عادل ضرغام موت الأم- بعيدا عن لوعة فقد الأب، وفقد السماء العالية الحامية- توديع لفكرة الحنان المستمرة فى وجودها، توديع لفكرة أننا ما زلنا صغاراً. فى قصة «شيخوخة بدون جنون» من مجموعة «حادثة شرف» يرصد يوسف إدريس من خلال طبيعة وعى البطل فكرة الموت ومدارات الارتباط به. حيث يفرّق بين وعى وشعور البطل مفتش الصحة فى معاينة أجساد أناس لا يعرفهم، ووعيه وشعوره حين يعاين جسد شخص يعرفه وأحبه قبل موته، فالمواجهة الأخيرة للموت مغايرة للمواجهات السابقة، فحالة عم (محمد) الذى كان يساعده فى تجهيز الجثث تمثل حالة حقيقية، يغيب معها الفعل الآلى لوظيفته، وتنفتح على الفقد والإحساس باللوعة، لارتباطها بحكايات وذكريات تجمعهما. إن القصة توجهنا نحو الكيفية التى يهادن بها الإنسان الموت فى الوعى والإدراك، ففكرتنا عن الموت لا تتجلى بشكل وحيد أو أخير، فموت الغريب لا يولّد بداخلنا إحساسا مشابها لموت إنسان نعرفه من بعيد، وليس مشابها لموت إنسان نعرفه عن قرب، بيننا وبينه ذكريات وحكايات ومواقف مشتركة تجمعنا، وكل ما سبق لا يشبه إحساسنا بموت الأم أو الأب، فموت الأب والأم قتل لفكرة الخصوصية أو لفكرة الأبدية التى يمكن أن تخايلنا ونحن نعاين موت الغرباء، ففى موتهما إشارة للاقتراب، وتوجيه يجذّرنا فى المشابهة داخل قانون الحياة، ومع موتهما هناك زلزلة لفكرة الاصطفاء التى نُشعر أنفسنا بها، وهى فكرة عبّر عنها محفوظ فى رواية قشتمر، ففى منطق هذه الرواية ندرك أن الكل يؤمن بالموت، موت الآخرين، لكنه إذا ارتبط بنا فإننا غالبا نضعه فى مكان قصى وبعيد، وكأننا نشكل من خلال هذا الإبعاد والإقصاء نوعا من الاصطفاء الذاتى لأنفسنا. موت الأمهات فى لحظة الفقد يتحوّل الصباح أو المساء إلى وقت مستقطع من الجحيم، خاصة حين يكون الفقد مرتبطا بأناس، نتخيل دائما أنهم خارج بطش الموت، ونشعر بأنهم أقوى من الموت، ويبدو أن وعينا بهم فى لحظات أو مرحلة الطفولة ظلّ ملازما لنا إلى اللحظة الآنية، ذلك الوعى الذى يسكّنهم داخل الإطارات الحامية، ويأتى موتهم فى هذه اللحظة ليمثل زلزلة لكل مؤسس مستقر داخل ذهننا ووعينا، فنشعر بأن كل شيء عال قد هوى، وأن هناك تغييرا فى طبيعة الكون والحياة وناموس الوجود. موت الأم- بعيدا عن لوعة فقد الأب، وفقد السماء العالية الحامية- توديع لفكرة الحنان المستمرة فى وجودها، توديع لفكرة أننا ما زلنا صغارا، وأن هناك عيونا حين تبصرك تستطيع أن تعرف حالك، وتدرك مزاجك، وتميّز بين حزنك وفرحك، حين تموت الأم لن يدرك أحد حركتك على البعد، ولن يشمّ أحد رائحتك وأنت فى الطريق إليها ما زلت بعيدا، ولن يسمع أحد حفيف قدميك معلنا عن حضورك وأنت ما زلت فى مكان آخر. أن تموت أمك معناه أنك أخيرا جاوزت حد الطفولة التى كنت تشعر بها فى وجودها، ومعناه- أيضا- أنك يجب عليك أن تعقد علاقة جديدة مع الزمن، علاقة تبنيها وتؤسسها دون وسيط، فعلاقتنا بالزمن مشدودة إلى أفق مغلق بالموت الحتمي، علاقة يكيفها، ويؤسس ملامحها الموت، أو فكرتنا عنه. والإنسان فى مغافلة وهدهدة أحزانه، لا يغافل أو يهادن الحزن، بقدر ما يغافل ويهادن الموت، ذلك الموت الذى أصبح قريبا، بفعل قدرته على الوصول إلى المقربين منه، واختراق حصون الدائرة التى يحتمى بها. ولكن كيف يغافل الإنسان أحزانه؟ أعتقد أن عليه أن يفصل أسس الارتباط بين المنعطفات الحادة للأحزان، بالانغماس فى العمل، فإذا كان كل حزن يستدعى شبيهه، فعليه أن يقطع هذا التسلسل، ويواجهه- إن كان ذلك حتميا- حزنا بعد حزن، وحالة بعد حالة، وطللا بعد طلل، فالمغافلة أو المهادنة تتمثل فى المواجهة المقسّمة والمجزّأة بمنع سيل التداعى والتمدد، لأن سيل التداعى يولّد دوائر لا تنتهي، دوائر توقف الإنسان، وتفقده القدرة على الحركة. سماسرة الثقافة فى الحياة الثقافية المصرية العجيبة التى ترفع أعمالا لا تستحق، وتقلل من قيمة أعمال جيدة بشكل لافت، يمكن للقارئ أو للمتأمل أن يشعر بوجود أشخاص يمكن نعتهم بهذا الوصف، وهم كثيرون، منهم الصحفى المتخصص فى تحجيم الأعمال الجيدة بنعتها بنعوت جاهزة، أو بتوجيه النظر نحو أعمال سابقة كان لها الأسبقية فى تشكيل هذه البنية أو تلك الآلية الفنية التى أوجدتها الأعمال الجيدة الحديثة، وفى مقابل هذا التحجيم يقوم فى الوقت ذاته برفع أعمال شديدة الهشاشة من خلال أحكام هلامية لا يمكن فى ظلّ وجودها الإمساك بشيء حقيقي. فمع هذا النوع من الصحفيين الذين يشكلون فى منطقهم- ومنطق آخرين- بوّابة للدخول والخروج من جنة الثقافة، أنت أمام ادعاءات كثيرة، تحاول جاهدة إقناع الآخرين، بأن صاحبها قرأ كل شيء، وأن لديه وعيا تاما بكل ما كتب داخل مصر أو خارجها، بالرغم من أن منطق الحياة ومحدودية الزمن والعمر، لا يكفلان كل هذا الاستقصاء المزعوم. ومنهم- أيضا- بعض الأساتذة الأكاديميين الذين لم يحققوا- لأسباب عديدة- وجودا علميا أو نقديا ثابتا، فتراهم بسبب ذلك يبنون لاهثين وجودا فى اتجاه آخر، لا يتطلب إسهاما علميا أو مغايرة نقدية، وإنما يتطلب حركة دائمة مستمرة بين الإطارات والسياقات المؤثرة فى الداخل والخارج، فتشعر بأن كل واحد من هؤلاء أقرب فى الشبه إلى البهلوان الذى يكتسب قيمته من غرابة هيئته، وسرعة تسلّقه وتحوّله من سياق إلى سياق، وسوف يكتسبون بفعل هذه الحركة الدائبة موقعا يخوّل لهم القدرة على التحكّم فى تمثيل ثقافة تليدة مثل الثقافة المصرية، لها تراثها الكبير. والنتائج الأولى لهذا الفعل تكون فى معرض دائم للملاحظة، خاصة لمتأمل لديه قدرة على مراقبة الحركة، ومراقبة مساحات التوحّد والانفصال فى لحظات ماضية سابقة. يمكن للمتأمل لأحداث ثقافية ما زال رجع صداها حاضرا، أن يبصر حالات تمثل تحديا متعمدا للعقل، فهل من المنطقى أن تعقد ندوة أو ندوتان أو أكثر فى محفل ثقافى خارجي، لروائية أو شاعرة، لم تحقق وجودا روائيا أو شعريا لافتا؟ وهل من المنطقى أن يكون أحد الوجوه الحاضرة فى هذا المحفل الثقافي، والمعبرة عن الثقافة المصرية وكتّابها وروائييها، كاتبا لم يحقق حضورا إبداعيا لافتا، ولم يجد لنفسه موضع قدم، إلا من خلال العلاقات الممتدة بسماسرة الثقافة، بالإضافة إلى قدرته على التنظيم والإدارة التى لا أنكرها. إن الانغماس تحت سيطرة سماسرة الثقافة له خطره الكبير من جهتين، الأولى تتمثل فى كون الإصغاء إلى حكم هؤلاء السماسرة، والارتباط بآليات فرزهم الموجّهة يمثل قتلا للنماذج الكتابية الجادة التى لا يجيد أصحابها الحركة والتسلق من فرع إلى آخر. فهؤلاء- أى السماسرة- موجّهون دائما نحو نماذج هشّة لا تخرق مواضعة فنية أو اجتماعية، ومن ثمّ سوف تظلّ هذه الكتابات التى تجيد الإمساك بروح اللحظة الزمنية بعيدة عن وعيهم، وبعيدة عن مساحة إدراكهم، ربما لأنهم لا يفهمونها. أما الجهة الأصعب والأكثر تأثيرا وخطرا، فتتمثل فى طبيعة ومستوى الأدب الذى نصدره فى مثل هذه المحافل الخارجية، أو فى النماذج التى يجب أن نؤسس لها ونشارك فى صنعها، فتصدير الكتابة الهشّة أو الضعيفة، أو النماذج التى صنعت بليل أو عشية، سوف يضع ثقافتنا، ومنجزنا الشعرى أو الروائى فى حدود مستوى الأعمال التى يتمّ التركيز عليها، ويغيّب فى الوقت ذاته النماذج والأعمال الجادة، فسماسرة الثقافة ربما يكونون مدفوعين- لسبب أو لآخر- لهذا الفعل لتقزيم الثقافة المصرية ومنجزها الأدبى عن قصدية، هذه القصدية التى تبرر وجودهم الهشّ على مساحة الأعراف، وحركتهم التى تستدعى التأمل، وربما تستدعى نوعا من الشفقة والأسى .