طائر قصّت الدنيا جناحيه، قلبه حيران الهوى يسأل عنه. فى مقلتيه أشواق لبلد جميل.. كان يعيش وسط أهله وردة تملأ كل صباح عطراً وضياءً ومودّة. يفتّش عن وجه حبيبته داخل صناديق من كنوز الذكريات، فيعثر على دفتر الأشواق وفيه صور قديمة لطقوس زواجه بمعبد «أبواب السماء» الرابض فى شارع عدلي.. وصورة زفافه التى أخذها مع عروسه فى أستوديو جين وينبرج (هذا الفنان الذى عمل فى بلاط أتاتورك قبل مجيئه إلى مصر).. وصور المدعويين من الأهل والأصدقاء.. والعربة التى تجرها الخيل لتطوف بالعروسين فى واحدة من أجمل مدن العالم إغراء.. فى «القاهرة». مدينته كانت عالمية تعج بالجاليات الأجنبية وتتحدث بالفرنسية، والإنجليزية، واليونانية، والإيطالية، والألمانية والأرمينية، لتمتزج جميعها بالكلمات العربية. يسكب فى مخيّلته الألوان على الصور التى أضحت باهتة، ويتساءل حزناً: أين ذهب الرفقاء والأحباب؟.. هل يمهله الزمان الفرصة كي يجد السلوى والعزاء بعيداً عن «قاهرته» التي تأسر الألباب؟!.. كيف لرجل وجيه أنيق لم يعرف غير «مصر» وطناً له، أن ينتهى به الحال فى أمريكا كبائع لربطات العنق (الكرافات) يجول بصندوق من الكرتون بين الشوارع وقطار الأنفاق؟!.. ما أشقى من إنسان يقيم بعيداً عن أصله، ويظل يبحث ما بقى من عمره عن زمان وصله. حين غادر المحروسة كان عمره قد شارف على الثالثة والستين. قضى «ليون» أيامه في المهجر على غصن الانتظار، كزهرة التوليب ملّتف حول نفسه منغلق. يحتفظ بحقيبة سفر فى غرفة المعيشة على أمل ذلك اليوم الذى يعود فيه مرة أخرى إلى شارع الملكة نازلي (رمسيس حالياً). وكما تعيش زهرة التوليب بعد قطفها فترة أطول من بقية الزهور، عاش هو فى عزلته - بعد اقتلاعه من مصر- مريضاً بحبها.. إلى أن توفى (يناير 1993).. مات منكسراً فهو لم ير قاهرته ثانية. كم كان يحنّ لكثير من الأشياء في مصر!.. لأناسها وللحياة التى يموج بها الشارع والملاهى.. «حتى الورود فى نيويورك لا ترقى لورود القاهرة!.. لا رائحة لها، شأن أمريكا نفسها.. لا روح ولا حياة».
عازب والمساء
على أمل أن تحقق رغبة والدها الأكثر عمقاً فى العودة ثانية، قررت الابنة «لوسيت» -الصحفية بجريدة «وول ستريت جورنال» الأمريكية- أن تأتى لزيارة القاهرة، الأرض التى شهدت فجر ميلادها، والتى غادرتها وهى لاتزال الطفلة «لولو» الطالبة بمدرسة الليسيه فرنسيه بباب اللوق. جاءت إلى المحروسة فى ربيع 2005. تمسح غبار السنين، ليتراءى لها شارع نازلي كالظّل الحزين على صفحة الماء الراكد. أين العمارات التى كانت يوماً ما مهيبة؟.. أين ذهبت الأناقة التى كان والدها يتوق شوقاً إليها؟.. سلالم البيت التى كانت تلعب مع قطتها «بسبس» عليها مهملة ومتربة، والحوائط والأرضيات الرخامية قد انطفأ بريقها، وكأنها حزينة على فراق أصحابها!.. أين «عم عبده» البواب السوداني بقفطانه الواسع مفعّماً بالكبرياء؟.. أطياف الأمس تدور فى أهداب الذكريات. لم يحزنها غربة الفراق، بقدر ما أحزنها غربة اللقاء!
فوق رصيف الحنين، تمر قطارات الذكريات سريعاً أمام عيني «لوسيت». فتتذكر والدها الذى عمل (قمسيونجى) بسيطاً، وكان يضارب فى البورصة على الضيق. وحين يأتى المساء، يرتدى بدلته الشاركسكين البيضاء وقميصه الحريرى ليبدأ رحلة البحث عن السعادة.. فى زمن كل أبوابه تقودك إلى السعادة. فى الغالب كان يتجه ليون إلى «كازينو بديعة» ليستكمل سهرته مع الرقص الشرقى أو «كوفنت جاردن» جنة الرقص فى الهواء الطلق. أمّا الخميس الأول من كل شهر، فكانت هى الليلة الوحيدة التى لا يغادر فيها والدها البيت. إنها الليلة التى تشدو فيها أم كلثوم على الهواء مباشرة من مسرح الأزبكية.. فيجلس والدها على مقربة من المذياع، أسيراً لقيثارة حب وأنشودة حياة. لا شك أن قاهرته كانت تحفل بكل أسباب المتع. لذا، عاش «ليون» مع والدته واستطاب عزوبيته لفترة طويلة. إلى أن جاء لقاؤه الأول بها فى «الباريزيانا» أحد أشهر مقاهى القاهرة، عندما التقى ب «إيديث» وهى تجلس مع والدتها ترتشف فنجان من القهوة التركى. فُتن «ليون» بجمالها، وقرر أن يتم حفل الزواج فى موعده، بالرغم من أن «فليكس» العاطل شقيق عروسه أقدم على سرقة خاتم الخطوبة قبل أيام من حفل الزفاف.
