تفاجأ الكثيرون بتأكيد الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، علمه ومباركته لكل تفاصيل الهجمات العسكرية الإسرائيلية على إيران فجر يوم الجمعة 13 يونيو 2025، بينما كان يتحدث علانية قبل اندلاع هذه الحرب عن إمكانية نجاح الجولة السادسة من المفاوضات مع إيران بالعاصمة العُمانية مسقط. وجاءت المفاجأة لكل الذين اعتقدوا بوجود خلافات جوهرية بين واشنطن وتل أبيب حول الملف النووى الإيرانى؛ حيث ساد اعتقاد لوقت طويل بأن ثمة أجندة أمريكية للتعاطى مع البرنامج النووى الإيرانى تختلف فى الأدوات والأهداف عن نظيرتها الإسرائيلية، وكان الحديث وقتها عن أن ترامب يفضل الحل الدبلوماسى لهذه الأزمة عبر المفاوضات، وأنه يكبح جماح رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، الذى كان يراهن فقط على العمل العسكرى ضد إيران. وفى هذا الإطار، تثور تساؤلات بشأن كيفية تفكير ترامب فى الحرب الحالية بين إسرائيل وإيران، وهل يأخذ فى اعتباره مصالح الأصدقاء والحلفاء فى منطقة الشرق الأوسط؟ وإلى أى مدى تُشكل رؤية ترامب والخيارات المتعددة التى قدمها الجنرال مايكل كوريلا، قائد القيادة المركزية الأمريكية، محاور الاستراتيجية الجديدة لواشنطن إزاء طهران؟ دعم أمريكى: بعد الضربة الافتتاحية الإسرائيلية على إيران، جدد ترامب دعمه «الكامل وغير المشروط» للعملية العسكرية الإسرائيلية، قائلًا: «إننى أدعم إسرائيل كما لم تدعمها أى حكومة أمريكية من قبل»، وحذّر من تدمير كل شىء فى إيران إذا لم تتوقف عن الهجوم على إسرائيل وتذهب إلى طاولة التفاوض. وترافق ذلك مع مشاركة الولاياتالمتحدة فى إسقاط الصواريخ الباليستية والطائرات المُسيَّرة الإيرانية التى استهدفت إسرائيل منذ بداية هذه الحرب، وتأكيد طهران أن البيت الأبيض شريك رئيسى فى العمليات العسكرية الإسرائيلية، ليس فقط عبر تقديم الدعم المعلوماتى والاستخباراتى، وتفعيل إيلون ماسك خدمة الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية «ستارلينك» بعد أن قيدت الحكومة الإيرانية هذه الخدمة، بل أيضا من خلال منح الولاياتالمتحدة إسرائيل القنابل والذخيرة اللازمة لاختراق الدروع وتحصينات المفاعلات النووية الإيرانية مثل قنبلة «جى بى يو 28» التى يصل وزنها إلى نحو 6000 رطل، وقنابل «بلو 109» التى يزيد وزنها على 2000 رطل. وفى ظل التقديرات التى تؤكد أن الحرب تتجه نحو توسيع رقعة الضربات المتبادلة بين إيران وإسرائيل، سارع ترامب بتوجيه المدمرة «يو إس إس توماس هودنر» للإبحار نحو شرق البحر المتوسط، كما وجه البيت الأبيض مدمرة ثانية للتحرك فى اتجاه الشرق الأوسط، بالإضافة إلى توجه أكبر حاملة طائرات أمريكية «يو إس إس نيميتز» إلى بحر عُمان لتكون قريبة من إسرائيل والقواعد العسكرية الأمريكية فى المنطقة. حسابات ترامب: يمكن توضيح رؤية الرئيس ترامب للحرب الجارية بين إسرائيل وإيران فى النقاط التسع التالية: 1- الدبلوماسية القائمة على القوة: يؤمن ترامب بمبدأ «الدبلوماسية القائمة على القوة»، وسبق له أكثر من مرة الحديث عن هذا المبدأ. وبعد انتهاء مهلة ال60 يوما التى أعطاها فى إبريل الماضى لإيران لتفكيك البرنامج النووى الإيرانى أو الدخول فى الحرب، منح الضوء الأخضر لنتنياهو لضرب إيران فى فجر أول يوم بعد انتهاء هذه المهلة، وهى ثقافة أمريكية قديمة مرتبطة ب«الكاوبوى»؛ حيث يتم التفاوض دائما فى حضور الأسلحة. وهذا يُفسر دعوة ترامب للإيرانيين إلى استئناف المفاوضات بعد الهجمات الإسرائيلية، فهناك إيمان أمريكى عميق بأن الدبلوماسية لا يمكن أن تنجح أو تحقق أى نتيجة إلا بالضغط العسكرى؛ ولهذا يراهن ترامب على تعميق خسائر إيران بالحد الذى يدفعها من جديد إلى طاولة المفاوضات للقبول بالشروط الأمريكية والإسرائيلية. 