فى عالم اعتاد تطبيع الاستثناء الإسرائيلي، جاءت طلقات جنود الاحتلال على وفد دبلوماسى دولى فى جنين لتدفع العالم إلى حافة الغضب المكبوت رصاص لم يقتل أحدًا، لكنه أصاب مباشرة ما تبقى من شرعية سياسية تتستر بها إسرائيل، ليس فقط أمام خصومها، بل أمام حلفائها الذين طالما سكتوا، برروا، غضّوا الطرف، وانتظروا أن «تعود إسرائيل إلى رشدها» بعد كل جولة عنف لكنها لم تعد. وهذه المرة، أطلقت النار على أصحاب الرسائل وليس فقط على من يُحمّلونها. ما جرى لم يكن حادثًا عرضيًا ولا خطأ ميدانيًا معزولًا، كما سيحاول إعلام الحكومة الإسرائيلية أن يُسوّق ما جرى كان لحظة كاشفة لنمط راسخ من السلوك السياسى الإسرائيلي: ازدراء القانون الدولي، والتعامل مع العالم بمنطق فوقى متعالٍ، لا يرى فى الأعراف الدبلوماسية أكثر من أدوات تكتيكية، تُستعمل حين تخدم، وتُداس حين تعترض. لم يكن الوفد الدبلوماسى فى جنين جزءًا من مقاومة مسلحة أو احتجاج شعبى كان وفدًا رسميًا، تنسيقه مسبق، يضم دبلوماسيين من أكثر من عشرين دولة، بينهم سفراء من أوروبا، ودبلوماسيين من العالم العربي، وآسيا، وأمريكا اللاتينية ومع ذلك، أُطلقت النيران عليهم، وكأن إسرائيل قررت، فى تلك اللحظة، أن لا سلطة فوق سلطتها، ولا حصانة تعلو على خوفها المزمن من أن يُفضَح وجهها أمام من أتوا ليشهدوا لا ليقاتلوا. ردود الفعل الدولية لم تكن روتينية، ولا لغوية كانت غاضبة، صريحة، غير دبلوماسية. فرنسا، ألمانيا، إسبانيا، البرتغال، أيرلندا، بلجيكا، إيطاليا، تركيا، مصر، الأردن، بل وحتى الاتحاد الأوروبى نفسه خرج ببيان اعتبر أن ما حدث «غير مقبول» ويستدعى «محاسبة» أكثر من دولة استدعت سفراء إسرائيل لغة البيانات تغيّرت، حدة الخطاب تغيرت، وهذا مؤشر لا يجب التقليل من شأنه. ما لا تريد تل أبيب الاعتراف به هو أن الغضب هذه المرة لا يتعلق فقط بجريمة محددة، بل بسياق دولي، يتغير العالم، أو جزء متزايد منه، لم يعد قادرًا على التواطؤ الصامت مع الاحتلال، ولم يعد مقتنعًا برواية الأمن الإسرائيلى التى تبرر كل شيء: القتل، التهجير، والحصار... وحتى إطلاق النار على دبلوماسيين أتوا يحملون الحقائب الدبلوماسية لا البنادق. إنه الغضب الذى يتشكل فى العواصمالغربية، والذى قد لا ينفجر فجأة، لكنه يبنى شيئًا أعمق: إرادة سياسية جديدة تنفصل تدريجيًا عن سردية «الدولة الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط»، وتبدأ برؤية إسرائيل كما هي: دولة فصل عنصرى مسلحة، تفشل فى أن تتصرف كعضو مسؤول فى المجتمع الدولي. والسؤال الأهم: هل تدفع هذه الحادثة الاتحاد الأوروبى إلى خطوات ملموسة؟ الحديث عن الاعتراف بدولة فلسطين عاد إلى الأجندة بقوة ما كان يُؤجل أو يُجمّد، بات اليوم مطلبًا أخلاقيًا وسياسيًا للعديد من الدول الأوروبية التى بدأت ترى فى الاعتراف وسيلة للضغط، لا للترضية وربما، للمرة الأولى منذ اتفاق أوسلو، يصبح الاعتراف بدولة فلسطين ليس منّة سياسية، بل ضرورة استراتيجية لحماية ما تبقى من مصداقية الغرب. أما فى واشنطن، فالأمر أكثر تعقيدًا. ترامب، الذى لطالما وقف كتفًا بكتف مع نتنياهو، بات الآن رئيسًا فى لحظة حرجة: حكومة نتنياهو تواجه ضغوطًا غير مسبوقة من الداخل والخارج، والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية تبدو أقرب إلى الفوضى المنظمة، وسياسات تل أبيب باتت عبئًا سياسيًا على الإدارة الأمريكية نفسها، خاصة أمام حلفاء يتساءلون عن معنى الشراكة إذا كان الرصاص لا يميز بين الأصدقاء والخصوم. حتى فى أوساط الجمهوريين، باتت تتعالى أصوات - ولو خافتة - تطالب بمراجعة العلاقة مع إسرائيل على ضوء هذه الحوادث المتكررة. فلا أحد فى واشنطن يريد أن يُورَّط فى الدفاع عن حكومة يمينية تعادى الجميع، وتفتح النار على موكب دبلوماسي، ثم تطلب من العالم أن يفهم «الظروف الأمنية المعقدة». إنها لحظة قد لا تسقط الحكومة الإسرائيلية، لكنها بلا شك تُسقط ورقة التوت الأخيرة عن نظام يحكم بالبارود ويطالب بالحصانة، يطلب الدعم ويمنح الإهانة، يتحدث عن الشراكة ويُطلق النار على الدبلوماسية.