الأول صاحب أرض، والآخر يعيش في شقته، وثالثهما مستقرًا في شقة ورثها عن أمه، كلهم كانوا يعيشون في بيئة اعتادوا عليها، بيئة مناسبة لحياتهم، تقبلوها وارتضوها، وعاشوا على إثرها سنوات كاملة، لكن لم يدم الوضع طويلا لهم؛ أولهم أصابه الحزن على وفاة والديه، فسكن جسده المرض النفسي، ترك أرضه وماله وهام تائهًا في بلاد الله، والثاني باع شقته مجبرًا، وخسر سيارته، وأصيب ب «جلطة» حزنًا على ما آلت إليه حياته، وخرج مشردًا يفترش الطرقات، والثالث طرد من شقته، دون أدنى حق، وفشل في نيل حقه، وهو رجل «على باب الله»، يسرح طالبًا الرزق ببيع بعض البخور والسبح، وفي الأخير وجد نفسه في الشارع دون معين. الثلاثة كانوا أبطال قصصهم المأساوية، عاشوها بكل تقلباتها، بكل صعوباتها، وبعد كل هذا العمر، جمعتهم غرفة واحدة داخل دار معانا لإنقاذ إنسان، يشكون ظروفهم لأنفسهم، وعبر كتابة هذه السطور، يشكون ظروفهم لنا.. تفاصيل أكثر في السطور التالية. دوام الحال من المحال، هذه الحكمة العبقرية تلخص حياتنا جميعًا، كلنا - بلا استثناء - مراحل في حياة البعض، والبعض مراحل في حياتنا، وعبر تاريخ عمرنا، نمر بالعديد من المراحل، والتي نخرج منها بحكمة بالغة الأهمية، ليس هناك ما هو دائم، ليس هناك ما هو ثابت. هذه الحياة، بتقلباتها، يمكننا أن نستدل عليها ب حكاية «عم عوض» الراجل الذي بلغ الشيب منه كل مبلغ، وما هو بكبير، سنه بالكاد في الخمسينيات من عمره، لكن أثر الدهر، واضح على ملامحه، ترك فيه الكثير والكثير من التجاعيد، الأمر الذي يجعل عند النظر لوجهه وكأنك تنظر إلى العمر نظرة ثاقبة، ترى فيه كل ما تراه في نفسك، وكل ما تراه في غيرك، وكل ما تخاف أن ينتهي بك المصير إليه، باختصار، عم عوض، قصة من قصص الحزن العميقة التي نعيشها في حياتنا، حتى وإن كنت لا تعلم عنه إلا بعد كتابة هذه السطور. من الأعيان البداية كانت جيدة، مرسومة بخطوط من نور، يسودها الفرحة، وتغمرها السعادة، يعيش «عوض» في كنف أبيه وأمه، وامتهن نفس مهنته، العمل في الأرض الزراعية، وكان والده من أصحاب الأراضي والأملاك، وأحسن استثمارها واستغلالها، حتى استطاع مع والده أن يحافظ على الثروة التي وهبها الله لهما، بل وعمل على زيادتها، وهو ما بان أثره سريعًا، نظرًا للاهتمام البالغ الذي كان عليه «عوض» في إدارة واستثمار أموال والده. المهم، مرت السنوات وكأنها ثوانٍ معدودات، في لمح البصر، وكأنها طرفة عين ليس أكثر، استيقظ «عوض» على خبر مفزع، والده قد مات، هذا الخبر أثر فيه تأثيرًا بالغًا، أولا لتعلقه به من ناحية، وثانيًا لأنه بات عليه أن يدير كل هذه بمفرده، وعلى الرغم من أنه أكبر إخوته، إلا أنه طوال حياته لم يفكر في نفسه، وعمل على زواج إخوته واستقرارهم، ونسي أن يتزوج أو يستقر، حتى غلبه الدهر، وتفاجأ حين مات الوالد، أن