شهاب طارق احتفت مؤخراً وزارة الثقافة بالكاتب الكبير محمد سلماوى بمناسبة بلوغه الثمانين عاماً، والذى اختار أن يكون خطابه على شكل «ديالوج» ليبوح من خلاله عن بعض من أحاديثه الجانبية التى يطرحها على نفسه حمل الحديث رؤيتين ربما نقيضتين، لكنه كان حديثًا واقعيًا إلى حد بعيد أكدت له نفسه مثلًا أن روحه ما زالت شابة، وأن آماله وأحلامه المستمرة تؤكد أنه لا يزال يحمل داخله روح «سلماوى» الشاب ابن العشرين عامًا. اللافت أيضًا خلال الاحتفالية ابتعادها عن المجاملات والتهنئات، التى عادة ما تميز الاحتفاء بتكريم الرموز. فخلال ثلاث ساعات تم مناقشة مشروع سلماوى الأدبي، والمسرحي، والقصصي، والنقدي، بشكل موسع وجاد من جانب مجموعة كبيرة من المتخصصين الذين قدموا العديد من الدراسات والأوراق البحثية حول كتاباته وإبداعاته الأدبية، والمسرحية. يقول سلماوى فى كلمته: حدثتنى نفسى المتمردة بأنها متعجبة من تلك التهانى الحارة والمتكررة التى يتفضل بها الأصدقاء والأحباب بمناسبة بلوغى الثمانين، بينما هى لم تصبها الشيخوخة من قريب أو بعيد. قلت لها: كيف لا تشعرين ب الشيخوخة، وقد وهن الجسد وصعبت حركته، حتى إن بعض الحركات التى كنت أقوم بها بتلقائية أصبحت اليوم تحتاج مناورات بهلوانية لإتمامها؟! فردت نفسى قائلة: وما لى أنا بالجسد؟ قد يكون الجسد الذى تتحدث عنه قد وهن أو مرض، لكنى أنا كما أنا، فليهنئك الناس بوصولك للثمانين، رغم أنك فى رأيى لا تستحق تهنئة على شىء لا فضل لك فيه، لكنى أؤكد لك أننى لم أتغير منذ أتيت إلى هذه الدنيا فى يوم السبت 26 مايو عام 1945. لا أكتمك سرًّا بأننى أصبحت أجد صعوبة فى القيام بأبسط الأشياء، وعلى سبيل المثال، فإنى بسبب تيبس المفاصل أعانى كل صباح، وأنا أحاول ارتداء جوربى. ردت نفسى غاضبة: أأحدثك عن إنجازات حياتك، فتحدثنى عن صعوبة ارتداء جوربك؟! قلت: معذرة، فهذا حديث بينى وبين نفسى، أبوح لك فيه بما لا أقوله لغيرك، هو حديث الثمانين، ولو كنت فى العشرين ما تحدثت به، لا لك ولا لغيرك. قالت نفسى: لا أود سماع هذا الحديث، إن كنت أنت فى الثمانين، فأنا ما زلت فى العشرين، بل أنا ما زلت تلك النفس التى ولدت فى الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم الذى ذكرته لك من عام 1945. لقد توسعت مداركى على مدى الأيام، وازدادت معارفى بمرور السنين، لكنى ما زلت كما أنا، أبصرك كل صباح بالحياة ومباهجها، وأذكرك بحبك للبشر، وإيمانك بقضاياهم، ورغم شكواك من وهن الجسد سأواصل إلهامك بالأعمال الأدبية التى تسعد بها الناس، لكن لا شأن لى بثمانينيتك هذه، فأنا ليس لدى تيبس فى المفاصل، ولا أشكو من صعوبة ارتداء الجوارب. قلت: كفاك سخرية ولا تضيفى للمآسى التى تحيط بى مزيدا من المعاناة، إن العالم الذى عرفته ينهار من حولى، يكفينى ما أرى من تفكك فى الوطن العربى، ووهن يفوق وهن جسدى، فى الوقت الذى تتواصل الفصول الوحشية لحرب الإبادة التى يتعرض لها الشعب الفلسطينى، بينما قادة العالم يلهون كالبهلوانات فى البيت الأبيض والميدان الأحمر وكل المقار السوداء فى العواصم الأوروبية؛ فينقلب الحق باطلا، والباطل حقًا. لينهى كلمته قائلًا: «أنا سعيد بتهانى الناس لي، ومعتز بمحبتهم الصادقة فتهانيهم ومحبتهم،هى التى تواسينى الآن فى ثمانينيتى». الكاتب والناقد أحمد فضل شبلول قال إن سيرة سلماوى الذاتية تتكون من جزأين وهما؛ «يومًا أو بعض يوم»، ومذكرات «العصف والريحان»، فالأخيرة لا تعبر فقط عن سيرته الذاتية بل هى بمثابة جزء من مذكرات مصر ثقافيًا وسياسيًا واجتماعيًا. إذ مزج سلماوى بين أحداث حياته الشخصية والأحداث