لم يمنع أو يعيق ضعف أو فقدان البصر الشيخ محمد رفعت – الى جانب حفظ وتجويد وقراءة القرآن- من الاهتمام بدراسة الموسيقى، ويحب ويستمع الى كبار المؤلفين الموسيقيين العالميين أمثال بيتهوفن وموزارت وشوبان وفاجنر وأن يتعلم ويتقن العزف على العود وأداء التواشيح الدينية وبعض الأدوار الغنائية وخاصة للشيخ أبو العلا مكتشف كوكب الشرق أم كلثوم الذى ولد بعد الشيخ رفعت بعامين عام 1884 ولكنه رحل صغير ا عن عمر 43 عاما فقد غنى من ألحانه" أراك عصى الدمع"، و"حقك أنت المنى والطلب" قد يثير ذلك دهشة البعض من القراء ..فكيف لهذا الشيخ الكبير فى المقام وسيد قراء القرآن أن يستمع للموسيقات العالمية ويدرس الموسيقى ويعزف العود ويغنى و يؤدى الأدوار الغنائية والتواشيح..؟! والاجابة بسيطة للغاية، فالتدين وقراءة القرآن فى ذلك الزمان منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى سبعينيات القرن العشرين لم يرتبطا فى أذهان المصريين بالتشدد، أو باعتزال المجتمع، أو ب"مشايخ الغبرة والنكد"، وفتاوى الإرهاب والتكفير، وكراهية وتحريم كل شيءٍ. فقد كان الشيخ رفعت معبرًا عن زمانه الجميل ومجتمعه الساعى للتحرر و كسر جمود التخلف، فحينما أراد الشيخ أن يستزيد من العلم، قرر أن يتعلم الموسيقى بنصيحة من شيخه الذى علمه وحفظه القرآن وهو الشيخ " السمالوطي" وفى سن مبكرة، ثم تدرب على عزف العود حتى أتقنه، ثم حفظ مئات الأدوار، والتواشيح، والقصائد، كما استمع إلى الموسيقى العالمية وترك كل ذلك أثرا لافتا فى طريقته فى التلاوة، فأصبح قادرًا على اختيار المقام الموسيقى المناسب لكل سورةٍ، ولكل آية حتى أنه أتقن الانتقال بين المقامات بصورةٍ لم يستطعها موسيقيون كبار فى ذلك الوقت. وكان ينشد تواشيح ومدائح نبوية وقصائد، إضافةً إلى تلاوته للقرآن، فقد تعلمت منه أم كلثوم، وليلى مراد المقامات، واهتم بشراء الكتب، ودراسة الموسيقى الرقيقة والمقامات الموسيقية، وحفظ العديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية فى مكتبته. وفى كتابه "مشايخ فى محراب الفن"، يذكر الدكتور خيرى عامر:" لم تكن لتكتمل لقارئ القرآن الجديد أدواته بدون دراسة الموسيقى، والإلمام بقواعدها وطبع صوته بسحرها" من هنا سعى الشيخ محمد رفعت الى تعلم قواعد الموسيقى من خلال العزف على العود، وحفظ الكثير من إبداعات كبار ملحنى عصره من أمثال: الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب، وعبده الحامولي، ومحمد عثمان، وأبو العلا محمد حتى أن من الباحثين من يذكر أن هناك من استمعوا إلى الشيخ وهو يردد بعض القصائد مثل: أراك عصى الدمع، وحقك أنت المنى والطلب، وسلوا قلبي. أكثر من ذلك فقد ارتبط شيخنا محمد رفعت بصداقة قوية مع العديد من مبدعى الفن فى هذا الزمان، ومنهم الموسيقار محمد عبد الوهاب، والفنان الكبير نجيب الريحاني. وفى حديثٍ له عن ذكرياته مع الشيخ محمد رفعت يقول الموسيقار محمد عبد الوهاب:" كنت أشعر أنه يخاطب الله فعلًا، لم تكن تلاوته مجرد قراءة، وكنت أشعر أنه بين يدى الله قبل أن يقرأ الآية، فالإيمان مختلط بصوته وصوته مختلط بالإيمان". الشيخ رفعت كان يعرف كيف يلمس روح المستمعين بصوته، وكيف ينقل معانى الآيات إلى قلوبهم، لم يسِر فى طريق من سبقوه، وإنما شق لنفسه طريقا خاصًا به مسجلًا باسمه حتى اليوم، حاول تقليده كثيرون، اقترب بعضهم من صوته، ولكن لم يقترب أحد من روحه وتصديقه لما يرتل. ويروى الشيخ أبو العنين شعيشع، أنه لم يشهد فى حياته قارئًا يتمثل الآيات، ويتأثر بما يرتل حتى أنه يبكى دون أن يؤثر ذلك على ترتيله، سوى الشيخ محمد رفعت.صوتٍه الجميل مثل البصمة التى لا تتكرر، وأسلوبه فريد ومميز فى تلاوة القرآن، كان يتلو القرآن بتدبر وخشوع، يجعل سامعه يعيش معانى القرآن الكريم، ومواقفه بكل جوارحه لا بأذنه فقط، فكان يوصل رسالة القرآن ويؤثر بمستمعى تلاوته. وبالمناسبة يعد الشيخ أبو العينين شعيشع من المتأثرين بتلاوة الشيخ محمد رفعت، وصوته شديد الشبه به، حتى أن الإذاعة المصرية استعانت به، لتعويض الانقطاعات فى التسجيلات . امتلك الشيخ محمد رفعت طاقاتٍ صوتية هائلة، جعلته يستطيع الانتقال بسلاسةٍ شديدةٍ بين المقامات فى أثناء تلاوته للقرآن الكريم، ليس هذا فحسب، بل إنه امتلك القدرة على تراسل الحواس لدى المستمعين، فيعلم متى يبكيهم، ومتى يبهجهم من خلال آيات الترغيب والترهيب فى كتاب الله عز وجل، فقد أوتى مزمارًا من مزامير داود، وإذا ما وضعنا جماليات الصوت جانبًا لننتقل إلى قوته، فإن صوته كان قويًا لدرجة أنه يستطيع من خلاله الوصول لأكثر من 3 آلاف شخصٍ فى الأماكن المفتوحة. كان محافظًا على صوته، يتجنب نزلات البرد، والأطعمة الحريفة، ولا يدخن ولا يتناول طعام العشاء. فى حياته جانب مدهش آخر ، فالشيخ رفعت كان يعقد أسبوعيا صالونا أدبيا وفكريا وموسيقيا فى منزله..!!