محمد المخزنجى ارتبكت لبرهة خاطفة حين اتصلت بى الأستاذة أميرة يوسف من مؤسسة هنداوى لأكتب مقدمة لقصص يوسف إدريس الثلاث فى هذا الكتاب وبترشيح من الدكتورة نسمة إدريس. وكان مبعث ارتباكى أننى كنت قد قررت ألا أكتب فيما تبقى لى من طاقة ووقت إلا ما أود إنجازه مما يمكننى إنجازه من مؤجلات بدأتها وقطعت فيها شوطا، أو خططت لها ونسيتها، أو أنستنى إياها شواغل الأيام، خاصة وعامة. ولم يكن هذا القرار إلا لأن ذلك الخروج زاد عن حده، بينما تتناقص الطاقة، وصار أدنى خروج عما أحب كتابته، يشكل انقطاعا يحول دون تواصل ما انقطع. بينما الكتابة السردية صارت لديَّ وسيلة تواؤم نفسى مع واقع غير مألوف، عبر آليات دفاع نفسى أعرفها، وبت بها واثقا أن مجرد الكتابة، لذات الكتابة، خاصة الذكريات (لا المذكرات)، بعد السبعين، ليست محض ممارسة ممتعة ومشبعة لأشواق الإبداع، بل هى وسيلة وقاية نفسية وذهنية، وحتى جسدية! فهى وسيلة علاج نفسى (سيكوثيرابي) ذاتي، بتطهير أو تنفيس نفسى (كاثاريسيس)، خاصة للكتاب الذين هم أكثر البشر قابلية للانجراح النفسى وعواقبه الجسدية، فهى وسيلة للتنفيس عبر التعبيرات اللفظية عن المشاعر، تعادل عند الكُتَّاب ضرب كيس اللكم ثأرا من مكنون القهر، أو الصراخ لإطلاق المكبوت، أو الركض بعنفوان يدوس الهم والغم. وهكذا باتت الكتابة السردية الذاتية عندي، فى هذا العمر وهذا الزمان، وسيلة وقائية نفسية، وحتى عضوية، آمنة، وبأقل تكلفة لالتماس السلام، أتشبث بها وأتحاشى الخروج عنها. ارتبكت، فتحيرت، حيرة برهة من الزمن عمرها ثوان، لكنها محشودة بخلاصة رجع سنين وسنين، لكن، وفى غمرة هذه الحيرة، ومض الاسمان المضيئان: «يوسف إدريس»، و.. «مؤسسة هنداوي»! فتلاشت الحيرة. إنه يوسف إدريس، وإنها مؤسسة هنداوي، اسمان يشكلان عندي، وأظن عندى بخاصة، ركنين من أركان إسعادى كلٌ بطريقته، فيوسف إدريس كان أعز وأغنى صداقة ليس فى دنيا الثقافة والأدب التى جمعتنى به فقط، بل فى قلب وجودى ووجدانى الإنسانيين. وهى قصة طويلة جميلة، لا مساحة لها هنا توفيها حقها. أما مؤسسة هنداوي، فهى بكامل قناعتي: «أنبل مشروع ثقافى هادف بجدية وصدق لتقديم خدمة غير هادفة للربح»! خدمة للعقل العربي، ممثلة بما تيسره من كتب راقية ودقيقة الاختيار، خاصة كُتُب «الثقافة الثالثة» التى أتشرف بالانتماء إليها كاتبا وقارئا، وهى الثقافة التى تقدم أحدث منجزات العلم المتقدم ساحر المعطيات، مكتوبة بتحرير أدبى جميل ومرصعة باستعارات وتأملات من شتى العلوم الإنسانية، مُترجَمة بدقة منسابة، وفى إخراج أنيق مشرق. وقد اغتنت مكتبتى وعقلى بمعظم ما نشرته هذه الدار فى سنواتها الأولى فى نسخ مطبوعة كانت مقارنة بمثيلاتها من دور نشر مختلفة شديدة التيسير فى السنوات العشرين الماضية. أما فى السنوات الأخيرة، والتى صرت فيها أقرأ أكثر ما أقرأ عبر شاشة جهاز ال «ريدر» حانية الضوء على العينين المُتعبتين من كد السنين، فإن فضل هذه المؤسسة النبيلة امتد ليوفر لى ولآلاف القراء المصريين والعرب غيرى منحة هذه النعمة الحانية، فى نسخ الكترونية ناصعة، ودون مقابل! مما سبق، ومما هو لاحق، ومُستمر، يبدو لى أن الإنصاف يقتضى أن أخص بالامتنان اسمين يتواريان وداعة وتواضعا وراء هذه المؤسسة الثقافية النبيلة، وهما المصريان العالِمان رحيبا الأفق الثقافي: الدكتور أحمد هنداوى وزوجته الدكتورة نجوى عبد المطلب، اللذان أسسا هذه المنارة الثقافية النبيلة، كمؤسسة خيرية غير هادفة للربح، ويالخير صنيعهما نقى العطاء، فى وطن وزمن حقيقَين بهذا العطاء. فكيف لا يكون كل ذلك كفيلا بتبخر حيرتى وتلاشى ارتباكي؟! إنها مجرد ثوان، وتحولت الدعوة التى أثارت حيرتى وولَّدت ارتباكى إلى طمأنينة اكتشفت خلالها أن دعوتى لكتابة مقدمة لهذه القصص الثلاث المنسية ليوسف إدريس، فى هذا الكتاب، إنما تنطوى على دعوة كريمة لمواصلة