تعد مونيكا حنا أحد أبرز الأكاديميين المدافعين عن التراث المصري، إذ اشتبكت لسنوات مع أغلب قضايا التى تمس الآثار والحضارة المصرية القديمة. لم تفوت أى فرصة أو مناسبة تقريبا إلا وعبرت عن انحيازها الواضح ليس فقط للتراث، بل بأحقية التواجد الإنسانى المصرى الممثل لهذه الحضارة. دائمًا ما طرحت على نفسها أسئلة حول أسباب غياب تمثيل المجتمع المصرى بالنسبة لعلم المصريات، واقتصار هذا العلم على الغرب وحده. ولم تتوقف عند حدود التساؤل، بل أرادت البحث ومن ثم الكتابة والتوثيق لتاريخ «العنصرية» التى تعرض لها المجتمع المصرى طيلة هذه السنوات، وحتى بعد أن تولت مصر إدارة آثارها عقب 1952، حيث ظلت المؤسسات الرسمية تعانى من «عقدة الخواجة»! وظلت تنظر للرجل الأوروبى الأبيض باعتباره الوحيد الذى يمتلك القدرة على الفهم والتحليل لحضارتنا. وامتدت الآثار الجانبية لهذا الاستبعاد لتشمل حتى المجتمعات التى تعيش بالقرب من المواقع الأثرية، لأن «فرص تعريفهم بما يمتلكونه من آثار وتراث لم تتح أبدًا». فى كتابها «مستقبل علم المصريات» الذى صدرت نسخته العربية مؤخرا عن «ديوان للنشر»، تحاول مونيكا حنا، العميد المؤسس لكلية التراث الحضارى بالأكاديمية البحرية، تفكيك السردية الغربية لهذا العلم الذى سيطر عليه الغرب لقرون. كما تحاول أيضًا تقديم رؤية حول مستقبله. التقينا بها سعيًا لفهم أعمق لوجهات النظر التى طرحتها. والتعرف -أيضًا- على رؤيتها حول ما تتبناه من آراء ورؤى تخص العمل الأثرى داخل مصر. فى كتابك طالبتِ أن يكون علم المصريات أكثر ديمقراطية وانفتاحًا على الناس وتحررًا من الاستعمار.. لكن فى المقابل وعلى الأرض فالآثار تدار منذ 70 عامًا من جانب مصريين. دعنا نتحدث بصراحة. أرى أن المجلس الأعلى للآثار يقوم بإعادة إنتاج الآلة الاستعمارية من خلال تفضيل الأجانب على المصريين، فضلًا عن عدم إتاحة المعرفة. أتذكر مثلًا مسألة تعمد المسؤولين السابقين غلق الأهرامات على المصريين يوم شم النسيم. هذه الممارسات تؤكد صحة ما أقصده. سياسة المجلس الأعلى للآثار لم تتغير، وهم يفضلون دائمًا الزائر الأجنبى عن المصري. وبخصوص رغبتى فى أن يكون علم المصريات أكثر ديمقراطية، فما قصدته هو ضرورة مشاركة المجتمع فى إدارة تراثه ومراعاة السكان المحليين من قاطنى المناطق المجاورة للمواقع الأثرية. تجاهلهم أصلًا لا يصب فى مصلحة الآثار. عندما تجاهلنا سكان نزلة السمان عند تطوير منطقة الأهرامات، تسبب الأمر فى أزمة كبيرة لم تحل حتى الآن.. يجب وضع كل المتعاملين مع الموقع الأثرى فى الحسبان لأنهم جزء أصيل من أى خطة لإدارة هذه المواقع. -إذن لماذا فشلنا فى تقديم رؤية مغايرة تختلف عن الرؤية الغربية؟ لأنه بمرور الوقت ترسخ عندنا إحساس أن الأجانب أفضل منا. وهذا يحدث على الأرض حتى الآن. كثيرًا ما نشاهد بعض الأشخاص «بياخدوا شغل الخواجات وبينسبوه ليهم». هذه الأمور كانت تحدث حتى وقت قريب. عبر الترويج لفكرة أن الاكتشافات الأثرية قامت بها بعثة أثرية مصرية خالصة. هذه البعثات لم تقدم علمًا أو تحليلًا للاكتشافات. جوهر مشكلتنا الأساسية أن إتاحة الفرص محدود جدًا، بجانب غياب التمويل. لكن فى المقابل يستطيع الأجنبى إنتاج معرفة وإجراء حفائر مستمرة بسبب تقديم التمويل اللازم، بينما على الجانب الآخر فهناك القليل من المنح تقدمها الجامعات المصرية. والحل؟ وضع بند لتخصيص ميزانية للبحث العلمي. حاليًا يحاول بعض الأكاديميين البحث عن تمويلات أوروبية وأمريكية. لكنها لن تغنى عن ضرورة تقديم الدعم. فالجهات الأوروبية والأمريكية ستظل تتحكم فى عمل الأفراد والمؤسسات إذا كانت تقدم لهم تمويلًا ودعمًا. لذلك أقترح عمل صندوق وقف للإنتاج الأثرى والإشراف عليه من جانب مؤسسات الدولة، أو إدارته على نموذج مكتبة الإسكندرية. -للنتقل لجزء آخر.. لم يعد ينظر لعلم الآثار حاليًا بشكله الكلاسيكى فقد تطور بشكل كبير وظهرت علوم أخرى مثل التراث.. أين نقف داخل مصر من هذه المتغيرات؟ حاليًا لا نقف عند أى جانب. نحن فى جانب لا يليق بحضارة عظيمة استوعبت هذا الكم الهائل من التراث والحضارات. لأن العالم تجاوز منذ سنوات فكرة الAntiquites؛ أى الآثار والأنتيكات. ورغم هذا تصر الوزارة على تسمية نفسها بهذا الاسم الذى عفا عليه الزمن. يجب الخروج لفكرة التراث وأن يكون مظلة لكل ما نمتلكه بدءًا بالمبانى التاريخية وصولًا للقطع الأثرية والمشغولات والصناعات الحرفية. ينبغى أن تكون جميعًا داخل منظومة واحدة «بتعرف تِكلم بعض». لكن على الأرض فالتراث المصرى دمه موزع بين القبائل بسبب تعدد الجهات الوزارات المشرفة عليه. ولكى نملك مجتمعًا متماسكًا يجب أن نضمن تفاعل الناس مع تراثهم بشكل صحي، وألا ينظر المواطن لتراثه بنوع من الشيفونية. يمكن استعمال التراث والاستفادة منه فى الاقتصاد القومي. ونحن فى ظرف اقتصادى لا يسمح بالتفريط فى أى من المواقع التراثية، بل يجب الاستثمار فيها لأن العائد المادى من التراث هو الأسهل من بين جميع الأنشطة التى نستثمر فيها. -إذن تعتقدين أن اللورد كرومر كان محقًا عندما وصف المصريين أنهم غير متحضرين للاهتمام بتراثهم بما يكفي؟ لا يزال بعض المسئولين فى الآثار يرددون هذه الكلمة حتى الآن. لكننى أختلف مع كرومر. لا يمكن أصلًا مطالبة الناس بالحفاظ والاحتفاء بأشياء لا يعرفون قيمتها. يجب أولًا إتاحة المعلومات وتعريف الناس بما يملكونه من تراث. والخطأ هنا يقع على عاتق من يقوم بإتاحة الموقع الأثرى أو التراثي. فضلًا عن أن علم المصريات لا يترجم ولا يكتب باللغة العربية باستثناء كتابات الدكتور حسين عبد البصير وبعض الكتابات الأخرى. وبشكل عام فالنشر يتم بالإنجليزية وهذا يؤثر على طريقة فهمنا لحضارتنا والمشكلة أيضًا أن إدارة المسئول المصرى للتراث بعد 52 لم تتغير، بل ظل يتمسك بإعادة إنتاج رؤية اللورد كرومر. وهذا ما يتفق مع النظريات الحديثة لأن الناس ما بعد الاستعمار بدأوا إعادة إنتاج السردية الاستعمارية تجاه شعوبهم؛ لذلك ما يجرى حاليًا هو إعادة إنتاج عقلية اللورد كرومر ولكن بصيغة مصرية، وهو ما أحاول محاربته. -لاحظت أن طريقة كتابة مقدمة الكتاب اختلفت تمامًا عن النص داخله رغم أنها كانت أفضل كثيرًا - من وجهة نظرى - بسبب أسلوبها البسيط فضلًا عن تسلسل الأفكار داخلها بشكل أكبر.. لماذا كتبتِ الكتاب بهذه الطريقة وما الذى أردتِ إيصاله؟ شرحت فى المقدمة دوافعى لكتابة الكتاب. لم أرد كتابة سيرة ذاتية. يمكن أن أقوم بالأمر فى مرحلة متأخرة من حياتى لكن ليس الآن. أردت شرح أسبابى حول ضرورة تغيير شكل علم الآثار فى هذه المرحلة، ومناقشة مستقبله. -دعينى أختلف معك فقد تحدثتِ داخل الكتاب عن تاريخ علم المصريات أما مستقبله فلم تناقشيه سوى فى عدد قليل جدًا من الصفحات.. لماذا وضعتِ هذا العنوان رغم أن الفكرة لم تناقش بداخله بشكل كبير وأقصد هنا مستقبل هذا العلم؟ لن نستطيع الحديث عن مستقبل العلم دون الرجوع لتاريخ الممارسات التى جرت فى الماضي. الهدف من دراسة التاريخ تقديمه بشكل نقدى عبر إعادة فهم الماضي. وهذا ما ناقشته، من خلال تحليل أسباب غياب تأثير المصريين على هذا العلم الذى قام أساسًا على سياسة تمييزية ضد المصريين. -لكنك فى المقابل تقدمين نفسك لأول مرة للقارئ العربى.. لماذا قمتِ بترجمة الكتاب، وهل تعتبرين أن تقديم نفسك للقارئ من خلال هذا العمل مرضيًا؟ أنا راضية عن التجربة لأننى كتبت ما أردت قوله. وما حدث أن دار «ديوان» اشترت حقوق الكتاب من الناشر الأجنبي. والهدف منه فتح مجال للحوار. وبالمناسبة لن أنزعج إذا قال لى أحد المتخصصين أن ما ناقشته ليس جيدًا. لأننى سأنتظر منه كتابة شيء مغاير، أو مماثل، ومتضاد. ما يهمنى خلق حوار جاد وحقيقى حول مستقبل هذا العلم وتقديم كتابات عنه، ونحن جميعًا فى النهاية نتعلم من بعضنا البعض. فالكتاب موجه بشكل أساسى للقاريء العادى المهتم بمعرفة الحضارة المصرية القديمة، وموجه أيضًا للمتخصصين. وهو مماثل لحجم رسالة ماجستير قدمت فيه رؤيتى عن علم المصريات، ومشكلاتى معه. أما بخصوص الترجمة فيمكننى بالطبع الكتابة بالعربية لكن عملية الترجمة ستوفر لى الوقت لإنجاز أشياء أخرى. وفى الفترة المقبلة أستعد للكتابة عن تاريخ نقدى لعلم المصريات، وآخر عن نفرتيتى وكلاهما سيصدران بالإنجليزية. -لكن منذ قليل تحدثتِ أن علم المصريات لا يكتب باللغة العربية وأن النشر بالإنجليزية يؤثر على طريقة فهمنا لحضارتنا.. ألا يبدو ذلك تناقضًا؟ لا ليس تناقضًا. قمت بتقديم نقد ذاتى لنفسى داخل الكتاب الأخير لأننى أكتب بالإنجليزية. لكن من المهم فهم السياق الذى أكتب من خلاله مع التأكيد أننى مستعدة فى أى وقت للكتابة باللغة العربية إذا عرضت عليّ دار نشر مصرية الأمر. فمشروعى حاليًا قائم على فكرة نقد الاستعمار لذلك من الضرورى الكتابة عنه بالإنجليزية. هذه الكتابات موجهة بشكل أساسى للدوائر الأكاديمية الغربية، التى من المهم أن تعرف ما نكتبه عنهم. -قضيتك الأساسية هى استعادة آثارنا من الخارج، لكن السؤال ماذا لو وافقت أوروبا وأمريكا منحنا القطع، هل نحن مستعدون لاستقبالها بشكل مناسب والترويج لها.. فالمعروف أن داخل مخازن الآثار آلاف القطع المكدسة، فضلًا عن صعوبة ترميم هذا الكم المهول.. هل تعتبرين أن فكرتك يمكن تنفيذها بشكل واقعى على الأرض؟ لا نطالب باستقبال كل القطع الأثرية المصرية الموجودة فى العالم. نريد استعادة قطع بعينها. هذه القطع تحديدًا لها علاقة بالظروف الاستعمارية والهيمنة الغربية على علم المصريات. لذلك نحاول كسر الهيمنة الغربية على تراثنا. من الضرورى إعادة إنتاج سرديتنا الخاصة بتراثنا الوطني. لنفترض أننا استعدنا رأس نفرتيتى من الخارج. فسوف يتيح ذلك تخصيص متحف لها مع إنشاء فنادق لخدمة السياح. هذه الأمور ستتيح إعادة إنتاج سرديات الماضى بصورة مختلفة، فضلًا عن التفاعل مع تراثنا اقتصاديًا وعقليًا وعاطفيًا وهى أمور ستغير من المجتمع نفسه. -المبادرات اللى أطلقتها لاستعادة القطع الأثرية طُرحت من قبل كثيرًا.. ما المختلف الذى تقدمينه؟ ما نقوم به مبنى على البحث العلمي. نقوم مثلًا بالرجوع للوثائق القديمة المتاحة فى جميع أراشيف العالم. نحاول أيضًا شرح الطريقة التى وصلت بها هذه المقتنيات إلى المتاحف الغربية. وتناقض الغرب مع نفسه. سأضرب لك مثالًا إذا أراد أحد رؤية رأس نفرتيتى فى برلين سيجد صعوبة فى استخراج تأشيرة الشنجن لدخول ألمانيا. وهذه الممارسات فضحت نوايا الغرب. الغرب الذى يزعم دائمًا أنه يتيح التراث للجميع عبر تصريحات فضفاضة ودبلوماسية. يقولون لنا إن نفرتيتى سفيرة لمصر داخل برلين. ولكننى أتساءل: هل يوجد سفير لدولة ما يعيش فى ناحية واحدة فقط؟ إذن وأين الترات الألمانى الموجود فى مصر؟ نحتاج لتفكيك السرديات التى خدعونا بها لسنوات. يجب الضغط على ألمانيا وغيرها من الدول لاستعادة آثارنا. قد يكون الضغط من خلال وقف البعثات الأجنبية. لكننى أميل لفكرة بناء جسور للحوار بشكل أكبر، والتوصل لاتفاق عبر التفاوض. -تحدثتِ فى الكتاب عن الاكتشافات التى يتم إعادة تدويرها بشكل مستمر.. ما الذى قصدتيه؟ هناك اكتشافات أثرية سابقة أعيد تدويرها خلال السنوات الأخيرة. هذه الأمور أضرتنا كثيرًا. لسنا فى حاجة أصلًا لاكتشافات من هذه النوعية لتوجيه نظر الناس للحضارة المصرية القديمة. ما نحتاجه ضمان عدم تعريض السائح لمضايقات. إنتاج المعرفة أهم من اكتشاف ذهب الفراعنة. فالمعرفة التى ننتجها عبر الحفائر العلمية والترميم السليم ستمكننا من جذب سائح واع يدرك قيمة ما نملكه. لسنا فى حاجة لاكتشافات جديدة نحتاج لعمليات إدارة وحفظ وتأهيل للمواقع الأثرية مع تقديم نشر علمى جيد. وللأسف الشديد فقد تضاءل علم الآثار بصورة لم تحدث من قبل خلال الثلاثين عامًا الماضية. ازداد حال مفتشى الآثار بؤسًا، ونهبت الآثار بشكل أكبر. كان بالإمكان منع هذه الممارسات لو تم تقديم رؤية حقيقية فى إدارة الملف. إذن فالحل ليس من خلال ارتداء ملابس إنديانا جونز، إنديانا الذى عرف كونه شخصية عملت على سرقة ونهب الآثار. يجب تغيير هذه الصورة لأنها أضرت هذا العلم كثيرًا. كذلك من الضرورى أن نضع الزائر المصرى على رأس أولوياتنا لأن ما يتم هو العكس إذ عادة ما يتم الاحتفاء بالزائر الأجنبي. مع ضرورة الابتعاد عن اختزال الحضارة المصرية القديمة فى فكرة الذهب والمومياوات. بينما يتم تجاهل الحياة العادية التى عاشها المصريون القدماء. فالترويج للحكايات الغرائبية وربط الحضارة المصرية القديمة بالذهب، دفع الناس للحفر خلسة بسبب الوهم الذى تم تصديره إليهم. - أنتِ منحازة دائمًا للدفاع عن التراث المصري.. كيف تديرين معاركك؟ أؤمن أن تغيير الأشياء يأتى عبر إثارة المشاكل. السكوت سيدفعنا إلى ترك علم المصريات يتضاءل. وسيحفز عمليات نهب وسرقة وهدم المواقع الأثرية. لكن المهم هو إدارة المشاكل من خلال التسبب فى «إزعاج» البعض. أؤمن أن توزيع الابتسامات وإمساك العصا من المنتصف لن يغير شيئًا. فالاشتباك وإثارة المشكلات منهجية يجب تطبيقها واتباعها لكسب مزيد من الأرضية لصالح التراث والآثار المصرية. -كنتِ أحد أسباب إزاحة الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيرى عن منصبه بعد واقعة «تبليط الهرم».. لماذا عارضتِ فترته؟ الخلاف لم يكن يومًا شخصيًا، لم نختلف مثلًا على منصب تنفيذى أو إدارى أو أكاديمي. أعرفه منذ كنت طالبة للدكتوراه وبالمناسبة هو من وافق على بحثى حول المقبرة رقم 14 فى البر الغربي. فقد أعطانى حينها قرار موافقة اللجنة الدائمة. وكانت هناك محاولات لإصلاح وضع الآثار خلال فترته خارج إطار وسائل التواصل الاجتماعي. لكنه لم يستجب؛ لذلك توجهت للكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ ومن ثم قادته واقعة تبليط الهرم لفقد منصبه. - أخيرًا دائمًا يتحدثون أن مونيكا تريد أن تصبح وزيرة للآثار.. ما ردك؟ لا أفكر فى المنصب وليست لديّ رغبة فيه.