إذا ما طرقت دراجته الحارات والقرى والنجوع، وأنشد نداءه الشهير «بوسطة»، انخلعت قلوب المنتظرين، وترك كل مشتاق ما يشغله، وتوجهوا إلى الشرفات، منتظرين أن ينادى اسم أحدهم، إنه ساعى البريد أو«البوسطجي»، الذى ظل طيلة عقود نجمًا شعبيًا، ينقل رسائل الفرح والاطمئنان ويسعد الناس بمراسيله، حتى ظهرت «الإيميلات» وبرامج «الواتس آب» و«الماسينجر»، وأصبح الناس يتواصلون من آلاف الأميال على الهواء، بالصوت والصورة، فتغير وضع البوسطجى وأصبحت مهنته مهددة بالانقراض، فكيف أصبح الآن؟ وهل انقرضت مهنته التاريخية، بعدما حلّت المراسلة الإلكترونية والبرامج الهاتفية بديلاً سريعًا للمراسلات التقليدية؟ عندما انعقد «الملتقى الإبداعى الأول للبريد المصرى» عام 2010 احتفاءً بما يُسمى ب«الأدب البريدى»، كرم الملتقى عددًا من المبدعين الذين قدموا البريد فى أعمال متميزة، وكان على رأسهم الكاتب الكبير صبرى موسى، الذى كتب سيناريو وحوار العمل الخالد « البوسطجى» للمبدع يحيى حقى. وكذلك كرم الملتقى الروائى إبراهيم أصلان، الذى مارس مهنة البوسطجى فعليًا لسنوات، وكتب رائعته «وردية ليل»، من وحى هذه المهنة، أما الروائى والقاص المصرى الكبير يحيى حقى، فقد استحق أن يصدر الملتقى، طابعًا بريديًا يحمل صورته، غداة انعقاده، حيث قامت نهى يحيى حقى بختم أول طابع بريد تذكارى، يحمل صورة الأديب الكبير، تخليداً لأعماله الأدبية، وعلى رأسها قصة «البوسطجى» من مجموعة «دماء وطين» التى أخرج منها حسين كمال فيلمه البديع عام 1968. عادل السنوسى، مدير مكتب توزيع بريد المنيرة سابقًا يقول: عملت فى مكتب البريد أكثر من 42 عامًا: ومهنة ساعى البريد لا يمكن أن تنتهى، صحيح أن الخطابات الشخصية تراجعت بشكل شبه نهائى، وأصبحت الغالبية العظمى من الخطابات الآن هى معاملات البنوك لعملائها، وخطابات الإنذارات الخاصة بطلاب المدارس والجامعات، بالإضافة إلى توصيل المعاشات لكبار السن، غير القادرين على الوقوف فى طابور طويل عريض، لتسلم معاشاتهم، لكن هذا لا يعنى انتهاء دور البوسطجى، فهو ما زال موجودًا. ويضيف السنوسى: لم يعد دور العاملين فى هيئة البريد، هو توصيل الخطابات للمنازل فقط، لقد طورت الهيئة القومية للبريد فى خدماتها كثيرًا؛ لمواكبة العصر ودخول المنافسة مع شركات الشحن، ونجحت الهيئة فى توسيع دوائر الاهتمام بخدمات البريد المصرى من مجرد خطابات إلى سلة متكاملة من الخدمات البريدية والمجتمعية والمالية والجماهيرية. فى مكتب توزيع بريد إمبابة، تأملنا سعاة البريد الخارجين إلى مهام عملهم، فكانوا شبابًا يحملون حقائب حديثة، ويبدو عليهم أنهم جامعيون أيضًا، يختلفون تمامًا فى زيهم، عن الفنان شكرى سرحان الذى كان يرتدى بدلة صفراء، ويضع منديلاً على رأسه، ويركب دراجته طوال الوقت فى فيلم «البوسطجى». ذلك الفيلم الذى أرّخ لهذه المهنة الإنسانية. صحيح أن الرسائل والخطابات، لعبت دوراً فى تشكيل جزء مهم من تاريخ الأدب، ومثلت نقطة ارتكاز لكثير من الروايات، لكن يظل فى مقدمة هذه الأعمال «البوسطجى»، للكاتب القدير يحيى حقى، حيث تدور كل أحداث الرواية، حول