النهاردة إجازة.. لكن لا إجازة من العمل، فالإجازة بعيدا عن العمل هي إجازة من الحياة.. هى فى المجمل فرصة ممتعة دائما لترك السيارة واستخدام الأتوبيس ذهابا وعودة، رغم أنه لايكاد يخلو يوم من أيام العمل خلال الأسبوع من ركوب الأتوبيس العادى الشعبى فهو ترمومتر الحياة فى بر مصر،فركوبه ولو لجزء من طريق الذهاب والعودة فرصة لرؤية الشوارع واجترار أيام الصبا والشباب،هو دفتر أحوال القاهرة ينطق على الوجوه قبل الألسنة،يقدم ملخصا وافيا لأحوال الناس والحياة والعيشة واللى عايشينها! عصبية البعض تقابلها سخرية البعض وضحكة أو غلظة البعض الآخر، تطرف النقمة يقابله تطرف المثالية ورؤية مالايراه الناقمون، وتحتار أيهما على حق؟ مناوشات المحصل مع الركاب والسائق مع أنداده على مقاعد القيادة يعطيك مؤشرا لما وصلت إليه الأخلاق وماتبقى متمسكا به البعض لم تغيره أحوال الدنيا وتقلبات الأمور داخليا وخارجيا عن طبيعة خلق بها وعاش عليها. حقا ما أجمل القاهره يوم الإجازة.. الأتوبيس يذكرنى بفيلم أبيض وأسود. الركاب لايتعدى عددهم عشرة كلهم ينتمون بشعر رءوسهم لعالم الأبيض فى أبيض إلا واحدا مازال يخوض صراع الأبيض والأسود. السائق أربعينى السن ينبئ الشكل بانتصار الأبيض لديه كما لو كان بفعل الصراعات الحياتية والمعاناة البيتية اليومية مع تعنت الزوجة ومطالب الأولاد وتجبّر الحياة. صعد الكمسارى الذى يبدو فى أواخر خمسينياته ينتظر عدة أشهر يتخلص بعدها من عهدة التذاكر وتتخلص منه التذاكر بالتقاعد.. طلب من سائقه التحرك. امتعض الأخير لأنه لم ينته من سجاله الفيسبوكى. طلب ناظر المحطة منه التحرك فطلب السائق بدوره من الكمسارى أن يجلس بدلا منه ليقود الأتوبيس حتى يخرج من حواره مع «الجروب» الذى كان يبدو أنه جروب يضمه وصديقا أو صديقة وحيدة!. نهره الكمسارى ودخل فى حوار مع الناظر حتى انصاع السائق ووضع محموله أمامه فوق «دركسيون» الحافلة، وبدأ فى التحرك. لكنه مالبث أن توقف فى عرض الشارع وطلب من الكمسارى أن يبتاع له علبة سجائر فما كان من الأخير إلا الرفض والامتعاض من السائق المدخن، وكادت ملامح امتعاضه تصرخ في وجه السائق بقوله: هو أنا الخدام اللى جابتهولك الهيئة! وكأنهما لايعرفان بعضهما. وذهب صاحب المزاج ليطفئ عكننة الكمسارى على سجاله الفيسبوكى ويلبى شوق جسده للسم «الهارى» وعاد متوعدا بنظراته كمساريه الذى أعلن التمرد على أوامر قائده! عاد محملا بعلبة سجائر اشتراها وفتحها والتقم واحدة منها سريعا فأمسكها بين شفتيه بوضعها العكسى، ومالبث أن لسع شفتيه طعم الدخان النيئ، فعدل وضعها وأشعلها وهو يدير موتور الأتوبيس.. وأمسك الكمسارى بتذاكره وبدأ بأول مقعد خلف السائق ليجد راكبه سبعينى العمر معفيا من قطع تذكرة، وامتعض الكمسارى وهو يقول يافتاح يا عليم! ومضى لراكب ثان ليكون من حظه أيضا أنه فوق الستين من حقه أن يدفع نصف أجرة، صحيح هو ليس نصفا بالتمام، بل يقارب ثلثى السعر،لكن ذلك لم يشبع نهم الكمسارى ليجمع ثمن تذاكر كاملة، لكن حظه السيئ أوقعه فى الراكب الثالث ذى السبعين ربيعا ليشهر فى وجه الكمسارى بطاقته، فلايجد المحصل سوى اللجوء للروح المصرية الخاصة جدا وقت الأزمات، لقد لجأ للتنكيت وهو يقصد التبكيت، وما كان منه سوى أن قال: آه يا ولاد ستين فى سبعين! أما السائق صاحب المزاج فقد جمع إلى مزاج التدخين مزاج الغناء وأدار فلاشة يضعها على محموله بدأت تعلن عن إحدى أغنيات أم كلثوم «جددت حبك ليه» بمقدمتها الهادئة، وتلاقت رؤوس الركاب ذات الشعر الأبيض حول ميراثهم القديم لم يشذ سوى واحد أشاح بوجهه خارج الشباك. وبدأ السائق الأربعينى المدخن ستينى الهوى كلثومى المزاج ينطلق بسيارته وركابه رويدا رويدا؛ وقد تباينت ردود أفعال الركاب مابين متخذ ركبتيه معزفا لأصابعه مع نغمات المقدمة الموسيقية أومسند رأسه إلى الشباك وذاهب بعينيه إلى زمن مضى ولم يبق منه إلا الأنغام، وبعض آثر ألا تغلب صبوته شيبته فالتزم السكون وادعى الوقار. وما كادت المقدمة تنتهى وتعتدل الست لتبدأ الغناء إلا وقد توقف الاتوبيس فجأة إثر فرملة عنيفة، وتوقفت معه الأغنية فظهرت ردود أفعال الركاب وهم يقولون: إيه ياأسطى بطلتها ليه؟.وتعجب صاحبنا من ردود أفعالهم تلك .ودارت السيارة مرة أخرى وأعاد السائق تشغيل أغنيات الست لكنه هذه المرة فتح أغنية مختلفة «فكرونى» وكأن كل من بالحافلة يحفظ المدخل الوهابى الموسيقى للأغنية. ولم تمض لحظات حتى كان الاندماج يستولى على الجميع ومع كل محطة يركب جدد وينزل البعض والست تشدو صباحا فتحيل النهار ليلا مثل لياليها زمان.. غريبة هذه المرأة بما كانت تقدم من فن لايحتاج مناسبة لسماعه ولاوقتا محددا ،يسمعها الحزين وهى تشدو للفرح والأمل فيذهب حزنه وينسى شجونه ويتفاعل معها، ويسمعها المنتشى وهى تئن بل تكاد تبكى فلا يغضب من شدوها الحزين فيعيش سعادته ويسعد بحزنها وألم كلماتها وأنين ألحانها.قالها صاحبنا لنفسه وهو يقف بجوار السائق مستعدا للنزول وبجواره من يقول له: الله ينور عليك ويرحم أيامها ويرحمنا من أيامهم.. ونزل صاحبنا وجاره بالكرسى وانطلق السائق بركابه والست تغنى فى عز الصباح: وابتدا الليل يبقى أطول من ساعاته.