إن مواقف الدبلوماسيين والسياسيين والخبراء والمحللين الإسرائيليين حيال الأوضاع المصرية الحالية باتت واضحة، إلا أن هؤلاء الخبراء اتفقوا جميعا علي أن صورة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين أصبحت غامضة، وأمست مبهمة وأكثر ضبابية علي المدي البعيد، وأن الديمقراطية التي يسعي إليها شباب الثورة في مصر ستكون أولي أدوات هدم وقطع العلاقات الدبلوماسية بين تل أبيب والقاهرة. فمنذ سقوط النظام السابق، تراقب إسرائيل كل الإشارات التي تخرج من القاهرة، وتحبس أنفاسها في كل لحظة تحسبا للقادم، وهو الأصعب بالنسبة لها، وهو إعادة التوازن لكثير من الموازين التي مالت بشدة بسبب حجم التنازلات التي قدمها مبارك علي طبق من ذهب لإسرائيل. فقد كشفت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية عن أن إسرائيل تعيش في حالة من الذعر والترقب في انتظار الموقف المصري من إتفاقية كامب ديڤيد لكن كان لابد أن تعلم 'هاآرتس' أن الاتفاقية مجرد حبر علي ورق، وإن كان مفادها السلام المفقود, والذي يبقي باردا، فمن المستحيل أن تمنع الاتفاقية حقوقا أغلق فيها مبارك فمه في عهده، وإعادة النظر في بنود الاتفاقية وخاصة في الملحق العسكري، والذي ينظم حجم القوات المصرية في سيناء، وهو بند لم يفكر مبارك بمناقشته مطلقا خلال عقوده الثلاثة. إن المخاوف الإسرائيلية التي دفعت صحيفة هاآرتس للتعبير عنها بأنها مازالت قائمة, وهي أن كامب ديڤيد لا تزال تثير إنذار إندلاع حرب مع مصر، وأنه حتي بعد مرور مائة عام من توقيعها تعتبر تهديدا، وتجعل إسرائيل اليوم علي صفيح ساخن، كما تتخوف إسرائيل بشدة من سيناريو التحول الديموقراطي في مصر. وبعيداً عن التكهنات بخصوص مستقبل العلاقات بين البلدين فإن الأمر كله لا يعدو كونه مناورة سياسية من الطرفين للحصول علي مكاسب أفضل، ولكن التصريحات المتبادلة بين تل أبيب والقاهرة تعكس حرص الطرفين علي استمرار علاقتهما الدبلوماسية مترابطة، ونصيحتي الشخصية للرئيس المصري محمد مرسي, تشديد الرقابة علي الحدود المصرية الإسرائيلية لضمان عدم اجتياز عناصر إرهابية إسرائيلية لتلك الحدود. فعلي مدي السنوات العجاف الثلاثين، التي مرت بها مصر في عهد النظام البائد, كانت مصر الحقيقية ترفض معاهدة كامب ديفيد، وتري أن إرادتها لم تكن حاضرة عندما فُرض عليها التوقيع في ذلك الوقت وفي ظل مناخ ومتغيرات إقليمية ودولية كانت حساباتها تصب في مصلحة إسرائيل. وهنا أحب أن أشير كدبلوماسي دولي ومتخصص في العلاقات الدولية, أن المفوضين الدبلوماسيين المصريين الذين قاموا بالتفاوض, كانوا للأسف الشديد علي مستوي منخفض جدا من الضعف, وقلة الخبرة والكفاءة, وإنعدام التمرس علي إجادة المفاوضات الدولية, والضعف الشديد والمتباين في العلاقات الدولية, علي الرغم من أنهم أساتذتنا وفقهاؤنا الدبلوماسيون، ولكنني لا أدري أين ذهبت عقولهم وأفكارهم؟ وأين الدبلوماسي المصري المحنك الذي يصل الي أعلي المستويات وأفضل النتائج التاريخية في جميع المفاوضات؟ فهاهو الآن فشل فشلا ذريعا في هذه الفترة، أنه لم يحصل علي نتائج أفضل، وكان بإمكان المفوضين والدبلوماسيين المصريين آنذاك الحصول علي نتائج أكثر قيمة، إذا قام سيادته باستخدام تخصصه كدبلوماسي ببراعة، وقام بممارسة ضغوط قوية للوصول الي نتائج حقيقية، فهذه النتائج لا ترقي الي المستوي المطلوب والذي يتناسب مع قيمة وقوة الدبلوماسية المصرية، في وقت تكاد تحلم إسرائيل أن تصل الي اتفاقية مع مصر يوقع عليها مصريون، وهي التي كانت تتمني أن تصافح فقط دبلوماسيا أو مسئولا مصريا في المحافل الدولية، ولكن.. شهادة للتاريخ.. يبقي الشرفاء من الدبلوماسيين المصريين علامة بارزة تنير التاريخ بمواقفها البراقة، وأكبر مثال علي ذلك، الدبلوماسي المحترم، رئيس الوفد المصري في كامب ديفيد، والذي قدم استقالتة احتجاجا علي كثرة التنازلات التي قدمت من قبل الوفد المصري، وهو معالي وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل, الذي شرفنا وشرف كل دبلوماسي مصري بموقفه التاريخي الذي أدخله التاريخ من باب الدبلوماسيين الشرفاء. ولكن كانت هناك فروقات كبيرة وجوهرية في صناعة القرار السياسي، فمثلا الرئيس الراحل أنور السادات الذي كان يأخذ قراراته منفردا دون العودة إلي مؤسسات الدولة ومستشاريه، وفي المقابل كان مناحم بيجين رئيس الوزراء الإسرائيلي كان دائما يُصر علي العودة لحكومته وللكنيست قبل إبداء موافقة علي أي قرار. وهناك ضوء آخر بالإضافة الي ضوء باب التاريخ الذي دخله وسيدخله الدبلوماسيون الشرفاء, هذا الضوء الجديد هو نور ثورة 25 يناير المجيدة، التي فرضت من خلال شبابها الأحرار واقعا جديدا، بعد أن أسقطت مبارك وأطاحت به وبنظامه، حيث فقدت إسرائيل حليفها القوي، وكنزها الاستراتيجي كما وصفه صديق مبارك الجنرال بنيامين اليعازر الإرهابي الوقح المسؤول عن قتل الأسري المصريين في عام 67. إسرائيل تخشي أن تتحول قضية تعديل إتفاقية كامب ديفيد إلي قضية رئيسية علي أجندة البرلمان القادم برلمان '2013' بعد أن تحولت إلي قضية رأي عام، عبرت عنها المظاهرات الصاخبة والساخطة علي تل أبيب والتي حاصرت السفارة الإسرائيلية ونكست العلم الإسرائيلي, بل نزعته من موضعه انتزاعا، وحرقته أمام مقر السفارة، وطالب المتظاهرون المصريون بطرد السفير من القاهرة, الأمر الذي أدي الي زيادة الضغوط علي إسرائيل التي تواجه مأزقا حقيقيا في علاقاتها مع مصر، ومن بعض بصمات هذه الضغوط قد بدأت عندما سمحت مصر لأول مرة بعبور سفينتين حربيتين إيرانيتين لقناة السويس, وكذلك تصريحات الخارجية المصرية في تجديد علاقات مصر الدبلوماسية مع كافة دول العالم, وبدء نهج جديد في رسم السياسة الخارجية, مما أدي الي الغضب الشديد لإسرائيل، ومضاعفة مخاوفها بشأن مستقبل التقارب المصري الإيراني، ومن ثم التقارب المصري التركي, وخصوصا بعد طرد سفير إسرائيل من أنقرة، ولم تكتف تركيا أردوغان بطرد سفير العدو الصهيوني, بل قامت بتعليق جميع الاتفاقيات العسكرية بين أنقرة وتل أبيب، وهذه كانت علامة بارزة تشير الي أن الدبلوماسية المصرية تسعي نحو التغيير, من أجل تعديل موازين القوي الإقليمية. ومما يعكس المخاوف الصهيونية حيال مستقبل إتفاقية السلام بين البلدين هو ما قاله إيلي شاكيد، السفير الصهيوني الأسبق لدي القاهرة بأن الأوضاع الحالية في مصر لا تبدو جيدة بالنسبة ل 'إسرائيل'، معتبراً أنه من الآن فصاعداً أن التطورات لن تكون مطمئنة بالنسبة للسلام مع مصر، وبالنسبة للاستقرار في المنطقة، مشيراً إلي أن السلام مع مصر علي وشك دخول نفق الخطر، وسوف يكون ثمن تدهور العلاقات بين البلدين، وشدد علي أن المصريين الملتزمين بمعاهدة السلام كانوا فقط من فريق الرئيس المخلوع مبارك. صدق أو لا تصدق.. فهي حقيقة واقعية.. لقد سقط الجدار الخبيث, والسد المنيع، الذي ظل حامياً لدولة الكيان الصهيوني في سرعة مفاجئة عجزت جميع أجهزة المخابرات 'الإسرائيلية'، وعلي رأسها الموساد الفاشل، الذي يزداد فشله يوما بعد يوم، التكهن بانهيار سريع مفاجئ وفوري لنظام مبارك، كما عجز الموساد عن أن يتنبأ حتي بأبسط أعمال أجهزة المخابرات، وهو تطورات الأحداث التي شهدتها مصر الثورة, منذ قيام الثورة العتيدة, ضد الفساد والإفساد والاستبداد. ومع تأكيد كل المؤشرات علي نجاح الثورة المصرية، ظلت 'تل أبيب' متمسكة ببصيص الأمل حتي اليوم الأخير لبقاء مبارك في مصر, وصموده أمام رغبة الشعب المصري لإقصائه تماما، وتخلت أمريكا عن حليفها الأقوي في العالم العربي مبارك, وقامت تل أبيب بكل ما أوتيت من قوةعن عدم بيع مبارك. وأتي قرار التنحي فأمسي الوضع في إسرائيل أكثر توترا و تعقيداً ممزوجا بالقلق والصخب حيال مستقبل العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وتل أبيب، وبخاصة معاهدة كامب ديفيد, الموقعة عام 1979. المستشار والمتحدث الرسمي باسم النادي الدبلوماسي الدولي