عباس ساعى البريد، الذى يحاول أن يتدخل فى قراءة الرسائل قبل توزيعها، مطلعًا على ما تحمله من أخبار وأسرار، ولكنّ هذا التلصص سرعان ما يوقعه فى مأساة لقصة حب، بين شاب وفتاة، وتنتهى القصة بمقتل الفتاة العاشقة على يد الأب المتشدد، ويصوّر حقى فى نهاية الرواية، البطل وهو يهيم على وجهه فى الشوارع، راميًا كل الرسائل فى الهواء؛ حزنًا وغضبًا على كل شىء. نكمل جولتنا فى مكتب بريد إمبابة، فنجد فاطمة الزهراء مكاوى، ربة منزل، تجلس فى انتظار أن يأتى دورها، فنسألها هل تذكرين شخصية البوسطجى بصورته القديمة؟ فتجيب: نعم، وأنا صغيرة كنت أحب جداً نداء البوسطجى، وهو ينادى على أمى قائلاً: «يا أم زهرة جواب من أبوزهرة»، حيث كان أبى مسافراً، ويرسل لنا جوابات وشرائط، فشخصية البوسطجى محببة جداً بالنسبة لى، وتحمل ذكريات كثيرة، أيضًا حينما كان أخى الأكبر فى الثانوية العامة، كنا فى انتظار نتيجة التنسيق، وعندما جاء بها البوسطجى، وعلمنا أنه قبل فى كلية الهندسة، كان يومًا من أجمل أيام حياتى. وقبل أن نترك مكتب توزيع بريد إمبابة، نجد أنفسنا أمام ميدان الكيت كات، ذلك الميدان الذى خلده الروائى إبراهيم أصلان، فى درة أعماله «مالك الحزين»، التى حولها المخرج داود عبدالسيد إلى الفيلم الشهير «الكيت كات» فى 1991، وعندما يأتى ذكر إبراهيم أصلان، لا يمكن أن نتغافل أنه من أهم كتاب «أدب البريد»، خاصة أنه مارس هذه المهنة بالفعل لأعوام طوال، حيث عمل «بوسطجيًا»، وتعتبر روايته «وردية ليل» من أهم روايات هذا النوع السردى، ففى الرواية تستطيع أن ترى «البريد» بتفاصيله الدقيقة، من خلال «سليمان»، موظف البريد، الذى تدور حوله أحداث الرواية، فى مكان عمله بهيئة البريد، لتحتل صالة الاستقبال بمصلحة البريد المساحة العظمى من السرد والأحداث. لم يتوقف هذا النوع من الأدب عند حقى وأصلان، لقد أضحى أدب البريد فرعاً له مريدوه، ربما من أهم الأعمال الروائية التى تناولت هذا الأدب حديثاً، كانت رواية «الأرملة تكتب الخطابات سراً» ل«طارق إمام» الصادرة عن دار «العين» للنشر، وتدور الرواية حول أرملة مسنة تعيش وحيدة فى مدينة صغيرة، وتكتب خطابات غرامية فى الخفاء لمراهقات المدينة، ليرسلنها إلى عشاقهن. وإذا كان الروائى إبراهيم أصلان، يعد من المشاهير الذين مارسوا مهنة ساعى البريد، فهناك شخصيات تعد تاريخية، مارست أيضًا هذه المهنة، منهم والد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، حيث عمل والده بوظيفة فى مصلحة البريد بالإسكندرية، كما أن أوليفيى بوزونسنو، ساعى البريد الفرنسى، كان قد رشح نفسه مرتين فى الرئاسيات الفرنسية فى 2002 و2007، وحصل على نحو مليون ونصف المليون من الأصوات، مما اعتبر وقتها حدثاً مختلفاً. لم تشغل مهنة البوسطجى خيال الروائيين فقط، بل حركت هذه المهنة مخيلة الشعراء أيضًا، حتى إن نزار قبانى كتب قصيدة سماها ساعى البريد قال فيها: أَغْلَى العُطُورِ، أُريدُها أزْهَى الثيابْ فإذا أَطلَّ بريدُها بعدَ اغترابْ وطويتُ فى صدرى الخطابْ عَمَّرْتُ فى ظَنِّى القِبَابْ وأَمَرْتُ أن يُسْقَى المساء معى الشَرَابْ