يكتبها اليوم : د. عادل ضرغام فى قفزة واحدة لحق بالعربة الأخيرة أثناء تحرّك القطار، وفى اللحظة ذاتها وجد الكمسرى أمامه يطالبه بالتذكرة أو بثمن التطويقة فى السنة الأولى من المرحلة الإعدادية كان مبهورا بكرة القدم يمارسها حتى فى لحظات الظهيرة المشتعلة، يتحسس عرقه فى نهاية اليوم، وهو فى طريقه خارجًا من بوابة المدرسة، يمسحه بيديه، بعدها يتلمس ما تبقى من نقوده لشراء تذكرة القطار والعودة إلى قريته. على باب المدرسة أغراه العامل قريب والدته من بعيد، ظلّ حائرًا هل يشترى البسكويت، ويعود إلى قريته ماشيًا بالرغم من طول المسافة فى هذا الحر الشديد، أم يحتفظ بنقوده للحصول على التذكرة، ويلاعب جوعه ويمازحه ويهادنه حتى يعود. وجد نفسه يميل إلى شراء البسكويت، وظل يأكله حتى وصل إلى محطة القطار، وفى تلك اللحظة أبصر القطار قادمًا من سنجرج (اختصار للقديس جورج) إلى منشأة سلطان، وظلّ ينازع نفسه بين ركوب القطار دون تذكرة، كما يفعل كثير من الزملاء الأشقياء، وتحمل الحرارة ولزوجة العرق فى سيره ماشيا إلى قريته. فى قفزة واحدة لحق بالعربة الأخيرة أثناء تحرّك القطار، وفى اللحظة ذاتها وجد الكمسرى أمامه يطالبه بالتذكرة أو بثمن التطويقة (وقيمتها عشرة قروش، ضعف ثمن التذكرة). فكّر أن يقفز من القطار، وقد انحنى رأسه خجلَا، ولكن فى ذات اللحظة وجد فتاة يعرفها، ويعرف ملامحها، ومكان محل والدها للخياطة، ويدرك أنها فى نهاية المرحلة الثانوية، تخرج عشرة قروش وتعطيها للكمسري. انزوى جانبًا غارقًا فى عرقه وخجله، وظل إلى هذه اللحظة يشعر بامتنان، وينظر لأعلى كلما مرّ بمحل والدها أو ببيت زوجها. الأحد: الرواية والانفتاح على الإنسانى فى رواية (غواية ظل) للكاتب محمد عطية هناك عودة فى الكتابة الروائية للاهتمام بالمناحى الإنسانية، لأنها تقارب الكيفية التى يتوحّد من خلالها رجل وامرأة، وكأن هذه الكيفية تعيدنا لآليات ارتباطنا بالوجود الإنسانى والحياة، خاصة إذا كانت هذه الكيفية تعيد سيرة الإنسان بداية من الميلاد والانبثاق، مرورا بالنمو والاكتمال، وانتهاء بصفرة النهاية والموت والتلاشي. فى الجزئية الأولى أو البداية نتأمل بوادر الارتباط أو التداخل، ونستغرب فى ظل ذلك انفتاح كيان على آخر، ونندهش لآلية الارتباط وأسباب اختبار كيان أو قسيم دون آخر، مما يدفعنا للمساءلة للوصول إلى تفسير. أما فى الثانية فهناك حلول للحلم الذى يكسر خطية الزمن، وهناك توحّد بين روحين، يكشف عن تواصل خاص لا يقيم وزنا للمادة أو للتواصل المادي. وفى ظلّ سيادة الحلم والاتصال الروحى يذوب السؤال، فقد مسّ الكيانين تجلٍّ يذيب الحدود، ويوحّد بينهما. أما فى المرحلة الأخيرة، فنشعر أن هناك حضورًا للمساحة والزمن، وهما فاعلان فى إسدال فارق خاص، يعيد الكيان الواحد المتوحّد إلى كيانين، يتحرك كل واحد منهما فى طريق منفصل. الكتابة التى تنفتح على الإنسانى تضعنا وجهًا لوجه أمام طبيعة وجودنا الهشّ المحتوم والمحدد بالنهاية، فوجودنا قبض ريح، وتجاربنا لن تخرج عن ذلك القانون، وجود وميلاد، ونمو واكتمال، ثم تحلل وتلاش. الإثنين : عبدالحميد السحّاب فى طريقه إلى حقله الذى ظلّ إلى اللحظة الآنية الطريق الأحبّ إلى قلبه، حتى بعد أن غيّر محل إقامته، وترك القرية واستجاب بكثير من المحبة لنداهة القاهرة العظيمة، وحتى بعد أن أصبحت العودة إلى القرية تتمّ على فترات متباعدة قد تطول أو تقصر، يستوقفه دائما مكان هامشى بجوار دار كبيرة على أطراف القرية، يجلس فيه رجل أمامه منقد، وبرّاد الشاى وكوب وحيد. تعوّد الناس على أن ينادوه بعبد الحميد السحّاب، وكثيرا ما سأل وهو صغير والده فى ذهابهما وعودتهما عنه، فلم يجبه إلا بكلمات وجمل مبتورة، لا تكفى لتشييد إجابة كافية. لا يعرف أحد من أين جاء، ولا كيف انتهت حاله بعد مرور سنوات وعقود. كان يبصره فقط فى حالين: جالسا يشرب الشاى أو الدخان أو نائما فى المكان ذاته، أو سائرا حافى القدمين، ووراءه سرب من الأبقار والجواميس فى طريقه إلى سوق الأحد بقرية نادر المجاورة، أو سوق الإثنين بمركز الشهداء، أو سوق الخميس الكبير والمرعب بشبين الكوم. أدرك بتكرار المتابعة والتأمل أن صفة عمله التى يقوم به لكثير من فلاحى القرية وتجّارها قد غلبت على اسمه، واسم عائلته، فلم يبق منه سوى (السحّاب)، وتجلّى نموذجا كاشفا عن المهن التى تلاشت، ولم يعد لها وجود، ولكنه ظلّ يتذكره، فى ذهابه وعودته من الحقل، ويتأمل فى صمت طبيعة الزمن والأيام. محمد خميس موت الألفة فى صباح يوم الإثنين وأنا فى طريقى إلى الجامعة من القاهرة إلى الفيوم قرأت كثيرًا من التغريدات على صفحات الفيس بوك مشيرة إلى رحيل الشاعر محمد خميس، كتبها أصدقاؤه ومحبوه، وكان خبرًا صادمًا للجميع، لأنه لم تكن لديه على حد علمى شكوى من أى مرض. لفت نظرى هذا الحب الجارف الذى أوجده الرحيل المباغت. يتمتع محمد خميس- وفق قراءة آخر لقاء بيننا بمعرض الكتاب، وهو يسلم على الجميع ويحتضنهم فى محبة حقيقية، أو فى وقوفه المملوء بالقناعة والتحقق أمام قاعة الندوات- بجاذبية نادرة، لا ترتبط بوسامته وإن كان وسيما، وإنما ترتبط بطيبة لا تستطيع أن تقيس حجمها، وبنقاء لا تعرف مصدره، وبتسليم يفتح الباب على اليتم الذى يطلّ من عينيه. اللافت فى حالة محمد خميس أن هناك إجماعًا على محبته، وهذا قلّما يتحقق مع شاعر، فالشعراء- ربما لتكوينهم النفسى فى بحثهم عن الفرادة أو مسحة النبوة- لا يعترفون غالبا بوجود آخرين بجوارهم. رحيل محمد خميس ومن يشابهونه رحيل للألفة التى تجعلنا نتمسك بالحياة، ورحيل للوجه الجميل منها، ليتركنا فى مواجهة الدمامة أو القبح الذى يتزيّا به كثيرون فى شكل سافر. فبعض الذين كتبوا عنه يقفون على الطرف المقابل فى سلوكهم المملوء بالتبجح والانتهازية فى مقاربتهم وتناولهم للأمور، حتى لو كان فى هذا التناول قتل لكل أسس الحياد والموضوعية. يجب أن يتعلم هؤلاء من سيرة ورحيل محمد خميس الذى أصبح- أو سيصبح- كناية لكل رحيل جميل، يخلق بقاء وذكرى عطرة. وزارة الثقافة وحفل جوائز الدولة اتصل بى كثير من الشباب الحاصلين على جوائز الدولة التشجيعية، وبعض الحاصلين على جوائز الدولة التقديرية، يطالبون وزارة الثقافة بعودة الحفل السنوى الذى كان يقام قبل أزمة كورونا لتوزيع هذه الجوائز. وأعتقد أن هذا الطلب به الكثير من المشروعية لأسباب عديدة، منها- وهو الأكثر أهمية- ما يتعلق بهؤلاء الشباب، ورغبتهم فى تخليد هذه اللحظة التى يتجلى فيها الحفل وكأنه الجزئية أو اللقطة الأكثر نصاعة وبروزا فى فوزهم بالجائزة، فالحفل فى معناه العميق- بعيدا عن إكمال دور الدولة فى تقديرها لأبنائها- إمساك بالتاريخ وتثبيته، وتوثيق للحظة النجاح والانتصار. والحفل فى وجه من وجوهه استعادة للدور الريادى للدولة فى صناعتها للنماذج الثقافية أو الفكرية، وفى وجه آخر يمثل جانبا تسويقيا مهما، خاصة إذا تمت مقارنة هذا التوجه فى إقامة الحفل بنزوع جوائز أخرى عربية أو مصرية، فأحد رجال الأعمال حين يستقدم فى حفلات جوائزه الأدبية السنوية نجمات السينما ، لا يفعل ذلك عفو الخاطر، لكنه يستقدمهن وفق تفكير تسويقى عال، وعلى نحو كبير من الحرفية والتخطيط. آمل أن يكون طلب أو رغبة هؤلاء محل عناية وتقدير، لاستعادة الدور الريادى فى صناعة النماذج وتسويقها.