2- حماية المواطنين الأمريكيين: هناك نحو 700 ألف إسرائيلى يحملون الجنسية الأمريكية؛ ما يجعل إسرائيل ثانى دولة بعد المكسيك تحتضن مواطنين أمريكيين، وحماية المواطن الأمريكى فى الداخل والخارج ركن رئيسى فى استراتيجية ترامب لتعزيز شعبيته الداخلية. وتكفى هنا الإشارة إلى أن ترامب دخل لأول مرة فى مفاوضات مباشرة مع حركة حماس لنحو أربعة أشهر؛ بهدف تأمين إطلاق سراح الجندى الإسرائيلى الذى يحمل الجنسية الأمريكية، عيدان ألكسندر؛ ولهذا يرى ترامب أنه بحماية إسرائيل من الصواريخ والمُسيَّرات الإيرانية يحمى آلاف الأمريكيين على الأراضى الإسرائيلية. 3- قضية انتخابية: يُعد دعم إسرائيل بشكل مطلق جزءا من التنافس بين الحزبين الديمقراطى والجمهورى، وكل هذا انطلاقا من رغبة الحزبين فى تعزيز موقفهما الانتخابى من خلال التقرب من المؤسسات الأمريكية الداعمة لتل أبيب فى الولاياتالمتحدة، مثل منظمة «إيباك». ويتفاخر ترامب بأنه أكثر رئيس أمريكى دعم إسرائيل خلال ولايته الأولى، عندما نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعترف بضم هضبة الجولان السورية إلى إسرائيل، وكذلك خلال ولايته الحالية عندما أعاد إرسال القنابل التى علقت الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة جو بايدن تسليمها إلى تل أبيب. 4- الدعاية للأسلحة الأمريكية: يُشكل نجاح إسرائيل فى قصف الأهداف الإيرانية، وتجاوز دفاعاتها الجوية، أفضل وسيلة تسويق ودعاية للأسلحة الأمريكية. وكان هذا واضحا عندما وصف ترامب الهجوم الإسرائيلى على إيران بأنه «ممتاز» لأنها تستخدم الأسلحة والذخيرة الأمريكية الأفضل فى العالم؛ حيث استخدمت إسرائيل فى الموجة الأولى من الضربات نحو 200 طائرة من طائرات «إف 16»، و«إف 35»، كما أن غالبية الذخائر الموجهة التى تستخدمها هذه الطائرات جاءت من مصانع شركات السلاح الأمريكية مثل «لوكهيد مارتن» و«جنرال ديناميكس» و«نورثروب غرومان». وبالفعل أشاد غالبية المراقبين العسكريين فى العالم بالذخيرة والطائرات الأمريكية التى استخدمتها إسرائيل فى الهجوم على إيران؛ حيث كانت الإصابات دقيقة بالرغم من أن الضربات كانت على بُعد 1500 كيلومتر فى مناطق غرب طهران، ووصلت إلى نحو 2000 كيلومتر فى الأهداف داخل طهران التى تقع شرق الحدود العراقية بنحو 450 كيلومترا، فضلا عن أن منظومات الدفاع الأمريكية الشهيرة مثل «باتريوت» و«ثاد» أدت دورا كبيرا فى إسقاط الصواريخ الباليستية والطائرات المُسيَّرة الإيرانية؛ حيث يُعد نظام «باتريوت» الأفضل عالميا لإسقاط الصواريخ والمقذوفات على ارتفاعات متوسطة، بينما يقوم نظام «ثاد» بدور بارز فى إسقاط الصواريخ بعيدة المدى وفرط الصوتية. وهناك مؤشرات تقول إن الطلب على الأسلحة الأمريكية سوف يزداد بعد نهاية الحرب الإسرائيلية الإيرانية؛ ولهذا ينظر ترامب إلى انتصار تل أبيب فى هذه المواجهة باعتباره انتصارا وتفوقا للسلاح الأمريكى. 5- تغيير فى الأدوات والأهداف: يكشف تحليل تصريحات وقرارات ترامب تجاه إيران منذ عودته إلى البيت الأبيض فى 20 يناير الماضى، عن تغيير كامل فى الأدوات والأهداف التى يؤمن بها ويعمل عليها. فالأهداف فى ولاية ترامب الأولى ركزت على التوصل إلى اتفاق مع إيران أكثر قوة من اتفاق (5+1) الذى وقّعه الرئيس الأمريكى الأسبق، باراك أوباما، فى يوليو 2015، وانسحب منه ترامب لاحقا فى مايو 2018، وكانت الأهداف تتعلق وقتها بتجنب الأخطاء التى كان يراها ترامب فى اتفاق 2015. واقتصرت أدوات ترامب فى ولايته الأولى على الضغط الاقتصادى والدبلوماسى عبر سياسة «العقوبات القصوى» على طهران بدايةً من نوفمبر 2018، وتصفير مبيعات النفط والغاز الإيرانية. ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض هذا العام، تغيرت الأدوات إلى إمكانية استخدام القوة والعمل العسكرى، بجانب الضغط الدبلوماسى والاقتصادى، وتحولت الأهداف من مجرد تحسين اتفاق عام 2015 إلى تفكيك البرنامج النووى الإيرانى بالكامل على غرار تفكيك نظيره الليبى. 6- القيادة من الخلف: السؤال الذى يطرحه الجميع فى الوقت الحالى: هل تنخرط الولاياتالمتحدة عسكريا فى الحرب الإسرائيلية- الإيرانية؟ من يراجع حقيقة موقف واشنطن يتأكد أنها داعمة لتل أبيب فى مجال الاستخبارات والمعلومات، كما تدافع منظومات «باتريوت» و«ثاد» الأمريكية عن إسرائيل، وتطبق الولاياتالمتحدة فى ذلك استراتيجية «القيادة من الخلف» دون أن تكون فى صدارة العمليات العسكرية ضد إيران. لكن فى حال فشل إسرائيل فى القضاء على البرنامج النووى الإيرانى، وقدرة طهران على «تعميق الألم» فى إسرائيل، ومقتل أمريكيين فى ضربات إيرانية، ووجود ضغط من أعضاء الكونجرس؛ فإن ذلك يمكن أن يدفع ترامب إلى الدخول مباشرةً فى الحرب لصالح إسرائيل. بيد أن هذه المعادلة محفوفة بالخطر؛ حيث إنها سوف تعنى أكثر من دخول واشنطن الحرب؛ لأنه فى هذا السيناريو قد تتحول الحرب الثنائية بين تل أبيب وطهران إلى حرب إقليمية واسعة؛ بسبب تهديد إيران باستهداف القواعد الأمريكية فى المنطقة، وهذا خيار لا يريده ترامب؛ لذا فإن أكثر الخيارات المتاحة لترامب هو دعم إسرائيل بكل شىء لتحقيق جزء كبير من أهدافها، حتى لا تضطر الولاياتالمتحدة إلى الدخول بنفسها على خط الصراع. 7- نزع ورقة من روسياوالصين: منذ انتصار الثورة الإيرانية فى عام 1979، تحولت طهران من المعسكر الغربى، واتجهت نحو الاتحاد السوفيتى السابق، ثم إلى روسياوالصين. وتقوم العقيدة السياسية الأمريكية على أن إيران مع روسياوالصين وكوريا الشمالية تعمل معا ضد المصالح الأمريكية فى العالم، وأن موسكو هى التى ساعدت طهران فى برنامجها النووى، خاصةً فى محطة بوشهر، بينما جاءت غالبية تكنولوجيا الصواريخ والطائرات المُسيَّرة الإيرانية من الصين. ويتهم البيت الأبيض إيران بأنها زودت روسيا بآلاف المُسيَّرات الانتحارية من طراز «شاهد» والتى تُطلقها روسيا على المدن الأوكرانية مثل كييف وخاركيف وأوديسا وسومى؛ ولهذا فإن إضعاف إيران يصب فى صالح تحقيق الأهداف الأمريكية ضد موسكو وبكين. 8- تعزيز الأحادية القطبية: لا يمكن وصف الحرب الإسرائيلية- الإيرانية باعتبارها صراعا ثنائيا أو تنافسا إقليميا ثنائيا، فهذه الحرب ترتبط بالمعادلات الدولية؛ حيث تصطف إيران مع الصينوروسيا من أجل إنهاء الهيمنة الأمريكية وسياسة القطب الواحد؛ لذا فإن إضعاف إيران هو بمثابة إضعاف لصوت قوى كان ضد الأحادية القطبية. 9- استدارة أمريكية: لأكثر من عقد ونصف ومنذ عام 2010 عندما كتبت هيلارى كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، مقالها الشهير «الاستدارة شرقا» فى عدد مايو من مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية؛ ساد اعتقاد بأن الولاياتالمتحدة تخرج من منطقة الشرق الأوسط، وتتجه نحو شرق وجنوب شرق آسيا؛ بهدف مواجهة الصين. لكن الانخراط الدبلوماسى الأمريكى، والذى يمكن أن يتحول إلى عسكرى فى أى وقت خلال الحرب الإسرائيلية- الإيرانية، يؤكد أن واشنطن عادت من جديد إلى المنطقة وأنها فى قلب «الاستدارة نحو الشرق الأوسط»، فى ظل المخاوف الأمريكية على أمن إسرائيل، وتنامى مصالح واشنطن الاقتصادية؛ وهو ما يجعل من الولاياتالمتحدة محور التفاعلات السياسية والاقتصادية والعسكرية فى الإقليم. خبير فى العلاقات الدولية ينشر بالتعاون مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة