كبير صحفيى هذا الزمان .. ردد «بهرتنى بأناقتك وملامحك الأجنبية وأسلوبك الراقى فى خطابك». السبت : جاء اليوم الذى انتظرته.. لقاء مع من أدمنت سطوره وقتما كانت القراءة وسيلة الثقافة والحضارة.. تأنقت.. ارتديت بذلتى الأنيقة التى أعتز بها.. صففت شعرى الذى كان بلونه الأشقر قبل أن يميل إلى البياض.. أبيت أن استقل وسيلة مواصلات عامة.. أشرت إلى تاكسى وأمرت أن يحملنى صوب شارع الصحافة. دلفت إلى الشارع الذى كان هادئًا فى ذلك الوقت.. نسمات مارس الخريفية الجميلة تداعب وجهى لتنعشنى وتسعدنى.. كنا فى العام الأخير من سبعينيات القرن الماضى.. اتجهت إلى مبنى معشوقتى أخبار اليوم. شخص أمامى مرتفعًا ممشوقًا فى سعادة يزهو فى السماء مبنى رأيته كثيرًا فى الصور والأفلام.. لكنه فى الواقع يفرض على النفس خاصة إذا كانت الرؤيا الأولى أن تطأطئ الرأس احترامًا. كم وددت أن يعرف كل الرواد وأهل مصر كلها أنى أقصد مبنى هذه المدرسة العملاقة التى أسسها مصريان ونجحا فى تحويلها إلى واقع يعيشه الناس فى كل مكان ببلدنا وكل من يقرأ العربية.. بخطوات لا يعلم سوى الله كيف قطعتها وصلت إلى المبنى.. دخلته.. أبلغت موظف الاستقبال أنى أريد مقابلة الأستاذ موسى صبرى رئيس مجلس الإدارة والتحرير.. أعطيته الخطاب الذى وصلنى منه.. ابتسم ورحب بى.. أجرى اتصالًا تليفونيًا ثم وصف لى كيف أصل لمكتب الأستاذ لأنه ينتظرنى. قفزت درجات السلم صعودًا لأجده ينتظرنى مرحبًا.. أول درس تعلمته فى هذه المدرسة كيف يعامل الكبير تلاميذه بحب واحترام وتقدير.. رحب بى.. دعانى للجلوس.. قال كبير صحفيى هذا الوقت: «بهرتنى بأناقتك وملامحك الأجنبية وأسلوبك الراقى فى خطابك».. أبدى ترحيبه بى ضمن فريق الصحفيين وتفاؤله بعطائى.. سألنى عن الدراسة.. أخبرته أنى سأتخرج بعد أشهر.. أكد ترحيبه بى بعد تخرجى.. أوصانى بالاهتمام بما أدرس وأن آتيه بالشهادة إن كانت جيد جدًا، انتهى اللقاء سريعًا لتبدأ قصتى مع هذا الصرح الكبير الذى استمر طوال أكثر من 40 سنة. الأحد : لم أنتظر إعلان نتائج الامتحانات فى الجامعة.. عدت سريعًا إلى الأستاذ فى مبنى الأخبار.. أكدت له أنى سأحصل على التقدير الذى حدده.. رجوته إلحاقى بالعمل الآن.. وعدت بإحضار الشهادة فور صدورها. خيرنى العمل فى صفحة السينما وكانت متميزة وقتها.. قال ستجد نفسك فيها.. رجوته العمل فى التحقيقات أو السياسة. أعلنها.. سأرسلك للعمل مع مجموعة من الشباب المتميز تحت إشراف أستاذ هادئ الطباع دمث الخلق يشجع الجميع.. صدقت كلماته.. توجهت إلى مكتب الأستاذ أحمد الجندى مساعد رئيس التحرير فى ذلك الوقت.. أخبرنى أنى سأعمل أولا فى صياغة رسائل القراء فى باب يهتم به الجميع وهو إلى محرر الأخبار.. أكد أنها فرصة عظيمة للتدريب على الصياغة الجيدة.. وافقت. الحق إنها كانت أياما لا ولن تنسى.. تعلمت كثيرًا من الزملاء الذين سبقونى.. كلهم بلا استثناء أضافوا لى سواء بطريق مباشر أو غير