عاش كثير من أبناء الجاليات الأجنبية في مصر منذ أواخر القرن 19، وحتى منتصف القرن العشرين، مما جعل مدنا مثل القاهرةوالإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية وغيرها مكانا لذكريات الطفولة والشباب لعدة أجيال بصحبة عائلاتهم وأصدقائهم من ثقافات متعددة، حتى أنهم بعد المغادرة بقيت مصر لديهم أرض الزمن الجميل، وموطن الحنين الذي عبر بعضهم عنه في عدد كبير من الروايات والمذكرات التي كتبت ونشرت بكل اللغات منذ أواخر الخمسينيات وحتى وقت قريب. ◄ مصر مثلت الزمن الجميل لعشرات الكتاب حول العالم ◄ الإسكندرية عشق اليونانيين والإيطاليين ومدن القناة تحمل ذكريات للفرنسيين ◄ حفنة رمل للذكرى وصوت الأذان في ذاكرة المغادرين ■ أحد مقاهي اليونانيين في الإسكندرية يصف أغلبهم الحياة في مصر كجنة مفقودة، عنوانها التعايش والانفتاح والكوزموبولوتانية والجمال والرقي. إلا أن اعتبارات عديدة تتشابك في تلك الحقبة التى كانت فترة احتلال والذى كان أساسا لتواجد بعض الأجانب، وثانيا فقد عاشت بعض الجاليات داخل مجتمعات مترفعة وشبه معزولة، وثالثا لأن جزءا من ذلك الولع كان قائما على نظرة استشراقية، فيها بعض من التصنيف وأحيانا التعالى. كما أن سنوات الخروج الجماعي من مصر اختلطت بلحظات التحرر والنضال من أجل الاستقلال، والعدوان الثلاثى، وأخطار أمنية، بالإضافة إلى التوجه نحو التمصير، وأطروحات حول استعادة حقوق الطبقات الشعبية من أيدى الغرباء. وبصرف النظر عن تقييم تلك الاعتبارات وتداعياتها، تبقى كتابات الأجانب المغادرين شهادات مهمة، كأدب يحمل طابعا إنسانيا، مليئا بالحنين لمصر كموطن للذكريات، حتى أن الكثيرين قالوا إنهم حرصوا خلال مغادرتهم السريعة على أخذ تذكارات بسيطة مثل حفنة رمل من شاطئ. ■ أحياء القاهرة القديمة ظهرت كخلفية في كثير من كتابات الاجانب عن مصر ◄ عشق يوناني لم تعش كل الجاليات الأجنبية فى مصر بالطريقة نفسها، فبينما اندمج الكثيرون من أبناء الجاليتين اليونانية والإيطالية والأرمن على سبيل المثال، وعملوا فى أعمال عادية مثل دكاكين البقالة والمطاعم وكحلاقين، وغيرها، وعاشوا فى الأحياء الشعبية مع المصريين، فضل آخرون حياة منفصلة. وبالنسبة لليونانيين، فقد حظت الإسكندرية بأغلب اهتمامهم، كما فى المجموعة القصصية «وداعا للإسكندرية» لليونانى «هارى تسالاس» الذى ولد وعاش فى المدينة، وغادرها فى الخمسينيات. ويروى فيها ذكريات طفولته وشبابه فى حى «كامب شيزار»، بين المكتبات القديمة، ومقاهى الفنادق الفاخرة، كما تعكس قصصه أجواء ما قبل الحرب العالمية وما بعدها. ■ الإسكندرية في الخمسينيات وقد هاجر الكاتب عام 56 إلى البرازيل قبل أن يستقر فى اليونان ويؤسس المعهد الهيلينى لدراسات الإسكندرية القديمة والوسيطة فى أثينا، لتبقى الإسكندرية شاغله طوال حياته. كذلك هناك كتاب «آنّا مصر: رحلة فنانة» لليونانية «آنّا بوجيجيان» التى وضعت اسمها فى العنوان منسوبا إلى مصر، ويضم رسوما ومذكرات من مصر التى ولدت بها، وظلت تتردد عليها. الكتاب أصدرته الجامعة الأمريكيةبالقاهرة عام 2003. وهو ثرى بالخيال والمعلومات عن القاهرة، والتى كتبت بأسلوب شاعري. كذلك الكاتبة «ميمى سبانو» صاحبة رواية «الظل الطويل للإسكندرية»، والتى كتبتها