الوطنية الكبرى التى شكلَّت تاريخ مصر منذ اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات وتولى مبارك الحكم وحتى قيام ثورة 25 وصعود حكم الإخوان ثم سقوطهم. ثم إقرار دستور 2014 الذى شارك فى كتابته وصياغته. من جانبه تحدث الناقد الأدبى الدكتور حسين حمودة عن رواية سلماوى الأخيرة «أوديب فى الطائرة» حيث قال إن الرواية تقطع عبر وقائعها وفصولها رحلة محتشدة بأحداث كبرى تراوح بين انتمائها لزمن الأسطورة القديم ووقائع وأحداث كبرى فى العقدين الأخيرين. كذلك فاسم الرواية ارتبط بالتحول والحركة والانتقالات من خلال تأمل ما يبقى وما يتلاشى من التجارب الكبرى. كذلك ففصولها تتصل بنوع من الدائرية. فالفصل الأول يجمع بين زمنين وطرفين مختلفين لكنه يضعهما معًا فى سياق واحد. أما الفصل الأخير فهو يعود إلى الحدث المرتبط بالفصل الأول بنوع من الدائرية لكنه يستكمل المسار. ومن خلال هذا البناء تنهض الرواية على مجموعة من الرهانات الأساسية. ومنها مثلًا قدرة الكاتب على الجمع بين البساطة والوضوح والجمال فى حيز واحد داخل تسلسل محكم من بداية الرواية وحتى نهايتها. أيضًا هناك رهان آخر يتمثل فى إشراك القراء لهذه الرواية فى إنتاج دلالاتها الأساسية. فلا يمكن أن ينهض هذا النص دون قراءته ودلالته واختلافات النظر فى وقائعه. الأمر الثانى هو أن الرواية تتقاطع مع ما يسمى بالروايات التاريخية. لكن تجاوزت الرواية هذه الوجهة لأنها استطاعت أن تتطل على زمنها الراهن، فهى تقدم مجموعة من الإمكانات لقراءها للقيام بنوع من المضاهاة بين التفاصيل التى تسوقها مقترنة بالأسطورة القديمة، وبين الوقائع التى نعرفها جميعًا خلال العصور الحديثة. الدكتور محمد أمين عبد الصمد، الباحث فى الأنثروبولوجيا الثقافية قال فى دراسته إن هناك تأثيرات واضحة للانتماء الفكرى الواضحة فى كتابات سلماوى، فهو يعبر عن قضاياه بأشكال كتابية متعددة. بل ويتعامل مع مدارس متنوعة فى الكتابة بدءً بالواقعية إلى الرمزية واللامعقول أو ما يطلق عليه البعض مصطلح العبث. فمسرحية «سالومى» مثلًا والتى تتحدث عن فتاة يهودية كانت سببًا فى قطع رأس يوحنا المعمدان. فقد استخدم سلماوى هذه التيمة بشكل بعيد عن التراث الدينى، وتعامل معها كتيمة تاريخية وأعطاها حرية شديدة فى توصيل خطابه وفكرته. وهذا يأتى من خلال وعيه فى التعامل مع التراث وتقديم رؤيته. الكاتب أحمد خميس قدم دراسة أيضًا قال من خلالها إن أعمال سلماوى دائمًا ما عبرت عن الكاتب المهموم بوطنه، إذ إن أعماله المسرحية هى لقاء مع الراهن الاجتماعى والسياسي. وهى فى حقيقة الأمر لقاء صادم مع الدولة، من خلال موضوعات يمكن أن تأخذ الوطن لآفاق وأبعاد جديدة. أيضًا فهو قادر على توظيف تقنيات السرد والبناء الدرامى، إذ ينطلق من موقف تقليدى معتاد إلى موقف عبثى يجبر من خلال المتلقى على مراجعة نفسه عبر التحليق بأجنحة الفانتازيا. الدكتور أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية قال إن سلماوى استطاع الحفاظ على الزخم الثقافى من خلال فعاليته وتأثيره الطاغى والمتوغل داخل الثقافة المصرية. فقد حضر بشكل مكثف. ويستطيع أى مثقف عربى أن يعى قيمة هذه التجربة الثرية والمتنوعة. فقد استطاع التنقل بسلاسة بين السرد القصصي، والمسرحي، والروائى، بجانب الكتابات النقدية، والتاريخية، والسيرة الذاتية. فهذه العملية ليست بالأمر السهل بطبيعة الحال. لكن ما لاحظته فى شخصية الأستاذ سلماوى هو انبهاره الدائم بالأشخاص أصحاب التجربة. فهو محب ولديه قدر كبير من السمو والرفعة، وهى أمور يمكن لأى شخص أن يتلمسها بمجرد الاقتراب منه.