مباشر . رجوت أستاذى أحمد الجندى نقلى إلى تخصص آخر.. وافق ونقلنى إلى مطبخ الأخبار.. نقلت إلى «الدسك» حيث تصنع وتطبخ الجريدة.. تعاملت مع الكبار.. بهرتنى هذه القامات التى كان رؤيتها فقط سعادة للنفس.. ما بالك وأنا أتعامل معهم وينادونى باسمى ويطلبون إعادة صياغة أخبار وفق توجيهاتهم.. تعاملت مع الأستاذ جلال دويدار الأنيق دائم التوجيهات.. كما تعاملت مع الإنسان الذى يحمل قلبه على يديه ويحيط به الكل المرحوم وجيه أبو ذكرى الذى لم تنسه عبقريته أنه إنسان وابن بلد.. أما الأستاذ جلال عيسى فكان الراقى المجامل الشهم الذى يتفاعل مع الكل فى كل المناسبات. كانت أيام .. وللحديث عنها بقية . الثلاثاء : البوسطجية رمقته الصبايا فى غدوه وروحه.. مرتديًا زيًا مميزًا وغطاء رأس محبَّبًا، متأبطًا حقيبته الممتلئة دومًا.. يسعى بين الجميع.. يصل بينهم وقتما كانت وسائل التواصل صعبة.. حمل آلاف الدعوات والسلامات والأخبار الحلوة والحزينة.. حفل بجهده الاأدب والفولكلور.. حتى غنَّى له الأحبَّة «البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلى». كنا نضبط عليه المواعيد.. يأتى يوميًا فى موعدٍ محدد.. كما يُغادرنا فى نفس الموعد.. لذا نضرب المواعيد باللقاء مع قدوم ساعى البريد أو البوسطجى كما عرفه العامة.. كما نقول بأن بدء موعد المباراة مع مغادرته للمنطقة.. حفلت نوادرنا الماضية بأن الخطابات المرسلة تأخذ ثلاثة أيام لا غير.. يوم الإرسال ويومًا ثانيًا للمشوار، وآخر الأيام للوصول. هكذا كنا.. لكن دوام الحال من المحال.. تدخلت أيدٍ خفية لتنال من صاحب المهنة ورسالته.. لم يعد يرتدى زيًا مميزًا قريبًا من زى الجهات السيادية.. بل أصبح هندامه غير مُتناسقٍ.. آثار العرق والإجهاد بادية عليه إن وجدته.. لأنه اختفى.. كأن المدنية نالت منه وأثَّرت عليه لكنها بالسلب. تجربتى مع البريد غير سارة.. كنت أضع طابع بريد عاديًا على المراسلات لتصل فى موعدها.. لكنها أصبحت تختفى.. تذروها الرياح.. يأكلها الوباء.. لذا قال ناصح: «استخدم البريد المسجل».. فعلت.. لتعود إلىَّ بعض ما أرسلته ثانية.. تعود وعليها عبارات تفيد بأن المرسل إليه غير معروف أو المسكن مغلق أو تم إخطاره.. أما البعض الآخر فيذهب إلى اللا شىء.. يختفى.. لا يذهب للمرسل إليه ولا يعد إلىَّ ثانية.. يبدو أنه رافض أن يصل أىٌّ منا.. لذا أرسلت لنفسى خطابًا على عنوانى ليختفى وسط دوامة الحياة وتأكله الساعات ولا أعرف أى سبيل سلك. مؤخرًا أرسلت خطابًا للإسكندرية.. قمت بتسجيله المضمون كما يريدون.. شهرًا بالتمام والكمال وهو فى الطريق.. استنجدت بأصدقاء كبار مسئولين فى البريد.. قالوا إنه فى حركة الإسكندرية.. أقمت ليلة أؤدى صلاة قضاء الحاجة وأدعو له بسلامة الوصول بعدما اختفت كل الأسباب التى أُقدّمها للمرسل إليه.. أخيرًا زف إلىَّ الخبر السعيد.. وصل خطابى بعد شهر من إرساله.. ألا يحق لى الاحتفال بتحقيق هذا الإنجاز .