التعافى النفسى الذاتي، تطهيرا وتنفيسا، باستحضار طيف الكبير العزيز المبدع النادر، يوسف إدريس، الذى لطالما تألمت فى السنوات الكبيسة الأخيرة لغباء تناسيه، فى حومة الغباءات التى يرزأنا بها هذا الزمان. وهاهى تطوف بى مواسية فمبهجة أفكار وذكريات ومشاعر يتصدرها طيف يوسف إدريس الصديق الكبير، الملهم، كاتبا وإنسانا وثائرا، وأعز من كانوا لى فى حياتنا الثقافية. ومن ثم لا أظننى سأكتب متقمصا دور الناقد الأدبي، بل سأترك نفسى لاستدعاء ذكريات وقناعات لطالما شكلت ما يعنيه لدى يوسف إدريس ككاتب عظيم، وروح استثنائي، بكتابته ومواقفه، بانفجاراته وانكساراته، وجمالاته! وببديهة قانون تداعى الذكريات، أجدنى أتوقف عند بواكير عمرى كقارئ ومشروع كاتب، يكتشف عالم يوسف إدريس كاتبا مفضلا وصديقا كبيرا أعز، تفضيلا صحيا لطالما اتسع لصدق التحاور العابر للأجيال، وصحة الوصول إلى قناعات مطمئنة الوثوق. تمهيد إلى يوسف إدريس فى هذا المقام، أحب كثيرا أن أركز على بداية تعرفى على أدب يوسف إدريس، فى عالم القصة خصوصا، وهى بداية متأخرة بعض الشيء، لكنه تأخُّر ولَّد القناعة عندى ناضجة مُعافية، كقارئ للأدب، قبل أن أكون كاتبا، فتشكلت لحظة اكتشافى لعظمة واستثنائية أدب يوسف إدريس، ففى مسار قراءتى التى بدأت مبكرا، قفزتُ من قراءات الطفولة والصبا، دفعة واحدة، إلى قراءة عمالقة الأدب الروسي، وكان ذلك فى الصف الثالث الإعدادي، عندما ذهبت إلى القاهرة كلاعب جمباز أول فى فريق المحافظة المكون من ستة لاعبين، لخوض منافسات بطولة الجمهورية للمدارس فى القاهرة. كانت فعاليات البطولة المنعقدة فى مركز شباب الجزيرة تستمر لثلاثة أيام تبدأ فى الصباح وتنتهى قبيل العصر، فنعود إلى «لوكاندة» إقامتنا فى «العتبة»، نتناول غداءنا ثم ننطلق لاستكشاف الأماكن القريبة من «هذه القاهرة الهائلة»! واستوقفتنى مكتبات «سور الأزبكية»، وعلى رصيف إحداها اكتشفت كتبا جيدة الطباعة تباع بقروش قليلة، كانت من «منشورات الشرق» التى يطبعها الاتحاد السوفييتى لتوزَّع فى العالم العربي، مٌقدِّمة ضمن ما تقدمه ذخائر الكتاب الروس العظام بقروش قليلة، وبقروش أقل عبر مكتبات، بل أكشاك كتب سور الأزبكية، هذه التى كانت تسمح بوقت مفتوح لتصفح هذه الكتب وقوفا أمامها. يومها، قلَّبت وتصفَّحت، بل أطلت وقفة القراءة، واشتريت بأربعة قروش مجلدين يضم أحدهما قصصا لتشيخوف، والثانى روايتين لتورجينيف هما «جداول الربيع» و«آسيا»، وكانت «آسيا» هى التى ملكت عليَّ عواطفي، فأطلت قراءة صفحاتها واقفا على الرصيف، واستأنفت قراءتها فور عودتى إلى لوكاندة إقامتنا، ولم أتوقف عن إكمالها حتى دخول الليل. وهنا كان عليَّ أن أتوقف عن القراءة لأخلد إلى النوم مبكرا تبعا لبرنامج لاعب ينافس فى بطولة الجمهورية، وهو برنامج صارم يسهر على استتبابه مدربنا، فيمر علينا ونحن فى أسرَّتنا مرتين، مرة فى العاشرة مساء وثانية عند منتصف الليل. ولأن «آسيا» تورجينيف بالغة الرومانسية تشبثت بعواطف المراهق الذى كنته، لم أستطع التوقف عن قراءتها، فخادعت المدرب واضعا حقيبتى وثيابى وإحدى وسادتى السرير تحت البطانية، حتى أبدو للمدرب غارقا فى النوم. وقد مكنتنى هذه الخدعة من التسلل إلى ردهة جانبية فى أحد طوابق اللوكاندة بها كنبة خشبية للجلوس تحت مصباح مضاء، ورحت أقرأ وأبكى مصائر العشاق، ولم أتوقف عن القراءة وذرف الدموع إلا قرب الفجر، مهدودا مكدودا مع آخر جملة فى رواية آسيا والتى لم أنسها أبدا: «تُرى أين انتهت يدها الجميلة، هل صارت حفنة تراب فى زاوية من قبر مجهول»! وعدت لأنام، لكن هيهات. لقد مكثت مؤرقا بالشجن حتى الفجر، ولعلِّى لم أنم إلا ساعة أو ساعتين، وصحوت مبكرا كما ينبغي، مهدودا بالطبع وضائعا فى تراجيديا الحب الروسي، ويومها سقطت أثناء أدائى على جهاز الحلقتين الذى كنت مرشحا للفوز بإحدى ميدالياته، سقطت من ارتفاع