من تماثيل النساء في العصور الحجرية إلى نقوش الحضارات القديمة، ومن فينوس وأفروديت، إلى أيقونات العذراء، قام الفنانون على مدار التاريخ القديم والوسيط بتصوير النساء، كرمز للجمال والمثالية والفضيلة، وأحيانا كمغويات، أو شيطانات، وهى رؤى لم تعبر غالبا عن حالات فردية، ولكن عكست ثقافات المجتمعات ورؤيتها للمرأة، ما يجعل الفن شاهدا على حراك التاريخ الاجتماعي، فيما يتعلق بأوضاع النساء، ومرآة لتحولات وصراعات تشابك فيها قضايا الجسد والسلطة والهوية. ◄ هي في تاريخ الفن: جميلة وفاضلة وشيطانة! ◄ تماثيل العصور الحجرية تعكس قداسة الأم الكونية الكبرى ◄ تماثيل المصريات أظهرت حضورها الاجتماعي بالعودة للبدايات الأولى للفن البشري قبل عشرات الآلاف من السنين، حيث التماثيل الصغيرة المحمولة التي تجسد النساء، والتى يرجع عمر بعضها لأكثر من 30 ألف سنة، فإنها تعطينا لمحة وفق أغلب الباحثين عن ارتباط النساء بالقداسة استنادا إلى رمزية الخصوبة، والتى تتجلى في تضخيم العلامات الأنثوية، كما فى تمثال «فينوس ويلندورف» 28 ألف سنة، وغيره من القطع التي عثر عليها على مساحات شاسعة تمتد من حوض المتوسط إلى سيبيريا، وتربطها الباحثة «ميرجا جيمبوتاس» مباشرة بعبادة الأم الكبرى كإلهة كونية، ومع ذلك فليس لدينا يقين حول تفسير تلك القطع ولا حتى الغرض منها، نظرا لغياب المعلومات، وعدم معرفتنا بالسياقات الثقافية لتلك العصور. ■ امرأة تطحن الحبوب من الدولة القديمة ◄ تحول وبخلاف التماثيل فإن رسوم الكهوف من تلك الحقبة نادرا ما صورت النساء بشكل واضح، وانصب اهتمامها على الحيوانات ومشاهد الصيد. ومع ذلك هناك رسوم كالمرأة برأس طائر فى كهف «لاباسيجا» بإسبانيا. ويفسره «ديفيد لويس وليام» فى كتابه «عقلية الكهف» بأنه من طقوس التحول الشامانى، حيث يمكن أن تكون المرأة قد لعبت دور الوسيط بين العالمين المادى والروحى فى بعض الطقوس. وفى كهف «بيك ميرل» بفرنسا، تظهر أشكال بشرية مجردة قد تشير إلى نساء دون تفاصيل تشريحية واضحة. ويرى «جان كلوتس» فى كتابه «قصة الفن البدائى» أن رسوم النساء فى الكهوف ترتبط بأساطير الخلق وتقسيم الأدوار بين الجنسين، أما تصوير النساء فى مشاهد الحياة اليومية، فظهر مع الزراعة فى العصر الحجرى الحديث 10000 ق.م، كما فى جداريات «شاتال هويوك» بتركيا، حيث تظهر النساء يشاركن فى الطقوس ويحطن برموز الخصوبة كالحيات والنباتات، مما يشير إلى أدوار اجتماعية وفقا ل»إيان هودر» فى كتابه «قصة النمر». وتظهر تماثيل تنتمى إلى الفترة نفسها، ولكنها أقل تضخيما للأعضاء الأنثوية كتلك التى عثر عليها فى «عين غزال» بالأردن، وتشير إلى تحول المفاهيم حول المرأة. ■ تمثال ليفيا دروسيلا زوجة أغسطس من روما القديمة ◄ الأنثى الخالدة في حقبة الحضارات الكبرى القديمة، كانت البشرية قد دخلت رسميا حقبة الأنظمة الأبوية، ومع ذلك سنجد تباينات فى تصوير النساء، في مصر القديمة على سبيل المثال ارتبطت الأنوثة بالخلود، ومثلت المرأة كرمز للخصوبة والأمومة والألوهية فى سياق عبادة إيزيس وحتحور. وجرى تصوير الملكات والنبيلات بجسد شبابى متناسق، مع ثياب شفافة وإكسسوارات، كعلامة على