العمر سرقه، وأنه أصبح لا ظهر له، وأنه أصبح بلا عائلة. تلك الفاجعة تركت فيه ما تركت من الألم والحسرة، والتي كانت بادية عليه بشكل كبير، أما عن الفاجعة الأكبر، والتي قطمت ظهر البعير، كانت وفاة والدته، حينها أصابه ما أصابه من الحزن، الذي تعمق بداخله، حتى تمكن منه، لدرجة أن الحزن جعله مريضًا، وطريح الفراش، وتطور الأمر حتى انتقل الحزن من مجرد مرض نفسي أصابه إلى مرض عقلي، وفقد نفسه. الرجل، الذي كان حديث السمع والبصر، في الأناقة، وفي التجارة، ويملك من الأموال الوفير، أصبح بين ليلة وضحاها، مريضًا عقليًا، ولأنه لم يتزوج، ولم يكن له ذرية، تدهورت حياته شيئًا فشيئًا، ولم يجد من يرعاه، ف إخوته كل منعم يعيش حياته، ونتيجة للمرض العقلي تارة، والإهمال الذي طرأ على حياته تارة أخرى، خرج «عوض» ولم يعد. خروج أخير كان خروج «عوض» هو الخروج الأخير من أسرته، لأنه عندما ترك البيت، وأخذته الشوارع على أرصفتها، لم يحاول أحد البحث عنه، ومن شارع إلى شارع أخذ يتنقل الفاقد عقله حزنًا، دون هداية ودون هوية، يسير لغرض السير، ويهرب لغرض الهروب، دون أن يعرف أين نهاية طريقه، ودون أن يعرف آخر هروبه أين؟ من قنا، بدأ الهروب، وبعد فترة من منطقة إلى منطقة ومن بلدة إلى بلدة، وصل القاهرة، وبات في طرقاتها، وانضم إلى المتشردين في العاصمة، وانقلبت الآية تمامًا، فالرجل الذي كان يضع يده في جيبه يُخرج ما يشاء من أموال، أصبح فاقد الهوية مريض عقليًا، ولا يحتكم حتى على لقمة تسد جوعه، وبات ينظر إليه الناس فى عطف فيعطونه من إحسانهم. الفصل غير المروي في قصة ابن قنا، أنه لم تكن هناك أي محاولات للعثور عليه، وكأنه خرج وأرادوا له أن يخرج، أو كأنه هرب قاصدًا ألا يعثر عليه أحد وانتهى الأمر إلى هذه النهاية. بعد فترة أكل الرصيف من جسده، وأصبح ك الميت لكنه يتنفس، تمكن المرض منه أكثر وأكثر، وأصابه الهذيان والضعف، وصلت إخبارية به إلى التدخل السريع بوزارة التضامن، والتي بدورها وجهت مؤسسة معانا لإنقاذ إنسان إليه، وبالفعل خرج وفد من المؤسسة وبحثوا عنه حتى وجدوه، ونقل إلى الدار. بعد دخوله الدار، أجريت كل الفحوصات الطبية اللازمة حتى يتأكدوا من طبيعة حالته الصحية والنفسية، وتأكدوا من إصابته بمرض عقلي، وأنه بسبب حزنه على وفاة والديه، وعرفوا منه مسقط رأسه، وحاولوا التواصل مع أهله كي يحضروا ويستلموه، لكنها كانت الطامة، الأهل رفضوا الحضور، ورفضوا أن يأخذوه، وقالوا لهم إن وجوده في الدار أفضل له، وأنهم لا يقدرون على مساعدته، ليسدل فصل آخر على الجحود في أبشع صوره، ولتبدأ فصول أخرى عن كيف يغير الله من حال إلى حال. الأمل الأخير عادل عشري، رجل تجاوز عمره ال60 عامًا، لكن حسبة العمر هنا كانت بالأرقام فقط، لأنه - على حسب ما قال - لم يعش طيلة عمره، أو بالأحرى، لم ير طيلة عمره