حمل حكايات القدر وتصاريفه من أخبار الفرح والحزن والحياة والموت كان يسافر على حمار أو حصان حاملا رسائل الملوك أو قادما من الباب العالى إلى باقى دول الخلافة
مع ظهور طوابع البريد والطائرات والقطارات أصبحت مهمته قاصرة على التنقل داخل البلدة يحفظ شوارعها ويعرف أهلها
كانت تنتظره الناس بلهفة وعلى شوق لتطمئن على الغائب والمسافر، هو ساعى البريد "البوسطجى" الذى كان يضفى ظهوره بدراجته وحقيبته الجلدية على الشارع فرحة، لتلقى خطابات الأهل والأحبة من جهة، والخطابات الرسمية والتنسيق للجامعات من جهة اخرى ، فهو يعد واحدا من العيلة أو فردا من الجيران، حيث إنه يعرف المنطقة التى يعمل بها بيتا بيتا وفردا فردا، كما يعرفه الناس بدورهم، وأحيانا ينتظرونه على ناصية الشارع فى الفترات العصيبة، أو أول الشهر موعد الرسائل للمسافرين فى الخارج. لا تعرفه تلك الأجيال الحديثة من الأبناء ولا تستوعب مدى أهميته لأجيال الآباء والأجداد، والدور الخطير الذى كان يقوم به فى تواصل الأهل والأحبة مع بعضهم البعض، حتى إن كثيرا من الجيل السابق مارس هواية التعارف عن بعد، التى كان البطل الأول والأهم فيها هو الخطاب وساعى البريد تلك الهواية التى كان من خلالها يتم تعارف الشباب على اقرانهم من دول أخرى لتتم بينهم صداقة ويتم التواصل بين الثقافتين. نذيد حرب والبوسطجى أو ساعى البريد، إحدى الشخصيات التاريخية، والتى تحولت إلى فولكلورية.. فقديما كان يسافر على حمار أو حصان حاملا الرسائل من الملوك إلى الملوك، أو حاملا نذيرا بالحرب، أو حاملا الجزية، أو قادما من الباب العالى إلى باقى دول الخلافة، ومع ظهور طوابع البريد والطائرات والقطارات، أصبحت مهمته قاصرة على التنقل داخل البلدة، يحفظ شوارعها وبيوتها يعرف أولادها وبناتها ورجالها ونساءها بالاسم، ويعرف أخبارهم أيضا. وساعى البريد شخصية شبه انقرضت من الحياة الواقعية بعد وجود شركات خاصة تقوم بتوصيل الطرود إلى مختلف البلاد . ولم يبق إلا القليل لتوصيل رسائل البنوك والرسائل بعلم الوصول. وذلك نظرا لوجود الهواتف الأرضية والمحمولة ومواقع التواصل الاجتماعى والإيميل على الإنترنت. وأشهر من عمل بوسطجيا، هو والد الزعيم المصرى الراحل جمال عبد الناصر، هناك أيضا الروائى الكبير إبراهيم أصلان، الذى عمل فى بدايته بوسطجيا، وكتب عن تلك الفترة رواية بعنوان «وردية ليل» كما أن البوسطجى كان من الشخصيات المغرية أدبيا وفنيا حيث تناولها العديد من الكتاب، وتغنت بها الكثير من المغنين فى أغان مشهورة ومنها "البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلى" للمطربة رجاء عبده وأغنية "ع هدير البوسطة" للمطربة فيروز، والفيلم الشهير "البوسطجي" الذى يعتبر من أفضل مائة فيلم قدمتها السينما العربية، وأيضاً هناك فيلم لبنانى يتحدث عن الحرب الأهلية فى لبنان يحمل عنوان "البوسطة". والبوسطة كانت هى المكان الوحيد لجلب الأخبار، أما الآن فهناك مائة طريقة، وفرق كبير بين البوسطجى زمان، والآن حيث كان ينظر إليه نظرة اهتمام وتقدير، كونه جالب الأخبار ومقرب المسافات، أما الآن فلا يوجد إقبال على هذه المهنة، والشباب لا يحبونها، ولا يحبون اللف طول النهار متناسين أنها خدمة إنسانية. فساعى البريد يحمل حكايات القدر وتصاريفه، فهو يحمل أخبار الفرح والحزن، الحياة والموت والوجد والفقر. وكان لساعى البريد أو البوسطجى طرائف مضحكة ومواقف محرجة كثيرة وأحيانا كان يتسبب فى مشاكل عديدة خصوصا فى الريف والقرى، فقد كان يكره الناس البوسطة الحكومية ويرونها تأتى حاملة مشكلة، كخطابات الإنذار والرفت من المدارس والجامعات ويعتبرون وقتها البوسطجى "نذير شؤم"، فى حين أنه إذا سافر أحد أبنائهم للعمل فى الخارج وقتها فقط يوطدون علاقتهم بالبوسطجى ويعتبره بشير