المكانة الاجتماعية، كما فى تمثال حتشبسوت من الدير البحرى، وجدارية نفرتارى بمقبرتها فى وادى الملكات. ويشير «جايل روبنز» فى كتابه «نساء مصر القديمة» إلى أن هذه الصورة المثالية لم تكن مجرد انعكاس للواقع، بل تعبيرا عن المبدأ الأنثوى، الذى يعتبر الخصوبة وسيلة استمرار الكون. ويرى «جويس تسلديسلى» فى كتابه «بنات إيزيس» أن تماثيل النساء ذوات الخطوة للأمام، تعبر عن خطوة نحو الأبدية. كما ظهرت مساواة الرجال والنساء فى تمثال «رع حتب» ونفرت» من الأسرة الرابعة، مع مساواة تامة فى الحجم والوضعية والعرش، وكذلك تمثال أمنحتب الثالث و«تى» بالمتحف المصرى، وجدارية «رمسيس» و«نفرتارى» بمعبد أبو سنبل الصغير وغيرها. ومع ذلك توجد فروق فى تمثيل النساء عبر الطبقات الاجتماعية، حيث صورت الخادمات فى بعض الأحيان بأجساد أقل مثالية. لكن رسمت العازفات والراقصات فى المعبد بأجساد متناسقة، ومن الواضح أنهن كن محترمات ومرموقات. وظهرت النساء العاديات فى العديد من الجداريات مثل النساء يطحنّ الحبوب فى مقبرة «تى» بسقارة وإحداهن ترضع طفلها أثناء العمل. وظهرت الزوجة فى مقبرة «نخة» تشارك زوجها فى الصيد الترفيهى. وضمن مقابر الحرفيين بدير المدينة فى طيبة ظهرن ينسجن ويطحنّ الحبوب ويقدمن الطعام لأزواجهن، مما يدل على مشاركتهن الاجتماعية وعلى تقدير هذه المشاركة. ◄ اقرأ أيضًا | «الطوب اللبن في مصر القديمة».. اكتشاف جديد يروي حكاية منسية في منقباد ■ جدارية من بومبي الإيطالية قبل اندثارها ◄ غياب في حضارات بلاد الرافدين ارتبط تصوير المرأة بالدور الدينى، فظهرت الإلهات كعشتار وإنانا كرموز للحرب والحب، ونادرا ما مثلت النساء العاديات خارج سياق الطقوس. وفى ألواح قانون حمورابى (القرن 18 ق.م)، نحتت الإلهة «شمش» وهى تمنح الملك الشرعية، مما يعكس فكرة أن السلطة الدنيوية تستمد قوتها من الأنوثة الإلهية. ومع ذلك تشير «جوليا آشر جريف» فى كتابها «الحياة الاجتماعية لنساء بابل» إلى أن الفن الرافدينى لم يصور النساء كفاعلات مستقلات، بل هناك غياب شبه تام لتمثيلهن فى الحياة اليومية، أما فى اليونان القديمة فاختلفت صورة المرأة بين العصر الأرخى (600–480 ق.م) والكلاسيكى (480–323 ق.م). ففى التماثيل الأرخية مثل «كوريه من أثينا»، نجد النساء جامدات بملامح مبتسمة، وأحواض ضيقة، تعكس المثالية المجردة. لكن مع صعود الفلسفة، أصبح الجسد الأنثوى موضوعًا للجدل، ففى حين صورت «أفروديت» فى القرن الرابع قبل الميلاد كرمز للجمال المطلق، حذر فلاسفة مثل «هسيود» فى «الثيوجونيا» من أن المرأة شر ضرورى. وفى الفن الرومانى، طعمت المثالية اليونانية بالواقعية الاجتماعية. ونجد تماثيل لنساء من العائلة الإمبراطورية، مثل «ليفيا دروسيلا» زوجة «أغسطس»، التى صورت بشعر مضفور وملامح هادئة لتعكس فضائل البيت الرومانى وفقا ل«بول زانكر» فى كتابه «قوة الصور فى عصر أغسطس» والذى اعتبر تلك التماثيل بمثابة دعاية لتكريس قيم الأسرة الإمبراطورية. وفى المقابل صورت اللوحات الجدارية فى بومبى التى ترجع إلى القرن الأول الميلادى النساء فى مشاهد حياتية واقعية، مثل عازفة القيثارة أو كمشاركات فى الطقوس