ما يسره. هكذا بدأ حديثه، وأضاف: «كنت أمتلك شقة، وكنت مستقرا، أو شبه مستقر، لكن لسبب ما، أجبرت على بيع شقتي، مقابل 110 ألف جنيه، مع أنها تساوي ربع مليون، لكن بعتها مرغمًا، ووضعت أموالها ثمنًا لسيارة أجرة، كنت أعمل عليها وردية وسائق آخر يعمل عليها وردية أخرى، وسكنت في شقة إيجار جديد، في البداية كنت أدفع 700 جنيه، وبعد فترة وصل الإيجار ل 1400 جنيه، حينها كنت مستقرا ماديًا، لكن الطامة الكبرى التي حدثت لي وقت أن اضطررت لبيع السيارة». أن «السائق الآخر الذي كان يعمل على السيارة، تعرض بها لحادث مفجع، وتأثرت السيارة جدًا من هذا الحادث، وقتها كانت تكلفة صيانتها تتخطى سعرها أصلا، ونصحنى البعض ببيعها، خاصة وأن الفترة التي كانت فيها لا تعمل طالت، تراكم علي إيجار البيت، ولم أجد لي أي دخل مادي، لأنها كانت الدخل المالي الوحيد لي، وبالفعل بعتها، وخسرت فيها ما لا يقل عن 50 ألف جنيه، وبالمال الذي بعتها به، سددت ديوني، وسددت ما تبقى علي من إيجار». واستكمل: «وقتها كنت حزينًا للغاية، لأنني طيلة عمري كنت معتادًا على أن أعيش بجهدي، وأن لا أسأل الناس مطلقا، لكن ظروفي أصبحت قاسية، وزادت قسوتها عندما طردني صاحب الشقة لأني لم أدفع الإيجار، حينها اتخذت من الشارع مأوى لي، افترشت الطرقات، والأرصفة، وما زاد الطين بلة عندما خانتني صحتي ووجدتني لا أقوى على الحركة، وعندها ذهبوا بي أولاد الحلال إلى الطبيب، عرفت أني مصاب ب جلطة، كانت من الحزن على نفسي وعن ما وصلت إليه، لم اتحمل ما جرى لي وما أصبحت فيه، وعليه، كنت أمكث بالشهور داخل مستشفى الدمرداش، لأنني كنت أتعالج فيها، لدرجة أن البعض ظن من كثرة تواجدي أمام المستشفى أو داخلها أنني أعمل فيها». لم يكن عادل عشري إلا رجلًا يرى نفسه الأفضل، والأجدر، نظرته إلى نفسه دائمًا نظرة اعتزاز، هكذا كانت شخصيته وحياته، وبالتالي عندما مر بما مر به، كان مقدار الحزن عليه أصعب وأقسى، أصيب بالمرض حزنًا على نفسه، وعن ما آلت إليه ظروفه، وعلى الرغم من ذلك كله، لم يقدم يده لأحد، كان يقول: «أنا عندي أهل، ومش عايزهم يشوفوني في اللي أنا فيه، أنا ابن ناس ومش عايز حد يشوف ظروفي، وحتى لما حد منهم قرر يساعدني أنا رفضت، ومقبلتش، ولما جبولي أوضة أسكن فيها روحت عشان أشوفها، لقيتها مليانة حشرات، مقبلتش على نفسي الوضع ده وسبتها ومشيت». واختتم: «وعلى هذه الحالة التي كنت عليها، عرف البعض قصتي وأنا في المستشفى وحينها أبلغوا عن حالتي وزارة التضامن وجيت إلى دار معانا لإنقاذ إنسان لأعيش فيها ما تبقى من عمري، وقال: «أنا دلوقتي عايش هنا اللي فاضل من عمري وراضي ومبسوط، ومطمن، لكن دلوقتي أنا بحاول أجري على معاش يضمن لي حياتي، قدمت على تكافل وكرامة ومنتظر الموافقة على طلبي، وحتى لما قالوا لي اعمل بطاقة الخدمات المتكاملة