بعد هجرتها مع عائلتها إلى أستراليا. وتقدم فيها وصفا مفعما بالتفاصيل للمطبخ واللهجة اليونانية المصرية، وتعبر عن ألمها لافتقادها للمدينة التى اعتبرتها جنة صغيرة، للثقافة المتوسطية. وهناك أيضا رواية «فى شارع ليبسوس» لليونانية «بيرسا كوموتسي» التى تدور حول مجتمع اليونانيين فى الإسكندرية وخصوصا منطقة كوم الدكة. وتدور أغلب أحداث رواياتها فى مصر، مثل «الضفة الغربية من النيل»، و«فى شوارع القاهرة.. نزهة مع نجيب محفوظ». كما أنها مترجمة ساهمت فى تعريف اليونانيين بالأدب العربي. كذلك كتب اليونانى «دميتريس ستيفاناكيس» رواية بعنوان «أيام الإسكندرية»، تدور أحداثها حول نصف قرن فى المدينة على خلفية أحداث وحروب وفى أجواء التجار والسياسة وقصص الحب والاستعمار وحركات التحرر. ■ الكنيسة اليونانية في بورسعيد ◄ زجاج مسحور على الجانب الآخر كتب عدد من الإنجليز كتبا يمكن تصنيفها ضمن الحنين إلى مصر. ويصنف البعض رباعية الإسكندرية للورانس داريل فى هذا الإطار، وكذلك «ثلاثية الشرق» للإنجليزية «أوليفيا مانينج»، والتى تسترجع فيها حياتها فى مصر كلاجئة خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وبين مثقفين متعددى الجنسيات. وعكست كتبها شخصيتها المتمردة والساخطة على كل شىء. ورغم ذلك ظهرت مصر فى النهاية كملاذ آمن للمهاجرين. وفى رواية «الدفلى والجكراندا: الطفولة المدركة» تناولت الكاتبة الإنجليزية المرموقة «بينيلوب لايفلى» ذكريات طفولتها وصباها فى القاهرة خلال الثلاثينيات والأربعينيات. ووصفت القاهرة القديمة بأسواقها وأشجار «الجاكراندا»، ذات الأزهار البنفسجية، وتأملت كيف شكلت مصر هويتها ككاتبة. ■ المجموعة القصصية وداعا للإسكندرية وتمتلئ الرواية بالطيور والحيوانات والنيل، وتتنقل خلالها بين رحلة الطفلة إلى إحدى القرى، وبين قضاء فترة ما بعد الظهر فى نادى الجزيرة الأنيق، فى بيئة فريدة من نوعها. أما «الزجاج المسحور: ذكريات عن مصر» فهو عنوان كتاب للدبلوماسى البريطانى والمؤرخ الفنى «روبن فادن» الذى عاش فى مصر خلال الأربعينيات والخمسينيات، وكان نائبا لقنصل بريطانيا فى مصر، بين الأقصر وأسوان. ورغم عمله الرسمى كجزء من سلطة الاحتلال، لكنه أظهر شغفا رفيعا بالثقافة المصرية القديمة والحديثة. ورسم فى كتابه الصادر فى لندن عام 1955 صورة لمصر حملت الكثير من الحب والحنين للأماكن، وخصوصا فى الريف والصعيد، وعالم الطقوس اليومية، والأساطير الشعبية، والحياة البسيطة. وتناول حتى ألعاب الأطفال على ضفاف النيل، ومشاهد النساء حاملات الجرار الفخارية، والموالد، وليالى الصوفية، والأفراح القروية، والطقوس التى يمتد بعضها إلى زمن الفراعنة. وقد وُصف الكتاب بأنه رومانسى استشراقى. ■ رواية مصر 51 لياسمين خلاط ◄ الزمن الجميل عاش كثير من الفرنسيين فى مصر خلال تلك الحقبة لعلاقتهم بقناة السويس، ومنهم المؤرخ الفرنسى «جان جاك لوتى»، المولود فى بورسعيد عام 1937، وصاحب كتاب «بورسعيد: أيام الزمن الجميل» الذى يرصد تفاصيل حية عن المدينة متعددة الثقافات خلال الأربعينيات والخمسينيات، وخصوصا الميناء النابض بالحياة، والبحارة اليونانين والإيطاليين، ومقاهى الكورنيش والأحياء الشعبية. أما المؤرخ الفرنسى «جاك بيرك» فله كتاب بعنوان «عندما كنا فرنسيين فى مصر» تتبع فيه أرشيف عائلته التى عاشت فى مصر بين عامى 1880، 1956 وركز على طفولة الطبقة الأرستقراطية الفرنسية فى القاهرة، خصوصا فى حى جاردن سيتى. ■ غلاف رواية الرجل ذو البدلة البيضاء الشاركسكين وبكثير من الحنين والشجن وصف كيف اعتبر مصر وطنه المفقود. كذلك كتب الفرنسى «روبرت سوليه» رواية بعنوان «الطربوش» استعاد فيها طفولته فى مصر التى ولد بها عام 1946 وغادرها فى الستينيات. وأورد بها الكثير من التفاصيل، ومنها صوت المؤذن، ورائحة الفول والطعمية، وألعاب الأطفال فى شوارع العتبة، وغيرها. أما الفرنسى من أصل إيطالى «جوزى أوسي» الذى ولد وعاش فى الإسكندرية، فله كتاب بعنوان «الإسكندرية التى فقدناها»، ويسترجع فيه حياته بالمدينة وخصوصا المناطق التى كانت تعج بالإيطاليين مثل شارع النبى دانيال، ويحكى عن المقاهى التى كانت تعزف فيها موسيقى «فيردي»، ونقاشات المثقفين باللغتين الفرنسية والعربية. كذلك كتبت اللبنانية الفرنسية «ياسمين خلاط» التى ولدت فى الإسماعيلية، عام 59، روايتها «مصر51» وجعلت من الإسماعيلية مكانا لقصة حب بين شاب وفتاة لبنانيين، من عائلتين ميسورتين، لكن قصة حبهما ترتبك على خلفية الأوضاع السياسية وتصاعد الحراك الثورى فى منطقة القناة عام 51. ■ كتاب العودة إلى مصر لكرستينا كوليلا ◄ حنين «عودة إلى مصر» هو عنوان رواية للإيطالية «بربارا ألبيرتى» وتدور أحداثها عن عودتها إلى القاهرة فى الثمانينيات، للبحث عن آثار والدها الذى عمل مهندسا فى مصر فى الأربعينيات، وحيث عاشت طفولتها معه. ولكنها فوجئت بتغيرات عمرانية واجتماعية، جعلت من الماضى الذى أتت لاستعادته بعيد المنال. كذلك كتبت الإيطالية «جينى آلحديف» روايتها «الشمس منتصف النهار» التى تعتبر مرثية فى حب الإسكندرية التى كانت أرضا للتعايش بين الثقافات. أما الأرمنى «فاهان شيرازيان» فكتب «مذكرات أرمنى مصري» وصف فيها سيرة عائلته بعد أن هاجرت إلى مصر فى أعقاب الإبادة التى تعرضوا لها على أيدى الأتراك عام 1915، وعاش مع عائلته فى حى حلوان. وحكى كيف أصبحت مصر وطنا بديلا آمنا ومحببا للأرمن. كما وصف حى الأزبكية حيث كانت مطابع الأرمن، وعدد من المقاهى الثقافية. ■ كوبري الإرشاد بالإسماعيلية عام 42 كذلك هناك كتاب «خارج مصر» للإيطالى اليهودى «أندريه أكيمان» الذي عاش مع عائلته فى الإسكندرية، وغادرها فى الستينيات. وتناول فيها تفاصيل من مشاهداته فيها واصفا رائحة الميناء، وأصوات الباعة، ورحلات عائلته الأسبوعية إلى السينما، واليومية إلى الشاطئ. ■ محطة الإسماعيلية عام 34 كما يتحدث عن أجواء التسامح التى كانت سائدة، ويسيطر الحزن على ذكريات رحيله. ولا يمكن أن ننسى رواية «الرجل بالبدلة البيضاء الشاركسكين» التى تسترجع ذكريات مؤلفتها «لوسيت لاجنادو» فى حى الظاهر بالقاهرة، وأجواء التسامح بين الأديان، وسحر القاهرة متعددة الثقافات، وكيف عاشت أسرتها قبل الهجرة إلى باريس ثم نيويورك عام 63. ■ يونانيون يحتفلون في إحدى حدائق مصر وتروى كيف كان والدها يدير أعماله التجارية من شرفة فندق شيبرد المطل على الأوبرا الخديوية، مرتديا بدلته البيضاء. وتمعن فى تفاصيل كل شيء فى حالة من الحنين والشجن. ولا تخفى شعورها بالمرارة لمغادرة عائلتها مصر.