الدينية. ومع ذلك ترى «نتاليا كامبين» أن هذه الصور لا تعكس بالضرورة واقع حريات المرأة، بل تصورات ذكورية عن الأدوار الاجتماعية. ■ من التماثيل المحمولة التي تصور المرأة في العصر الحجري ◄ قداسة وخطيئة خلال العصور الوسطى، عكست صورة المرأة فى الفن القيم الدينية والاجتماعية السائدة فى أوروبا. وتباينت التمثيلات بين القداسة المطلقة للأم العذراء والقديسات، وبين الرمزية المعقدة وأحيانا الحسية فى الأعمال العلمانية. وظهرت العذراء كملكة للسماء فى لوحات الفسيفساء البيزنطية، كما فى كنيسة آيا صوفيا (القرن 6). وفى الفن القوطى اللاحق، ظهرت بتفاصيل أكثر إنسانية، كما فى تمثال العذراء والطفل من نوتردام دى باريس (القرن 13)، مجسدة الحنان الأمومى. ووفقا ل«مادلين كافينيس» فى كتابها «تصوير النساء فى العصور الوسطى» فإن تصوير العذراء بالأزرق مع الهالة الذهبية عزز دورها كوسيط بين البشر والإله. وفى المقابل، مثلت حواء الجانب المظلم من الأنوثة، كمسئولة عن سقوط البشرية، وخروجها من الجنة، كما فى منحوتة «باب آدم وحواء» بكاتدرائية «بامبرج» بألمانيا، القرن 13، حيث صورت تقدم الثمرة لآدم بملامح جذابة لكنها مثقلة بالذنب. وتشير «كارولين ووكر باينوم» فى كتابها «التفكك والفداء» إلى أن هذا التصوير كان جزءا من خطاب كنسى يربط الأنوثة بالضعف الأخلاقى، ويعكس التوتر بين الجسد والروح فى اللاهوت الوسيط. كذلك برزت قديسات مثل «كاترين» السكندرية» و«مارجريت» الأنطاكية فى المخطوطات المزخرفة، حيث صوِرن يتحدين التعذيب بإيمانٍ ثابت. وهذه الصور كانت تشجيعا للتقوى النسائية. ■ من تماثيل كوريه من أثينا العصر الأرخي في اليونان القديمة وفي كتاب «الساعات الثمينة لدوق بيرى» القرن 15 صورت النساء فى مشاهد حياتية كالحصاد والرقص، وضمن الأدوار التقليدية كزوجات أو خادمات. وظهرت النبيلات فى إطارات معمارية فخمة، بينما رسمت الفلاحات بملامح بسيطة. كذلك ظهرت المرأة ضمن نسيج «السيدة ووحيد القرن» مطلع القرن 16، كرمز للعفة والقوة، عاكسة ثقافة الحب العذرى فى البلاط الفرنسي، حيث تحولت المرأة إلى كائن مثالى خال من العيوب. وفى أعمال «يان فان آيك» القوطية ك«المذبح الغنتي» القرن 15، تظهر وجوه النساء بتفاصيل تشريحية واقعية، مما يشير لانتقال الفن من الرمزية للفردانية. لكن ظل التقيد بالأدوار الدينية للنساء كمتبرعات أو راهبات. وفى الإمبراطورية البيزنطية، حافظ تصوير المرأة على الصرامة الهيلينية، كما فى فسيفساء «ثيودورا» فى كنيسة «سان فيتالى برافينا» (القرن 16)، حيث تظهر الإمبراطورة بملابس فاخرة كرمز للسلطة الإلهية. فى المقابل، ركز الفن الغربى على الدراما العاطفية، مثل منحوتة «البتول الحزينة» فى كاتدرائية نوتردام، التى تجسد حزن مريم عند الصليب. ويشرح «روبرت نيلسون» فى كتابه «الفن البيزنطى والنوع» كيف أن هذا الفن عزز صورة المرأة كشريك فى الحكم، بينما قلل الفن الغربى من دورها السياسي. ويبدو جليا أن فنون العالم القديم وحتى أواخر العصور الوسطى قد عكست السلطة الأبوية التى همشت النساء على الأغلب، وإذا كان هناك استثناء واضح فى هذا السياق، فهو الفن المصرى القديم.