التاريخ، كما يُقال، لا يعيد نفسه، لكنه غالبًا ما يتشابه؛ هو معلم صارم وصبور. دروسه تتكرر، أحيانًا بوجوه جديدة، وأحيانًا بأخطاء قديمة، لكنها دائمًا تحمل نفس التحذير: عندما يتجاهل القادة نصائح من يفهمون تعقيدات الاقتصاد، لا تكون الكارثة بعيدة أبدًا. لنأخذ رحلة عبر الزمن، من أيام تأسيس الولاياتالمتحدة إلى قاعات السلطة البريطانية، وحتى العصر الحديث، لنرى كم تكون التكلفة باهظة عندما يغلق صناع القرار آذانهم عن تحذيرات الاقتصاديين. هذا يُنذر بالسوء لسياسة التعريفات الجمركية التى ينتهجها الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب»، التى يحذر الخبراء من أنها ستؤدى إلى ارتفاع الأسعار وتباطؤ اقتصادى، حيث تفرض اقتصادات أخرى تعريفات جمركية متبادلة على الصادرات الأمريكية. وبحسب التقرير الذى أعدته مجلة «تايم» الأمريكية، بالنظر إلى التجربة التاريخية، من المقلق سماع الاقتصاديين يجادلون بأن تعريفات ترامب الجمركية قد زادت من احتمالات الركود التضخمي إلى مستوى لم نشهده فى نصف القرن الماضى. وسواء تراجع عن التعريفات الجمركية أو ضاعفها، فقد يكون الضرر الذى لحق بالثقة المحلية والدولية فى الولاياتالمتحدة قد وقع بالفعل، وفقًا لوكالة «أسوشيتد برس». ◄ أول بنك مركزي كان العام 1787، والدستور الأمريكى بالكاد جف حبره، والأمة الناشئة كانت تصارع فوضى نظامها المالى. هنا جاء أول وزير خزينة أمريكى «ألكسندر هاملتون» برؤيته وأقنع الكونجرس بإنشاء بنك وطنى جلب شيئًا من النظام والاستقرار، وبنك الولاياتالمتحدة كان أول تجربة أمريكية للبنك المركزى، إذ أدار المعروض النقدى، ونظم البنوك، وطبق سياسة اقتصادية بدائية. وبالرغم من أن الآباء المؤسسين «توماس جيفرسون» و«جيمس ماديسون» كانا فى البداية متشككين فى البنك، فإنهما قبلا فكرته مع اقتراب نهاية امتيازه فى عام 1811. لكن، ولأن الكونجرس كان منقسمًا، ورغم نجاح البنك، ظلت الشكوك قائمة، خصوصًا بين من رأوه أداة بيد النخب، لم يتمكن من تجديد الامتياز، واضطر البنك إلى الإغلاق. وبعد خمس سنوات غرقت البلاد فى أزمة مالية كبرى نتيجة غياب اليد المنظمة للاقتصاد، حينها أقر الكونجرس قانونًا جديدًا، وقعه الرئيس ماديسون، لتأسيس «البنك الثانى للولايات المتحدة». وقد كان أكثر تطورًا وفاعلية من البنك الأول، وأدار سياسات نقدية دورية بسيطة تشبه ما يفعله الاحتياطى الفيدرالى اليوم. وقد ساعد ذلك فى تحقيق استقرار مالى ونمو اقتصادى خلال السنوات الأولى المضطربة للبلاد. ◄ الازدهار والانهيار لكن التاريخ، كعادته، تكرر. عندما جاء موعد تجديد امتياز البنك الثانى عام 1832، استخدم الرئيس الأمريكى السابق «أندرو جاكسون» الفيتو، مدفوعًا بعداوته الشخصية وعدم ثقته بالنخب، متجاهلًا تحذيرات الاقتصاديين والخبراء الماليين. لم يكن لدى الكونجرس الأصوات اللازمة لتجاوز الفيتو، فانتهى ميثاق البنك، وسرعان ما اختفى من المشهد. وكانت العواقب سريعة وقاسية. من دون إشراف البنك، بدأت البنوك بإصدار أوراق نقدية بشكل مفرط مما سبب تضخمًا ومهد الطريق لقرن من دورات الازدهار والانهيار التى زعزعت الاقتصاد الأمريكى مرارًا. حينها قرار جاكسون لم يكن مجرد انتقام شخصى، بل رفضًا للتفكير