ستة أمتار بينما أؤدى صعوبة أجيدها هى «جراند سيركل» (دورة هوائية كبري). وتلقتنى فرشة الرمل الحانية بينما كنت فى ضباب موت الحبيبة «آسيا» لا أزال، ومن هذا الضباب خرجت بقراءة أولى القصص فى كتاب تشيخوف عند العودة إلى اللوكاندة، فتولعت بهذا التشيخوف، وبفن القصة التشيخوفية التى مضيت أقارنها بما ألقاه من القصص العالمى مترجما ضمن حركة ترجمة كانت رائعة وميسَّرة فى مطبوعات هيئة الكتاب التى كان لها فرع كبير فى المنصورة. مقياس القصة الفائقة صارت قصص تشيخوف هى نموذج القصة القصيرة الفائقة عندي، وللفضول والمقارنة رحت أقرأ ما أعثر عليه من قصص قصيرة لكتَّاب عالميين مختلفين وكان وليم سارويان أكثر من تعلقت به بعد تشيخوف، وصار هذا نموذج ومستوى القصة الذى يرضيني، وحينها مررت مرور الكرام بما كنت أقرأه من كلاسيكيات القصة المصرية، حتى وقعت على قصص يوسف إدريس وأنا فى الصف الثالث الثانوي، فصرخت: «هوَّ ده احنا»، بما يعني: هذا هو الكاتب الذى يضارع تشيخوف وسارويان، ولكن بروحنا المصرية العربية. لماذا؟ وكيف؟ «هوَّ دا احنا»! أى كاتب مصرى عربى بعلو قامة الكتاب العالميين لكن بخصائص من تجليات لغتنا وطبيعتنا وطبائعنا، والنابعة كلها من فن «الحكي» لدى المصريين خاصة. صحيح أن القصة العربية شرعت تفارق الكثير من تقليدية السرد واللغة مع محمود تيمور (وإن كنت أعتقد أن قصص شقيقه محمد تيمور هى الأفضل)، وصحيح أن الأب الجميل يحيى حقى خطا خطوة أوسع وأكثر حداثة وسلاسة فى نسج القصة المصرية العربية، وبشكل خاص من خلال تنظيره الهادئ والوديع لما ينبغى أن تكون عليه لغة القص وتدفق السرد، إلا أن هذه الخطوة الوديعة من الوديع البديع يحيى حقى كانت مجرد نسمة، بينما التجديد الواجب لمواكبة ارتقاء القص العالمى كان يتطلب عاصفة! وجاءت طلائع قصص يوسف إدريس لتكون ليست عاصفة فقط، بل عاصفة مطيرة اقتلعت وأطاحت بكثير من القديم الوعظى وتقليدى اللغة، وبذرت وروت الجديد المتدفق السلس وعميق الرؤية، مما وضع قصتنا المصرية العربية، تبعا لقناعتى التى لم تتبدل، فى مصاف القصة العالمية، بروح جريء مقتحم! كلام يبدو «كبيرا»؟! نعم، لكن له منطلقاته، وهى عندى واضحة جلية الوضوح، ويمكن إيجازها فى ثلاثة عناصر تميزت بها قصص يوسف إدريس وهي: (1) حداثة وسلاسة اللغة، و(2) أسلوب الحكي، و(3) استخراج الرؤية، أو القانون العام أو الحاكم مما تسرده القصة دون وعظ أو إلحاح أو تنظير. مجانين يتحدثون بالفصحى! فيما يخص لغة القص: أعاد يوسف إدريس اكتشاف جمالية العامية المصرية التى هى تبعا للدراسات اللغوية أقرب اللهجات العربية إلى الفصحى، وهذا ما يمكن تبينه فى دراسات كثيرة أذكر منها كتاب الدكتور سيد عاشور فى تأصيل فصاحة الكثير من الألفاظ العامية المتداولة فى لهجة المصريين. وكذلك معجم الألفاظ العامية ذات الحقيقة والأصول العربية للدكتور عبد المنعم سيد عبد العال. وفى هذا المجال أحب كثيرا تعبير «من يعرف أكثر يغفر أكثر» أى من يعرف العربية الفصحى أكثر يكتشف أن الكثير من عاميتنا المصرية ذو أصول من هذه الفصحى. وحتى لو ابتعدنا عن هذا الغفران المنكور من عتاة تجميد الفصحى العربية، فإن شيوع العامية المصرية فى عالمنا العربي، كان ولا يزال طبيعيا فى سياق تجديد لغتنا العربية، فهى ككل لغات البشر تنمو فتفارق ما تفارق وتكتسب ما تكتسب. وأعتقد أن يوسف إدريس اجترح هذا الطموح فى كتابته القصصية وغير القصصية، وكان أوضح ما تجلى من ثمار هذا الاجتراح هو كتابة الحوار القصصى بالعامية الناطقة بسمت أبطال هذه القصص مما يجعل حضورهم أكثر تجليا وتجسُّدا وإقناعا، بينما لو أنطقناهم بالفصحى لبدا الأمر مثيرا للضحك أحيانا! وعندى تجربة قريبة تكشف عن ذلك، فقد كتبت قصة تدور فى مصح للأمراض العقلية، وكتبت الحوار بلسان مرضاها، أى بالعامية، وعندما أرسلت القصة لإحدى الجرائد لنشرها قام