فقد رفض رئيسها شى جين بينج أى عمل ينتهك سيادة الدول، كما عبّر وزير الخارجية الصينى وانج يى عن «غضب» بكين خلال مكالمة مع نظيره الإسرائيلى، جدعون ساعر، مشيرًا إلى أن الهجوم غير مقبول خصوصًا فى ظل الجهود الدولية لإيجاد حل سياسى للملف النووى الإيرانى، كما سبق أن تواصل مع نظيره الإيرانى، عباس عراقجى، ليؤكد دعم الصينلطهران. ومن وجهة نظر الصين، تمثل الهجمات الإسرائيلية مثالاً على «ازدواجية المعايير» فى نظام عالمى تهيمن عليه الولاياتالمتحدة، حيث يُسمح بانتهاك القانون الدولى مادام الفاعل حليفا لواشنطن، التى توفر له السلاح والحماية، لكن ورغم دعمها الاقتصادى القوى لإيران، تكتفى الصين بخطاب يهاجم «الهيمنة الأمريكية»، لكنها تتجنب التصعيد المباشر أو اتخاذ خطوات عملية، فالصين وإن كانت أولويتها الأولى هى إمدادات النفط الإيرانى، إلا أن انخراط الولاياتالمتحدة فى صراع بالشرق الأوسط، سيسهل على الصين مهمة ضم تايوان التى قد لا تجد حينها من يدافع عنها أو يلتفت لها، الرئيس الأمريكى نفسه صرح فيما مضى بأنه لا يرى نفعا من انخراط الجيش الأمريكى فى مواجهة مستعرة أمام الجيش الصينى بسبب تايوان.