لأني بعد ما جاتلي جلطة بقت حركتي قليلة وبقيت شبه معاق، ولسه لحد دلوقتي مقدم على كل ده ومحصلش حاجة، ياريت يعملولي معاش أعيش منه، أنا مش عايز حاجة غير إني متبهدلش على آخر أيامي». عايز شقتى الحكاية الثالثة لا تقل مأساة عن الحكايتين السابقتين، بطلها «محمد صابر»، العجوز الذي تجاوز عمره ال60 عامًا، والذي كان يعيش في منطقة الدويقة بالقاهرة، في شقة كانت تملكها والدته، ورثها عنها، عاش فيها، لكن تعرض للبلطجة، أكثر من مرة، ووصل الأمر إلى أن استولى البلطجية على شقته، وطردوه منها أشد طردة. حكاية عم محمد صابر، كانت سطورها عبارة عن حزن كامن في الكلمات، والتي كانت معناها الحقيقي قسوة ومأساة، عاشها الرجل الذي كان يسرح في منطقة الموسكي وفي شارع الحسين ب «بخور وسبح». بدأت حياة الرجل مستقرة، هو لم يتزوج، ولم يسبق له أن فكر في تجربة الزواج، لأنه لم يكن مؤمنًا بقدرته على تحمل المسئولية، نظرًا للعمل الذي يعمله، والذي قال عنه: «أنا راجل يا بيه سريح على باب الله، منين أجيب افتح بيت واشيل المسئولية، هو أنا قادر على إني أشيل مسئولية نفسي لما اتجوز وأشيل مسئولية ست وعيال». يقول أيضًا: «أنا كنت فعلا شبه مستقر، عايش في شقة ورثتها عن أمي، وبطلع على أكل عيشي كل يوم الصبح وارجع آخر اليوم معايا اللي ربنا رزقني بيه، وكنت عايش وراضي، لكن المنطقة اللي كنت عايش فيها كان فيها بلطجية، وأنا راجل لا حول لي ولا قوي، منين أقف قدامهم». وأضاف: «كنت بقول هما بعيد عني، طالما بعيد عنهم، وبعدت عن شرهم، لكن شرهم مبعدش عني، فضلوا حاطيني في دماغهم لحد ما عرفوا كل حاجة عني، وبعد كده بدأوا يتعرضوا ليا، وبدأوا يضايقوني، وأنا على قد ما أقدر كنت بتفاداهم، لكن هما مرضوش يسيبوني في حالي، لحد ما حصل اللي حصل». واستكمل: «في يوم وأنا مروح من الشغل، وبفتح الباب بتاع الشقة، لقيت المفتاح مش بيفتح، حاولت مرة واتنين لكن برضه الباب مفتحش، وفجأة سمعت صوت من جوه الشقة، فخبطت، لقيتهم طالعين من شقتي وبيقولولي إيه اللي جاييك هنا، قلتلهم دي شقتي وبيتي، قالولي لا دي بقت بتاعتنا خلاص، وامشي من هنا، ولما اعترضت ضربوني، وملقتش قدامي حل غير إني أروح القسم، لكن أروح أقولهم أيه وانا مش معايا أوراق خالص، ولا عقد الشقة، ولا حتى بطاقتي، كل ده كان في الشقة اللي خدوها مني، وفعلا فضلت على هذا الحال حوالي شهر، بلف على المحامين وأهل الخير يجبولي حقي، ومحدش عمل لي حاجة، وغصب عني نمت في الشارع، في الموسكي والحسين، وبعد فترة شافوني ولاد الحلال وجابوني هنا». واختتم: «أنا هنا عايش مبسوط وراضي، لكن عايز شقتي، دي ملكي وارثها عن أمي، أنا نفسي حد يقف جنبي، ويجيب لي حقي، اللي ضاع مني ومش عارف أجيبه». اقرأ أيضا: جامعة القاهرة تنظم زيارة لدار مسنين «بيت العائلة» ومؤسسة «معانا لإنقاذ إنسان»