المُراجِع من قسم التصحيح بتفصيح حوارات المرضى العقليين، وعندما قرأت بروفة النشر صرخت، فقد كان ذلك جنونا يحيل تراجيديا الجنون إلى مسخرة تثير الضحك.. ضحكا كالبكا! وتم إعادة الحوار إلى روحه، إلى العامية عميقة الدلالة على ناطقيها عقلاء كانوا أو مجانين! سليل حكى المصريين الآسر وعن تقنية السرد القصصى عند يوسف إدريس، والذى قطعا لم يكن مخطوفا بتقنية الاقتضاب أو جبل الجليد العائم عند هيمنجواى العظيم، ولا إيحائية الإيماء الجوانى الغائم عند ناتالى ساروت أو فرجينيا وولف. وهذه كلها أساليب غربية لها تقديرها الأدبى لكنها ابنة واقعها كتابة وقراءة. كان سرد يوسف إدريس مشرقا، أقرب إلى إشراق لغة البوح عند تشيخوف وموباسان، لكنه بوح وحكى ابن واقعه، سليل حكى المصريين الآسر إذا تسامروا وتكاشفوا. وبهذا الحكى المصرى تقنيات تكتنزها السليقة التقطها وطورها يوسف إدريس، فهو يلتقط «خطفة التشويق» منذ البداية، من أول جملة أو أول فقرة، ولكن فى إطار أدبى إذا حللناه لسطعت لنا افتتاحيات الحكى لدى المصريين فى المقاهى والبيوت وحيثما كان هناك من يقصدونه بإخبار الحكاية، فيبدأون من ذروة تشويقية قد تكون أقرب إلى نهاية القصة أو وسطها المدوي. وهنا أتذكر المفتتح «التوسينامي» لقصة يوسف إدريس الشهيرة «النداهة»! ومن كان يستطيع مقاومة إغراء الاندفاع فى قراءة هذه القصة من بداية الصدمة حتى نهاية الكارثة؟! كما أتذكر مآل الصرخة الافتتاحية فى قصة «رأس الجمل»، أو جذبة التوق فى «مسحوق الهمس»، او هدهدة البراءة فى «لعبة البيت». هدية روح وإبداع صنعة أما ثالثة ثالوث خصائص القص الإدريسي، وأخطرها شأنا، أى الرؤية العامة التى تقدمها القصة الإدريسية فور الانتهاء من قراءتها إيماءً أو إلماحا أو مُخايلة من قانون عام أو قانون حاكِم يستخرجه القارئ مما قرأ، فهذه هدية روح وإبداع صنعة وراءهما تشكيل الكاتب المفكر والثائر والمتمرد والشغوف بتجلية ما فى الأعماق، وما وراء الظاهر. وتكشف قصة «أنا سلطان قانون الوجود» من بداية عنوانها وحتى آخر جملة فيها، كم كانت الرؤية أو القانون العام أو الحاكم التى تُجلِّيها قصصه غاية عظمى لديه، سواء عبر اللاوعى المبدع أو الوعى المومئ أو الموحِي. فكأنه فى هذه القصة التى أتت بعد سيل من قصصه القصيرة والطويلة غامرة النجاح، أراد أن يقول «انتبهوا إلى المغزى، إلى الرؤية العامة، إلى القانون الحاكم فى كل حدث تسرده قصصي»، فهو بعنوان هذه القصة يطلق هذا التنبيه، قلِقا من ألا ينتبه قراؤه إلى هذا الهدف المضمر فنيا عنده. وقد كانت القصة تستخلص هذه الرؤية وهذا القانون الحاكم لصراع القوي، بين الأسد سلطان ومدربه محمد الحلو، وكيف أن قوة ردع الأسد من محمد الحلو فى شبابه، تبيَّن للأسد أنها تراجعت وهانت مع كبر سنه، فجرَّب أن يختبر هذا التراجع وذلك الهوان مع مُخوِّفه الذى كان، فضربه ضربة «تهويش»، قتلته! هذا قانون دوران القوة بين القامع بها والمقموع، لكن لم يكن هذا ختام القصة ونهاية مغزاها، فقد أضاف يوسف إدريس بنصف سطر ملحقا بقانون دوران القوة ذاك، إذ أن الأسد الذى قتل مدربه عندما أحس أن زمام القوة قد انتقل إليه، لم ينجُ من عاقبة هذا اللعب بالقوة، فقد كف عن الطعام اكتئابا إذ قتل أقرب مخلوق إليه بعد انتزاعه من صحبة أهل وزملاء البراري! ومات. ويالها من «رؤية عامة» تتجاوز حدود عروض السيرك، إلى سيرك الحياة، الذى لا يدرك البشر فيه شؤم الاستبداد بالقوة، ويدركها الحيوان! الرجل والنملة وصرصار التحول فى السياق نفسه، أتذكر حوارا دار بينى وبين يوسف إدريس بعد نشره قصته «الرجل والنملة»، قصة تحكى عن عمدة مهيب السمت تجاوز سن الشباب وتم إدخاله السجن بتهمة ملفقة لسبب من الأسباب الكثيرة التى كانت التهم فيها تُلفق للناس حينها، وفى ساحة الأشغال الشاقة بالسجن يبدو أن الضابط المشرف على هذه الساحة استفزت مهابة العمدة