خير، خصوصا مع ما يحمله من أموال وشرائط كاسيت للأهل والأحبة، فى وقت ما قبل التليفون والإنترنت، كما كان يتسبب البوسطجى بدون قصد بمشاكل جمة، عندما كان يحمل رسائل الأحبة للفتيات، ويتم كشف الأهل لتلك الخطابات، أو عندما كان يأتى بأكثر من خطاب للبيت الواحد من ابنهم المسافر للخارج خصوصا فى بيوت العيلة الكبيرة، فيتم من خلالها كشف التميز فى الكلام أو الأموال والأسرار إذا وقع الخطاب فى يد أحد غير صاحبه. وكما قلنا من قبل إن لتلك الشخصية الغنية بالخبرات والمواقف الإنسانية بريقا خاصا أمام المبدعين، حيث إن شخصية البوسطجى استخدمها الكتاب كثيرا فى روايتهم، وكان أهم وأشهر من كتب عن تلك الشخصية الكاتب الكبير الراحل يحيى حقى فى روايته «دماء وطين» التى تحولت إلى فيلم بعنوان البوسطجى عام 1968 قام بإخراجه حسين كمال وبطولة شكرى سرحان وزيزى مصطفى، ويحكى عن عباس أفندى البوسطجى الذى ينقل إلى قرية نائية بصعيد مصر ويحاصره فيها الملل والوحدة، ولا يجد ما يسليه إلا أن يقوم بفتح الخطابات الواردة والصادرة من وإلى أهالى القرية، ومن خلال متابعته لتلك الخطابات يكتشف وجود علاقة بين إحدى الفتيات ورجل وقد حملت منه، ويكتشف الأب جريمة ابنته فيقتلها، أما عباس أفندى فيؤنبه ضميره لأنه لم ينقذ هذه الفتاة بإظهار الخطاب الذى يعدها فيه حبيبها بالزواج فيعود إلى القاهرة بعد أن يقوم بإلقاء عشرات الخطابات فى الهواء مما يوحى للمشاهد بأن تلك الجريمة سوف تتكرر كثيرا. الحمام الزاجل وتعود مهنة ساعى البريد فى أصلها إلى العرب القدامى، وهم أول من اعتمدوا على الخيل والجمال، والطبول والمرايا فى إرسال الأخبار والمعلومات، ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وكثرة الفتوحات، كان لابد من وسيلة أسرع لنقل الرسائل، ومن هنا استخدم العرب الحمام الزاجل، وكان ذلك فى العهد الأموي، وتطور شكل البريد حتى وصل إلى صورته الحالية، وبعد التمدن أصبحت تبنى مكاتب للبريد فى كل مدينة، ثم فى كل قرية لتستقبل الرسائل ثم تصنفها أحياء داخل المدينة أو مدنا داخل الدولة الواحدة أو خارجية للدول الأخرى، وبعد تباعد المنازل وضعت صناديق البريد فى الأحياء، وكانت هناك صناديق ملونة للبريد الداخلى وللبريد الخارجى. كما تطور شكل ساعى البريد عن الماضى كثيرا، فلم يعد يحمل الحقيبة ويقود الدراجة أو يرتدى زيا مميزا كما كان سابقا، بل أصبح يستخدم الدراجة النارية فى تنقلاته، ولم يعد لزامًا عليه الالتزام بزى معين، كما لم يعد ينقل أخبار المسافرين والمغتربين، بل أصبح ينقل خطابات من مصالح حكومية وبنوك ومدارس، لينذر فلانا بأن رصيده البنكى قد ازداد أو أوشك على النفاد، أو يعلم علانا بأن ابنه متغيب عن الدراسة. تراجع دوره وأكدت عن قرب زوال تلك المهنة وانقراضها إحصائية سابقة من الهيئة العامة للبريد تشير انه بعد أن كان ساعى البريد يقوم بتوزيع ما يصل إلى 100رسالة يوميا تناقص العدد إلى 25 رسالة ثم تناقص العدد الآن، فيقوم بتوزيع ما يقل على ثمانى أو عشر رسائل فقط والسبب هو وسائل الاتصال الإلكترونية، كالإنترنت وأجهزة الهاتف النقال التى تقوم بتوصيل الرسائل لأى مكان ودون الحاجة إلى ساعى البريد، وبهذا أصبحت مهنة ساعى البريد من الموروث الشعبى، وبرغم ذلك سيظل البوسطجى محفوراً فى ذاكرة التاريخ برغم ما يعانيه الآن أصحاب المهنة من تقلص دورهم والشعور بذهاب ملك أجدادهم الغابر بسبب الهجمة الشرسة لوسائل الاتصالات الحديثة بتعدد أشكالها، وتنوع أساليبها من هواتف محمولة وإنترنت، فالبريد الإلكترونى أو ما يسمى فى لغة الإنترنت "الإيميل" هو الأكثر استخداماً وشيوعاً فى عالمنا المعاصر، خصوصا بين شريحة كبيرة من الشباب، ناهيك عن كونه الآن أصبح الوسيلة الأكثر يسراً فى مجالات العمل المختلفة.