الاقتصادى السليم لصالح الحدس والغضب الشعبوى. والدرس واضح: عندما يتجاهل صناع القرار نصائح المتخصصين، تكون الكارثة قريبة. ◄ المعيار الذهبي ولم تكن الولاياتالمتحدة وحدها فى هذا المسار. فعبر الأطلسى، وبعد الحرب العالمية الأولى، واجهت بريطانيا قرارًا حاسمًا. كانت قد أوقفت العمل بمعيار الذهب خلال الحرب، لكن فى عام 1925، قرر «ونستون تشرشل» وزير المالية البريطانى آنذاك، العودة إليه بالسعر ما قبل الحرب. حذره اقتصاديون مثل البريطانى «جون ماينارد كينز» والسويدى «جوستاف كاستل» من أن ذلك سيبالغ فى قيمة الجنيه الإسترلينى، ويقضى على الصادرات، ويدمر الطبقة العاملة، وفقًا لموقع البرلمان البريطانى. لكن تشرشل، مدفوعًا بالحنين والكبرياء الوطنى، تجاهل هذه التحذيرات. وكانت النتيجة كارثية: الركود أصاب الاقتصاد البريطانى بينما كانت أوروبا والولاياتالمتحدة فى حالة نمو. ارتفعت البطالة، وتقلصت الأجور، واندلعت إضرابات كبرى. كان العديد من صانعى السياسات البريطانيين يعتقدون أن العودة إلى الذهب تعنى العودة إلى أوج إمبراطورية بريطانيا فى القرن التاسع عشر. بعد إعلان تشرشل عن هذه الخطوة، صرحت مجلة الإيكونوميست بتلك المشاعر، قائلة: «انتهت الحرب التى قطعت مؤقتًا شئوننا المشتركة». وكان لبريطانيا «الشرف أن تسدد» ديونها «بالطريقة المعتادة». ولكن كانت النتائج كارثية، كان الاقتصاد البريطانى بطيئًا مقارنة بالاقتصادات فى الولاياتالمتحدة وأوروبا خلال عشرينيات القرن العشرين. نما الناتج المحلى الإجمالى فى الولاياتالمتحدة وأوروبا بين 40% و50% خلال العقد الذى سبق الكساد الكبير؛ بينما نما الاقتصاد البريطانى بأقل من 20%، ووصفه المعاصرون بأنه فى «ركود». وأطلق العمال البريطانيون إضرابًا عامًا فى عام 1926 استمر تسعة أيام، واحتج عمال مناجم الفحم لبضعة أشهر. جاء رد كينز فى شكل كتيب بعنوان: «العواقب الاقتصادية للسيد تشرشل.» ومع ذلك، تمسكت بريطانيا بالمعيار الذهبى حتى أجبرتها أزمة مالية على التخلى عنه عام 1931. ◄ اقرأ أيضًا | بعد خلافه مع «ماسك».. «ترامب» يُفكر ببيع سيارته «تيسلا S» ◄ تعريفات ترامب ننتقل إلى الحاضر، حيث تعود القصة بشكل جديد لكن بمضمون مألوف. تبنى الرئيس دونالد ترامب سياسة الرسوم الجمركية متحديًا التحذيرات شبه الجماعية من الاقتصاديين. فهو يقدس أمريكا أواخر القرن التاسع عشر بتعريفاتها الجمركية المرتفعة، التى يدعى أنها ساعدت فى دفع الولاياتالمتحدة إلى الثراء؛ رغم أن المؤرخين يرفضون هذا الفهم الخاطئ للماضى. كما قرر بشكل تعسفى أنه لا يريد للولايات المتحدة أن تسجل عجزًا تجاريًا مع أى دولة. ومع ذلك، حذر الاقتصاديون من أن هذا لا معنى له. فإذا حققت الولاياتالمتحدة فائضًا مع شريك تجارى واحد وعجزًا بنفس الحجم مع شريك آخر، فإن تجارتها الإجمالية ستكون متوازنة. وشرح الاقتصاديون مرارًا أن العجز التجارى ليس شرًا مطلقًا، وأن الرسوم سترفع الأسعار، وتبطئ النمو، وتُحفز إجراءات انتقامية من الشركاء التجاريين. ويهدد شبح «الركود التضخمى» بالظهور مجددًا، وهو خطر لم ير منذ نصف قرن. وكما حدث مع جاكسون وتشرشل، لم تجد التحذيرات آذانًا صاغية، إذ غطت عليها الأيديولوجيا والحسابات السياسية.