السجين عجرفة سلطته وخواء نفسه، فأمر العمدة بإحضار نملة أنثى والنوم معها! وكان عدم إطاعة العمدة السجين لأمر السجان يعنى التمرد واستحقاق عقاب المتمرد، بهول من ضربات العصى الغليظة يهوى بها العساكر المؤتمرون بأمر الضابط. حاول العمدة أن يبدى تعجبه من الأمر فانهالت عليه الضربات، هرول ليحضر نملة فقال الضابط إنها نملة ذكر فاستؤنِفت الضربات، ولما أحضر السجين نملة وافق على أنوثتها الجلاد أمر العمدة بأن ينام معها، كما ينام الرجل مع امرأته! تلكأ العمدة متحيرا فدفعته الضربات إلى جنون المحاولة. وعندما دفعت آلام الجسد ومهانة النفس ذلك العمدة للتوقف عن مماشاة هذا الجنون الوحشي، وجد نفسه فى مأزق إنسانى حرك داخله أقوى أحاسيس الأبوة، فقد كان بين السجناء فى ساحة الشقاء هذه بضعة صبية سجناء كان ضرب العمدة إذا توقف عن محاولة تقمص دور ذكر نمل مع نملة، يتحول الضرب إلى هؤلاء الصبية المساجين فتتصاعد صرخاتهم كصوصأة كتاكيت بشرية تسحق قلب الأب العطوف لدى العمدة السجين، فيمعن فى تقمص كيان ذكر النمل حتى تحول بالفعل، أو مُسِخ إلى نملة ذكر. وكان مسخ هذا الإنسان فى قصة يوسف إدريس مسخا نفسيا على غير ما كان بطل قصة كافكا الذى مُسِخ جسديا. كما لم ينتحر كمتحول قصة كافكا، بل مات.. مات قهرا. قهر مختلف، وسرد مختلف، ورؤية مختلفة، إدريسية كلها، فلماذا كان يوسف إدريس قلِقا، بل حزينا برغم أن القصة ذاعت وتًرجِمت فى كندا ولقيت تقديرا لافتا؟! قانون برنارد شو السؤال السابق يبدو مبتعدا عما نحن فيه من استكشاف لخبايا قصص يوسف إدريس، لكنه أقرب ما يكون، فيوسف إدريس لم يكن كاتبا منفصلا عما يكتبه، بل كان هو نفسه نصا حيا لم يُقرأ جيدا كما ينبغي، وهذا ما تستدعيه ملابسات غير أدبية جرَّتها هذه القصة نفسها على مبدعها، وهى ملابسات تستدعى قانونا عاما، لا ينطبق على القصة هذه المرة، بل على كاتبها، قانون لخصه برنارد شو فى مقولته الطلقة: «لا شيء يثير الحسد كما موهبة حقيقية»!! فلقد جاءت قصة «الرجل والنملة» بمثابة عودة ليوسف إدريس بعد غيبة اختطفته فيها شخصية الثائر الدائم فى تكوينه ومسيرته، وكان فن مقاله الناقد والكاشف والمحتج والمتصادم يقابل بمقروئية كاسحة. وللمناسبة أرى أن هذه المقالات البارقة لو أُعيد نشرها لاكتشفنا أنها كانت نبوئية ومستشرفة لطرق الخلاص من كثير السوء الذى لم يكف عن التكرار فى عالمنا وأحوالنا. ويبدو أن غيبة يوسف إدريس القصصية كانت مريحة لكتَّاب الأدب محدودى الموهبة، الذين توهموا أن سطوع يوسف إدريس كان يكسف لمعانهم ويبقيهم فى انطفاء الظل. وهذا لم يكن حقيقيا أبدا، بدليل لمعان كتاب أدب موهوبين حقيقيين شكلوا أكثر من جيل تالٍ ليوسف إدريس، وكان يوسف إدريس أكثر المحتفين والمرحبين بهم. وفى هذا السياق أذكر أن يوسف إدريس قدم أبرز نجوم جيل الستينيات فى بداياتهم الواعدة وبشَّر بهم على صفحات مجلة الكاتب حين كان من أسرة تحريرها. أما «المديوكر» فى المجتمع الأدبى والثقافي، فكأن بينهم وبين يوسف إدريس معركة من جانب واحد تشكلها أوهامهم أو تهاويمهم عن أن يوسف إدريس سد عليهم الطريق وسرق منهم البريق! وهؤلاء من نشروا فرية أن يوسف إدريس «انتهي»، «نضبت موهبته»، ولا بد أن ذلك الهسيس المعتم قد بلغه، وعوضا أن يفرح بعودته فرح أى مبدع برجوعه إلى عالمه الأحب، أى الأدب، وجدت يوسف إدريس حزينا فسألته لماذا والعودة طيبة ومُقدَّرة؟ أجاب: «بخاف يا محمد لأن الناس بيشوفوا قطعة الحديد ساكنة وميدركوش إن مظهرها بيخفى داخلها حركة مذهلة فى ذراتها من دوران الإلكترونات حول الأنوية وزخم الغليان بين النيوترونات والبروتونات داخل الأنوية»! القصة وقلب الحديد والبرِّيمة! كانت ثقافة يوسف إدريس العلمية استثناء بين كتَّاب الأدب، ومن يجلس فى استقبال بيت يوسف إدريس سيشهد فى امتداد مكتبته على أرفف بين السقف وأحد الأبواب كتبا بالإنجليزية فى الفيزياء الحديثة التى كان مولعا بها. هذا إلى جانب ثقافته العلمية كطبيب لم يكف عن الانشداد إلى المستجد فى عالم الطب، وقد كان يستمتع جدا حين نتناقش فيما نعثر عليه من جديد العلم. وعندما تحدث عن قطعة الحديد التى تبدو ساكنة بينما تمور فى قلبها حركة هائلة، وجدت نفسى ألتقط تفسيرا لعلاقة الظاهر بالباطن فى أى عمل أدبي. وكيف يمكن أن يلوح مضمر الباطن عبر ظاهر التشكيل. وعبر هذه اللمحة الإدريسية، يمكن أن نفهم أهم أسرار خصائص قصص يوسف إدريس، أى الرسالة، الرؤية، القوانين الحاكمة للظواهر البشرية، وهو ما يتجلى أيضا فى قصص هذا الكتاب.. المنسية! الآن أتذكر تعبيرا سمعته من الصديق والأب والمبدع والمثقف الكبير النبيل شديد التواضع وإنكار الذات أبو المعاطى أبو النجا وهو يصف سرد يوسف إدريس القصصى بأنه كمن يعمل ب«بريمة» يظل يديرها لتحفر فى الأرض أعمق فأعمق حتى يصل إلى مبتغاه، سواء عمق بئر يتدفق بماء السقيا أو بنفط يحرك العالم ويضيئه (أو يضنيه). وسأستبدل مصطلح «البريمة» بمصطلح «سبر الأغوار» أو «استكشاف الخافية» فى التحليل النفسى والطب النفسي، ليس فقط لأننى طبيب نفسي، بل أيضا لأن يوسف إدريس نفسه عمل بالطب النفسى لفترة ظن فى بدايتها أن هذا مجال تخصصه الأفضل، ولقد افتتح عيادة لممارسة هذا التخصص بالفعل فى ميدان الجيزة، وكانت كما روى لى من عرفوها عيادة عجيبة، فهى مفتوحة ليس فقط ليستقبل فيها الطبيب النفسى يوسف إدريس من يلتمسون عونه على اضطراب أنفسهم، بل أيضا لكل من يقصدها من الأصدقاء الأدباء، فمن لا يجد مكانا للمبيت ينام فيها، ومن يبحث عن مكان للقاء صديق تكون الملتقي، فتجد أحدهم غارقا فى النوم على كنبة فى أحد غرفها، وآخر يتناول طعامه فى ركن آخر، أو مجموعة صغيرة تتناقش فى قضية من قضايا الأدب والفن أو الشأن العام. ولم تستمر هذه العيادة طويلا ليس بسبب هذه «الفوضى الإبداعية» كما أسميتها ضاحكا عندما علمت بأحوالها، ولكن لسبب آخر مدهش ودال أخبرنى به يوسف إدريس. نهاية عيادة الطبيب النفسي فى الدقائق الأخيرة من موعد استقبال المرضى بتلك العيادة العجيبة، استقبل الطبيب النفسى يوسف إدريس مريضا مُشوَّشا بينما يتهيأ للانصراف لارتباطه بموعد مهم خارجها، ومن الدقائق الأولى وبآلية سبر الأغوار، أو كشف الأعماق عبر ملامح قليلة من الظاهر، وهى غريزة لدى كل مبدع حقيقي، وموهبة تميز أى طبيب نفسى يمتلكها أو ينميها، أدرك يوسف إدريس أن ذلك المريض المشوش الذى جاءه متأخرا، بداخله الكثير والخطير مما ينبغى الإمساك به لتشخيصه بدقة، ومن ثم تدبير ما بعد التشخيص، فاستأذن من الرجل أن يكتب ما يحس به وما يراوده ويأتى به إليه فى اليوم التالي. وفى اليوم التالى أتى الرجل وقد أفرغ مابه فى مائتى صفحة وش وظهر(أى أربعمائة صفحة) بكشكولين كاملين! سأله يوسف إدريس مستغربا «متى كتب كل ذلك»؟ فأخبره الرجل أنه كتبه فى الليلة السابقة! عندها أحس يوسف إدريس كما حكى لى أن هذا المجنون يمكن أن يقتله بدافع من اشتعال عقله المسموم بالهواجس والهلاوس والضلالات! والحقيقة أن يوسف إدريس كان يمكن أن يكون طبيبا نفسيا فذا، ليس بالمعرفة التخصصية فقط، بل أهم فى رأيى بما لديه من هبة وموهبة سبر الأغوار النفسية للبشر تجلت فى قصصه. لكن يبدو أنه كان يشفق على نفسه التى لا تحتمل المزيد، خاصة وقد كانت له مؤاخذات عميقة وكثيرة وصحيحة على الطب النفسى الذى عاينه وعاناه، وأتذكر أن زملائى من أطباء مستشفى العباسية، ومعظمهم مثقفون وقراء أدب، رجونى أن أتوسط لدى يوسف إدريس لاستضافته متحدثا فى يوم ثقافى مما كان يُعقد بالمستشفي، وعندما أخبرته رفض فورا وكان تبريره أن المصحات النفسية «أماكن مسمومة» لا يحب التواجد فيها! وقد تفهمت اعتذاره عن الدعوة، فالكاتب الحقيقى سابر أغوار، أو مستكشف نفسى بالغريزة، ومن ثم سيجد نفسه مُحاصَرا بتعاسة المرضى