دينا شحاتة ليست اللغة مجرد وسيلة تواصل، بل ساحة صراع بين من يملكون مفاتيحها ومن يُقصون منها عندما يُوصَف نص أدبى بأنه «ردىء اللغة»، أو تُمنع أغنية شعبية لأنها «خارجة عن الذوق العام»، علينا أن نتساءل: أى لغة هذه التى تُعتبر «فصيحة»؟ ومن يمنحها هذه الشرعية؟ هذا المقال يتبع رحلة «اللغة المهمَّشة» من هوامش الأدب إلى قلب الشارع، حيث تتحول العامية والكسر النحوى من علامات «ضعف» إلى أدوات مقاومة تزعزع اليقينيات اللغوية الراسخة. How Late It Was, How Late لم يكتب جيمس كيلمان بلغة غلاسكو العامية لأن فصحاه فى رواية خانته، بل لأنها كانت اللغة الوحيدة التى تعبر عن أبطاله وعالمه. لأنها لغة مقاومة للإنجليزية البريطانية الكلاسيكية التى كان يراها جميس كيليمان لغة استعمار. لغته هنا موقف سياسى ووجودى. وإذا كانت الرواية قد استخدمت العامية لمساءلة مركزية اللغة الأدبية، فإن أغانى المهرجانات تفعل ذلك بلغة الشارع الموسيقية. حين تنطلق كلمات مهرجان لحمو بيكيا أو إسلام كابونجا، لا تُعلن فقط عن نغمة جديدة، بل عن هوية رافضة لأن تُصفّى صوتها ليروق للذوق الرسمى. غالبًا ما يتجاوز الهجوم على هذه الأغانى اعتبارات الذوق فقط، ليطال أسئلة أعمق من له الحق فى التعبير، وبأى لغة؟ الرداءة؛ فى هذه الحالة، تُستخدم كوسم إقصائى، لكنها من وجهة نظر أخرى، هى بلاغة مضادة. هذا المقال ليس عن «انحدار اللغة»، بل عن انحدار احتكارها عن كيف يمكن أن تتحول الرداءة حين تُفهم كخروج واعٍ عن التنميط إلى تقنية مقاومة، وأحيانًا، إلى بلاغة مضادة تُهدّد المركز من الهامش. عندما يُوصَف نصٌ ما ب «الردىء لغويًا»، غالبًا ما يكون الحُكم محكومًا بذوقٍ مؤسسى: قواعد النحو، جزالة الألفاظ، البلاغة، بُعد النص عن «الركاكة»، والأهم من ذلك، مدى قربه من اللغة الرسمية أو الأدبية المقبولة. لكن، ماذا يعنى أن تكون اللغة «رديئة» أصلًا؟ ومن يقرر ذلك؟ فى قلب هذا التساؤل، يكمن افتراض مضمر: أن هناك نموذجًا واحدًا للغة الجيدة – فصحى متقنة، ذات معجم منتقى، وسياق تركيبى مستقيم. أى خروج عن هذا النموذج – العامية، العفوية، التكرار، الكسر النحوى – يُنظَر إليه كعلامة ضعف، لا كاحتمال بلاغى آخر. لكن الرداءة، حين تُعاد قراءتها من موقع المقاومة، تصبح شيئًا آخر: تشويشا استراتيجيًا،هدمًا لقواعد التسلط، إنها ليست نتيجة فشل تعبيرى، بل اختيار جمالى وسياسى. فى هذا السياق، تكون «اللغة الرديئة» مرآةً صادقة للفوضى، للانكسار، للمهمّش، لما لا يُروى عادةً. خذ مثلًا العامية الشعبية المصرية الأقرب على البذاءة فى بعض أغانى المهرجانات، أو اللغة المكسورة عند جيمس كيلمان التى وصفها بعض النقاد إنها « تخريب أدبى»، أو حتى مفردات العبث عند بيكيت من لغة مفككة من كلمات لا معنى لها — كلها نماذج تُظهر أن «الانحراف» اللغوى ليس مجرد خلل، بل أداة تشويش تهدم الاستقرار الزائف للبلاغة المتحكمة. الرداءة، إذن، ليست عيبًا بل موقف. لا تسعى لتكون جميلة بالمعايير التقليدية، بل كاشفة، فاضحة، وهذا هو مدخلنا لفهمها كتقنية مقاومة، لا كفشل لغوى. حين نصف لغةً بأنها «رديئة»، فنحن نُطلق حكمًا يتجاوز شكل الكلمات إلى جوهر السلطة. «اللغة الجيدة» فى السياقات الأدبية والتعليمية والإعلامية ليست محايدة، بل تنبثق من مركز يحتكر تعريف الجمال ويُقصى كل ما لا يشبهه. الرداءة إذًا ليست صفة لُغوية، بل علاقة قوى. لهجة المهمّش تُصبح «خطأً»، ولغة السوق تُصبح «انحطاطًا»، فى حين يُحتفى بلغة النخبة باعتبارها النموذج. لكن ماذا لو كانت هذه «الرداءة» استراتيجية؟ ماذا لو كانت شكلًا من أشكال المقاومة؟ فى هذا السياق، تبرز تجربة الكاتب الإسكتلندى جيمس كيلمان كعلامة فارقة على استخدام «اللغة الرديئة» ليس فقط كخيار جمالى، بل كتصريح سياسى ووجودى How Late It Was, How Late فى روايته لم يكتب كيلمان بالإنجليزية «الصحيحة» ولا حتى بالأسلوب المعتمد فى الأدب البريطانى، بل كتب بلهجة غلاسكو العامية، وهى لهجة طالما وُصِمت بأنها غير أدبية أو «فاسدة لغويًا». فى خطاب فوزه بجائزة البوكر عام 1994، قال كيلمان «أرى عملى جزءًا من تحرك أوسع نحو إنهاء الاستعمار وتقرير المصير» وفى تصريح آخر قال: ليس الأمر أن تتخذ قرارًا بتحدى التقاليد، لأنها فى الواقع ليست ذات صلة بك كفنان. كل ما عليك هو الاستكشاف، والمضى به إلى أقصى حد ممكن. هذه الجملة تختزل فلسفة كيلمان: المسألة ليست تمردًا واعيًا على الأدب الكلاسيكى، بل اعتراف بأنلغة المركز ببساطة ليست لغتك، وأن مقاومتها ليست موقفًا بل كانت واقعًا يوميًا. كأن كيلمان يُعلن أن اللغة ليست فقط وسيلة تعبير، بل ساحة صراع،استخدامه للهجة غلاسكو هو رفضٌ ضمنى لهيمنة: الإنجليزية القياسية، التى تمثل فى نظره لغة «الاحتلال الثقافى» الإنجليزى لإسكتلندا لذا فإن كتابة رواية بلكنة أهل الحى لم تكن خَيارًا «غريبًا»، بل الشكل الوحيد الممكن للصدق. هنا تبدأ «الرداءة» فى اتخاذ بُعد أخلاقي: هل نقبل أن نكتب بلغة الآخر حتى ننال الاعتراف، أم نكتب بلغتنا المكسورة، الحيّة، المهمّشة ونعيد تعريف معنى الاعتراف نفسه؟ إذا كان كيلمان قد استخدم اللغة «الرديئة» كجبهة مقاومة للاستعمار الثقافى، فإن صمويل بيكيت ذهب أبعد، وجرّد اللغة ذاتها من ادعاء المعنى، ليكشف أنها لم تعد قادرة على تفسير الواقع أو إسناد الذات فى مسرحيته الشهيرة «فى انتظار غودو»، نجد أنفسنا أمام حوار يدور فى الفراغ، شخصيتان تتبادلان الجمل المتكررة، الأسئلة التى لا تُجاب، والعبارات التى تُعيد إنتاج الصمت أكثر مما تملأه. هكذا تصبح الرداءة اللغوية عند بيكيت — من غموض وتشويش وتكرار عبثى — ليست فشلاً فى البلاغة، بل بلاغة للفش لذاته. إنها تقنية تُجسّد تشظّى الذات وفقدان المعنى فى عالم لا يقدّم خلاصًا، ولا حتى إجابات. وهى بذلك تتقاطع مع مفاهيم مسرح العبث، حيث تغدو اللغة غير قادرة على التواصل، ويصبح الصمت، أو التهتهة، أو اللغو، أدوات كشف، لا أدوات تغطية. فى السياق المحلى، تتجلّى هذه الأسئلة اللغوية بوضوح فى رواية مثل رواية « أم ميمى» لبلال فضل، فى مشهد أغانى المهرجانات، هذه الأغانى لا تخشى استخدام «رداءة اللغة» أو اللهجات الشعبية، بل تعتنقها كوسيلة صادقة، غير مدعية، وأكثر جرأة. للدلالة على الظروف الاجتماعية القاسية، وذكر أحياء محددة بأسمائها، فكما غنى حمو بيكا وإسلام كابونجا « أنا مش ديلر يا حكومة» «الكلام ع جرح غويط، الحكاية خلف الجدران» تكشف هذه الكلمات عن أوجاع يومية وتُقدم صوتًا للمهمشين والشارع الذى يُغيب فى الخطاب الثقافى السائد. فى هذه الحالة، الرداءة اللغوية ليست فشلاً، بل صرخة حية تتحدى النخبوية وتحطم حاجز الصمت الاجتماعى، محولةً الكلمات البسيطة إلى أدوات مقاومة ورواية حقيقة الحياة من الداخل. فى النهاية، تتجاوز «رداءة اللغة» حدود مجرد عيب لغوى أو ضعف فى الأداء، لتصبح أداة فنية وسياسية تناضل ضد قوالب السلطة والثقافة السائدة. اللغة المكسورة أو الشعبية أو البسيطة لا تقل بلاغةً عن اللغة الرسمية، بل قد تكون أكثر صدقًا وأعمق تأثيرًا لأنها تحمل فى طياتها صوت المهمش، وتمس حياة الناس اليومية بعمق. إذا كانت كلمات كيلمان تعبر عن التحرر من الاحتلال الثقافى، وكانت لغة بيكيت صدى للعبث الوجودى، فإن أغانى المهرجانات تعيد نبض الشارع إلى مسرح الحياة، تكسر بذلك احتكار اللغة الجميلة. ليست المسألة إذًا فى كسر القواعد بحد ذاته، بل فى طرح سؤال أعمق: من يقرر ما يُعدّ «لغة جميلة» وما يُعدّ «تشويهًا»؟ فى كل مرة يُتهم فيها نص أو أغنية بالرداءة، ربما يجدر بنا أن نتساءل إن كانت المشكلة فى اللغة أم فى الأذن التى اعتادت سماع نمط واحد فقط. فى الهامش، حيث لا يُكتب التاريخ الرسمى، تولد أحيانًا أشكال جديدة من التعبير — أكثر صدقًا، أكثر فوضى، وربما أكثر شاعرية أيضًا. الرداءة، حين تُفهم كخروج صادق عن التنميط، قد لا تكون ضعفًا فى التعبير، بل شجاعة فى قول ما لا يُقال، كما لم يُقل من قبل. لذا بدلًا من سؤال: «لماذا نكتب هكذا»، ربما علينا أن نسأل: لماذا تُكتب هذه اللغة؟ وضد من؟