في زمن تحولت فيه الشاشات الصغيرة إلى ساحات معارك شرسة، لم يعد القتل يرتكب بالسلاح، بل بالكلمة.. كلمة واحدة، عابرة، قد لا يلقي صاحبها لها بالًا، لكنها تسقط على قلب الضحية كرصاصة باردة. في العالم أجمع، تتزايد ظاهرة التنمر الإلكتروني بوتيرة مرعبة، لتصنع من الشهرة الرقمية لعنة تفتك بروادها واحدًا تلو الآخر، فمن مصر إلى الخليج إلى أوروبا وأمريكا وآسيا، قصص لشباب حلموا بالنجومية على منصات التواصل الاجتماعى، فتحولوا إلى عناوين مأساوية في صفحات الحوادث.. وكان أحدثهم نصار شريف التيك توكر المصري، الذي أسقطته التعليقات القاسية قبل أن تسقطه السكتة القلبية، ومن قبله رحاب العوضي البلوجر الشعبية، التي انهارت تحت ضغط السخرية والشتائم المتواصلة وغيرهما الكثير ممن لفظتهم ساحات السوشيال ميديا المختلفة بعد أن امتصت شهرتهم، وتركتهم يواجهون مصيرهم وحدهم. اليوم لم يعد التنمر مجرد ظاهرة هامشية، بل صار وباءً رقميًا يهدد الصحة النفسية ويهدد الحياة ذاتها.. فهل آن الآوان ليدق المجتمع ناقوس الخطر، ويضع حدًا لهذا العنف الصامت؟ أم أننا سنواصل مشاهدة المزيد من الضحايا يسقطون على مذبح الشهرة؟، تفاصيل أكثر سوف نسردها لكم داخل السطور التالية. لم يكن يعلم الشاب نصار شريف، صاحب الفيديوهات الساخرة على منصة «تيك توك» أن رحلته القصيرة مع الشهرة ستنتهي بهذه السرعة وبصدمة مأساوية هزت الرأي العام.. ففي أواخر ابريل 2025، لفظ نصار أنفاسه الأخيرة إثر سكتة قلبية مفاجئة، بعد أيام فقط من حملة تنمر شرسة شنها عليه مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي، علقوا فيها على شكله وطريقته في الكلام وحتى خلفيته الاجتماعية. نصار شريف، بدأ مثل كثيرين من أبناء جيله، بتحميل مقاطع فيديو عفوية على تيك توك، لا تتعدى مدتها دقائق.. كان يحاول أن يرسم البسمة على وجوه متابعيه، مستثمرًا خفة دمه وبساطته.. لكن مع تصاعد عدد المشاهدات، زادت التعليقات السلبية بوتيرة أسرع.. بعضهم سخر من مظهره، وآخرون شككوا في نواياه، وهناك من ذهب إلى حد الدعاء عليه بالموت. بعد آخر فيديو له، والذي ظهر فيه متأثرًا نفسيًا وموجهًا كلمات مبطنة لمن أساءوا إليه، وجه رسالة لمن تنمروا عليه قائلا: «إلى من تعمدوا حزني ومضايقتي أنا وأهلي بالتنمر علي وعلى فيديوهاتي، على وسائل التواصل الاجتماعي: حسبي الله ونعم الوكيل وأفوض أمري إلى الله»، وتابع: «سيسخر الله لكم من يضيق صدوركم ويؤذي قلوبكم ولو بعد حين»، ثم وجه رسالة إلى نفسه: «لا تتعمد إحزان أحد، وقاتل بشرف ولا تمت مقهورًا أو ذليلًا، لا تمت إلا محاربًا واقفا شامخ الرأس منتصب القامة عالي المقام».. ايام قليلة وتم الاعلان عن وفاته بسكتة قلبية، وسط حديث متصاعد عن أن الضغط النفسي الحاد الناتج عن التنمر كان العامل الأبرز وراء هذه النهاية الصادمة. قصة نصار ليست حالة فردية بل هي جزء من ظاهرة أوسع تضرب المجتمع الرقمي في العالم اجمع. اقرأ أيضا: «آفة العصر».. ظاهرة التنمر تجتاح السوشيال ميديا في 2022 شهدت مصر أيضًا وفاة البلوجر الشهيرة رحاب العوضي بعد تعرضها لسلسلة من التهديدات والتنمر الذي طال عائلتها وحياتها الشخصية. رحاب التي كانت تقدم محتوى اجتماعيًا من قلب الأحياء الشعبية، واجهت هجومًا قاسيًا من بعض المستخدمين الذين اتهموها بالتسول الرقمي والسعي وراء الربح بأي ثمن. كما انه في السعودية، واجه البلوجر ريان جيلر محاولات عدة للانتحار، حسب تصريحاته، بعد حملات شرسة اتهمته بتشويه صورة الشباب الخليجي، فيما تعرض الكويتي يعقوب بوشهري لموجة هجوم على خلفية قضايا شخصية. تدمير للصحة بالتواصل مع الدكتور حسام لطفي أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة، بدأ حديثه قائلاً: إن "التنمر الرقمي يسبب تدميرًا بطيئًا لصحة الفرد النفسية، ومع تكراره يمكن أن يؤدي إلى أمراض جسدية خطيرة، مثل الجلطات القلبية والسكتات الدماغية، كما في حالة نصار، كما أن الشهرة السريعة تجعل المؤثرين فريسة سهلة، لأنهم غالبًا لا يملكون الأدوات النفسية للتعامل مع الكره الجماعي، فيتحولون من نجوم إلى ضحايا خلال أيام، كما أن هناك حلولا ممكنة بين الحماية والتوعية، مثل إنشاء وحدات متخصصة لمكافحة التنمر في إدارات الشرطة الإلكترونية، أو إجبار المنصات على توفير خاصية "فلترة التعليقات" بشكل أكثر فاعلية، أو إطلاق حملات وطنية لتعليم الأجيال الجديدة سلوكيات الاستخدام الآمن والمسؤول للإنترنت، أو دعم المؤثرين نفسيًا عبر برامج تدريب وتأهيل نفسي للتعامل مع الضغوط الجماهيرية. ليضيف دكتور جمال فرويز استاد الطب النفسي، قائلاً: عندما يتعرض أي إنسان للتنمر يحصل تغيير في النواقل العصبية، ومن بين هذه النواقل ناقل عصبي يسمى «نورأدرينالين»، حين يزيد داخل الجسد يبدأ بعمل انقباض في الأوعية الدموية الطرفية، فيشعر الإنسان بنوع من الصداع أو زغللة في العين، وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع نسبة السكر، وزيادة ضربات القلب، كما تتأثر المعدة أو القولون، كما أن إذا كان لدى هذا الشخص أي نوع من الأمراض الوراثية أو الخلقية، مثل مشكلة تسمى «أنيوريزم» وهو رابط بين شريان ووريد يتسم بالضعف، وتعرض الشخص لهذه الضغوط والسخرية والتهكم بصورة شديدة، للأسف يحصل فيها انفجار. ولو كانت هذه المشكلة في المخ تتسبب في الوفاة في غضون يومين أو ثلاثة، ولو كانت داخل القلب تتسبب في الوفاة على الفور، كما أن هناك أناسا آخرين لديهم ما يسمى بمتلازمة القلب المكسور، فحين يتعرض لمجموعة من الأحزان أو الضغوط يصل لمرحلة يرتفع فيها «النورأدرينالين» تدريجيًا على مدار أيام متعددة، فتحدث ظاهرة القلب المكسور، ويصبح عنده شعور بالضيق الشديد ويسيطر عليه إحساس بأنه ربما يحدث له مكروه، وهذه الحالة للأسف تنتهي بالوفاة بعد فترة زمنية قصيرة، كما أنصح الشخصيات العامة ومؤثري وسائل التواصل الاجتماعي أن يتسموا ب الكياسة والمثابرة والصبر على بعض السخرية أو بعض الألفاظ غير المناسبة، وخصوصًا أن هناك نوعًا من السلوك الجمعي في هذه المنصات، فحين يكتب شخص نقدا أو سخرية ينجرف وراءه كثيرون ويكررون ما كتب دون تفكير، وهذا ما نسميه «الجمعية في اتخاذ قرار خاطئ»، ومن ثم يجب على المؤثرين أن يتجاوزوا عن تلك السخرية، ومن الأفضل ألا يعلقوا عليها. القانون ليستكمل إسلام سيد المحامي، قائلاً: تتمثل عقوبة التنمر الإلكتروني في مصر في السجن لمدة لا تقل عن 6 أشهر، وغرامة مالية لا تقل عن 10 آلاف جنيه، ولا تزيد عن 30 ألف جنيه، كما تشدد العقوبة في حالة تنمر أكثر من شخص، وكذلك في حالة تنمر أحد الأشخاص الذين لديهم سلطة على الشخص المتعرض للتنمر، لتصل إلى السجن لمدة عام كحد أدنى، مع دفع غرامة مالية لا تقل قيمتها عن 20 ألف جنيه مصري، ولا تزيد على 100 ألف جنيه مصري. وتشدد تلك العقوبات إذا كان من تعرض للتنمر طفلا، أو إذا تحولت إلى تحرش إلكتروني، ويحدد قانون العقوبات المصري لجريمة التحرش عبر الإنترنت عقوبة بالسجن، لمدة لا تقل عن سنتين ولا تتجاوز 4 سنوات. في النهاية وحين تصبح الشهرة لعنة، فقصة نصار شريف ليست نهاية ظاهرة، بل مجرد جرس إنذار جديد ينضم إلى قائمة طويلة من ضحايا العالم الافتراضي .. وفي زمن أصبحت فيه اللايكاتوالمشاهدات عملة العصر، يغفل كثيرون أن خلف الشاشة أرواحًا هشة، يمكن أن تسقط صريعة بكلمة قاسية أو حملة منظمة من الكراهية.