العقليين التى سيلمح خفاياها من بؤس ظاهرهم. وقد كان يوسف إدريس كاتبا حقيقيا جدا، ومن ثَم سابر أغوار أريب. وهذه الهبة، بل الموهبة، أراها أهم ما منح يوسف إدريس الخصوصية الفنية التى ألمح إليها الأستاذ أبو المعاطى أبو النجا وإن كنت أسميها «فن التنقيب القصصي»، وهى خصوصية يمكن لمح تجلياتها بجلاء، كأهم ما يميز الأدب الإدريسى عموما، وقصص هذا الكتاب الثلاث نماذج تفصح عن ذلك. عرق ذهب هذه القصص وكما أن هدف التنقيب الجيولوجى فى أشهر مساعيه هو الوصول إلى عرق الذهب فى الأغوار العميقة لصدوع صخور الجبال التى يوشيها بريق الكوارتز الخافت الذى لا تلمحه إلا عين مدربة أو موهوبة أو كلاهما، أرى أن غاية «التنقيب القصصي» عند يوسف إدريس هو استخراج «عرق ذهب» آخر، أدبي، وقصصى على وجه التحديد، يكتنز ما سبقت الإشارة إليه تحت مسمى «الرؤية العامة» أو «القانون الحاكم» فيما تحكيه القصة من مأساة أو ملهاة إنسانية. وبعضها سبق به يوسف إدريس فى قصصه ما أكده العلم بعد ذلك. بدايةً، أمر على قصة «اختلاس زائرة» بسرعة، لأن «عرق ذهبها» أو قانونها العام أو الحاكم جلى لدرجة البداهة خاصة لمن عرف ما يكفى من تفاعلات النفس البشرية حال الاحتجاز سواء فى سجن أو عنبر مرضي. فالاحتجاز المُكبِّل فى الحالين، يفجر آلية تعويض نفسية تتسم بتشبث البشر بالبشر، كشهقات مواسية تحت وطأة كرب الجسد الأسير فى عنابر المستشفيات، أو خنقة النفس فى الزنزانات. كلاهما سجن على نحو ما، أحدهما سجن أسود، والآخر أبيض، ولا عزاء إلا إإتناس الإنسان بالإنسان، قريبا كان أو بعيدا، زميل عنبر أو زنزانة، أو زائرا لنزلاء السجن أو المحجوزين فى المستشفى. أما قصة «المارد» التى لا يستغرق زمن وقوعها بضع ثوان، فقد استغرق تنقيب يوسف إدريس فيها ثمانى صفحات محشودة بقرابة ألفى كلمة ليصل إلى عرق الذهب فى ثناياها، فعرق الذهب بها أو القانون الحاكم المستخلص منها هو هذه القوى الخارقة الكامنة فى الكيان الإنساني، عندما ينتفض فى مواجهة الخطر الداهم، وهى قوة تتجلى فى برهة خاطفة، لكنها تكوين نفيس تَشكّل عبر خبرات الإنسان على امتداد آلاف آلاف السنين، من مواجهة تقلبات الطبيعة الأولى العاتية، ومخاطر مجابهة أغوال الأزمنة السحيقة ووحوش غابر القرون. وهذا كشف أدبى صار يؤكده العلم فى سياق الفهم «التطوري» الصحيح فى علم النفس وطب الأعصاب عبر تشريح رودود أفعالنا الخارقة والبارقة المتراكمة داخلنا فيما يسمى اللاوعى أو «الخافية». قانون طبيعى داخلنا، رصدت معجزته القصة، كاشفة عن بريق الذهب فيه والمُكنَّى عنه بما ننطوى عليه من قوة وراء هشاشة ضعفنا. قوة ليست مادية فقط، بل معنوية كذلك. ثم تأتى قصة «من المخلصة جدا»، قصة تبدو مطروقة وبالغة البساطة، تلوح وكأنها تكرر تيمة السأم الزوجى بين الرجل والمرأة، لكن بين يدى مُنقِّب قصصى خبير، يخرج منها غصن ذهب القانون الحاكم لترددات العلاقة بين الذكر والأنثي، المرأة والرجل، حال الاقتران الذى جوهره الحب الرومانسي، وجوهر جوهره التوحد الجسدي، الذى غاية جوهر جواهره الإخصاب، فالإنجاب، ومن ثم عمارة الأرض. وليوسف إدريس مقولة تبدو شاطحةً لكنها دقيقة وحقيقية نصها «الحب جنس ملفوف فى ورق سوليفان»، وهذا لا ينتقص من ظاهرة الحب ولا يشينها. فهذه خبيئة غصن الذهب فى علاقة الذكر والأنثي، والتى تسوق البشر سواء بوعى أو لاوعى لغاية كونية جليلة لا شك. والمراحل التى تعرضها القصة فى هذه العلاقة هى ما كشفت عنه الأبحاث العلمية فى ظاهرة الحب الرومانسي، والتى جاءت بعد كتابة يوسف إدريس لهذه القصة بسنين وسنين، فى كتاب «لماذا نحب؟ طبيعة الحب وكيمياؤه» لعالمة الأنثروبولوجى هيلين فيشر، التى انتقلت من أبحاثها الأنثروبولوجية إلى الأبحاث الطبية والطب نفسية لكشف ماهية ظاهرة الحب الرومانسي. والذى يمضى فى نسق من مراحل تبدأ بالشغف ثم التعلق ثم الاعتياد، وفى ثالثة هذه المراحل يطفو السأم، خاصة مع زيادة وطأة متطلبات نتاج هذه العلاقة من أبناء وأعباء. وقد جسَّدها يوسف إدريس ببساطة بادية تنطوى على خبيئة «غصن الذهب»، والمتمثل فى أن هذه العلاقة خطيرة الشأن بين الرجل والمرأة، ضمن مسيرة إعمار الأرض، يمكن إنقاذها فى مرحلة الاعتياد والتململ بلمسة صغيرة ، لسمة صغيرة جدا من الود والحنو الإنساني. وهو ما انتهت به هذه القصة. فإذا كانت هيلين فيشر، وبأحدث معطيات البحث العلمى وتقنياته قد جلَّت الوعى بتغيرات مراحل الحب الرومانسي، ومن ثم ألمحت إلى ما يمكننا عمله لإنقاذ قصص حبنا بفهم تغيرات أو تقلبات مراحل هذا الحب، والتى يروق لى ترجمة معطياتها النفسية والجسدية، الهورمونية والكيميائية الحيوية، التى أماطت هيلين فيشر اللثام عن طبيعتها، بأنها وبالرجوع إلى أغنيتى عبد الحليم وأم كلثوم - أحب ترديد أن الحب هو: انتقال من بدايات توهج «حبك نار» إلى مآلات «الحب هو الود والحنية»! وهذه الرؤية الشعرية الغنائية التى سبق بها الفن ما كشف عنه العلم من تغيرات مراحل الحب الرومانسي، لم يتوقف «عرق الذهب» فى قصة يوسف إدريس البسيطة العميقة «من المخلصة جدا» عن جلاء طبيعة تغيرات الحب، بل تكرم بتقديم هبة إنقاذ هذا الحب، وهى بالغة البساطة، ومحلقة الرهافة، وميسرة للمحبين. منقذة لصيرورة إعمار الأرض! ليس أخيرا ليس أخيرا، وفى مواجهة ما أعتبره غفلة عجيبة كأنها متعمدة عن قيمة يوسف إدريس، أشير إلى مغالطة واجبة التصحيح، فثمة ما يلوح ترويجا يُبدى أن إبداع يوسف إدريس الأدبى اقتصر على القصة القصيرة، وهى مغالطة خبيثة وجاهلة تقلل من شأنه ككاتب قصص قصيرة مقارنة بكتَّاب الروايات! فثمة كتَّاب لم يكتبوا إلا القصة القصيرة، بل القصيرة جدا، كالأرجنتينى العظيم خورخى لويس بورخيس، وابن الأوروجواى الساحر إدواردو جاليانو، وكلاهما كانا ولا يزالان بعد رحيلهما يشمخان كأديبين عالميين عظيمين، بل يفوقان فى اتساع مقروئية أعمالهما روائيين عالميين كثر. ومع ذلك، وبرغم المغالطة الخبيثة والجاهلة فى حق يوسف إدريس، فهذا المبدع المصرى الكبير لم يقتصر إبداعه على القصة القصيرة التى كان محررها وأميرها فى عالمنا العربي، بل كان مبدعا متميزا للرواية الموجزة، أو النوفيلا، فى أعمال كثيرة، من «العسكرى الأسود» المذهلة إلى «الحرام» الموجعة. وحتى فى الرواية الأكثر طولا، فروايته «البيضاء» كانت نسقا تجريبيا فريدا فى زمنه، وقد خبأ فيه كل خصائص السرد الإدريسي، تجريبية حداثية تماما وبروح مصرى حار ورهيف، وإننى أتعجب كيف لم ينتبه النقد إلى فرادة هذه الرواية، أقله لجهة التقنية، إنها اختراق.. مونولوج بزخم 73 ألف كلمة على امتداد اكثرمن 220 صفحة، ومع ذلك يمسكك مشدودا لمواصلة القراءة حتى آخر جملة. وهذا الجذب العجيب لقارئ الرواية، لم يكن صنعة «بوب آرت» مما يُنشر فيما كان يسميه يوسف إدريس «أدب النميمة» لدى أكثر كتَّاب الأدب توزيعا وتكريسا سينمائيا، أو أدب الجريمة، أو الخيال العلمي، أو غير ذلك مما يخاطب قشرة التسلية والفضول عند القراء. لقد كان يوسف إدريس فى روايته الطويلة هذه، باحثا أيضا عن عرق الذهب عبر صدوع جبل وعر، لا يمثل فقط ألغاز علاقة الرجل بالمرأة، بل علاقة الثقافات الإنسانية على خط التماس، وعلى خط التماس أيضا، كشف تهافت عبودية الأيدولوجيا السياسية ومآلاتها الكارثية التى تجسدت بعد ذلك بعقود فى الانهيار التراجيدى وشبه المجانى للاتحاد السوفييتي! ويبقى ثمة ما يربط بداية هذه المقدمة بنهايتها، وهو رابط يبزغ دون ترتيب مني، إذ اكتشف أن «مؤسسة هنداوي» ومن شاسع وفائها للكتابة والكتَّاب المبدعين وواجب تقديمهم للقراء المصريين والعرب فى نسخ الكترونية مجانية، لم ينسوا يوسف إدريس فى نشر إبداعه ميسَّرا للقراء دون مقابل، خاصة الأجيال الجديدة التى أضحت تقرأ أكثر ما تقرأ على شاشات الأجهزة الالكترونية.