فاكهة الرب
تعبر نهر السنين وجسر الأيام.. تنظر «لوسيت» من خلال الزجاج المضبّب لقطار الذكرى وهى تقطع المسافات. تدوّن كل مشاهداتها فى مقالات بالصحف الأمريكية وفى كتابها عن حياة أسرتها فى مصر «الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين» والذى صدر بأكثر من لغة منها العربية. تلوح لها وسط الضباب صورة مصر الأربعينيات التى شهدت اسقرار أكثر من 80 ألف يهودى بها ينتمون إلى مختلف الطبقات الاجتماعية: الباشوات، يسكنون فيلات فاخرة بجاردن سيتى والزمالك.. والفقراء، يقطنون حارة اليهود.. وبين هاتين الطبقتين، يعيش يهود الطبقة الوسطى فيما بين غمرة والسكاكينى. كيف لها أن تنسى طقوس يوم السبت فى مصر؟.. هذا اليوم اليهودى المقدس، الذى كان يبدأ التحضير له من مساء الجمعة. بحلول المغرب، كانت الشوارع تعج برجال فى قمة الأناقة، يسيرون فى طريقهم إلى المعبد. حاملين حقائب من قماش الساتان أو القطيفة تحوى شال الصلاة، وكتب التلاوة، وقلنسوة الرأس. فيما كان والدها يفضّل الصلاة فى معبد على مقربة من بيته، إمّا «الكُتاب» أو «رابطة الحب والصداقة». ما أن تنتهى الصلاة، يخرج اليهود من عشرات المعابد اليهودية المنتشرة فى حي غمرة، يحمل كل منهم عوداً أخضر فى يده (غصناً من نبات عطرّى ذى رائحة قوية) كانوا قد حصلوا عليها فى نهاية الصلاة، تبركاً من الحاخام. كانت الجدة «ظريفة» تعد لليلة «شباط» أطباقا شهية تفوح منها بقوة رائحة البصل والكراث والليمون والثوم. كما امتدت أسرار الطهي عندها إلى بعض أنواع الطعام التي تعتقد أن لها قوى علاجية شافية شأن اللوز والكرز والزيتون. أمّا المشمش فهو بالنسبة لها «فاكهة الرب»، لذلك كانت تدس قطعة في أي طبق تطهوه، فتحشو به صدر دجاجة، وتضعه تحت شريحة من لحم البقر، ومع محشي ورق العنب، أو داخل السمك البوري النيلي ذى الحجم الكبير. ومن بين معتقداتها كان طهى الباذنجان الأبيض المحشو ليلة السبت - وليس الأسود- اعتقاداً منها بأنه يجلب سوء الحظ. الأسود كله كان ممنوعاً في هذه الليلة: الملابس السوداء، الأفكار السوداء، حتى الزيتون الأسود.. لضمان أن يمر الأسبوع بسلام دون منغصات. وجوه عديدة تطارد «لوسيت» لناس رحلوا.. ولن يعودوا. لا شيء غير الضباب يمحو قطارات الشتات.. وصوت الريح.. وصافرة الحارس العجوز!.. أقفرت المحطات.. ورحلوا الأحباب.. بعد أن ذبلت زهورهم وأعوادهم الخضراء فوق مقاعد أرصفة الانتظار.
أوراق الورد
تجاري طيف ظلّها فى أركان بيت الأسرة الذى جائت من أمريكا خصيصا لزيارته.. تتبع فضولها بشغف.. تتجول فى كل الغرف - بعد أن سمح لها أصحاب البيت الجدد بذلك- لتركض «لوسيت» إلى طفولتها وهويتها الضائعة بين جنبات الجدران. تتأمل شرفة حجرتها التى كانت تطل على الزقاق الجانبى من شارع نازلي. هنا كانت تقف صغيرة مع قطتها فى كل صباح.. تترقب حركة الباعة الجائلين بالزقاق وهم يتحركون برشاقة، حاملين على رءوسهم سلال السمك أو يدفعون أمامهم عربات الخضروات والفاكهة. مازالت أصوات غنائهم لبضائعهم كالألحان فى أذنها.. خاصة فى موسم الورد حيث يعج الزقاق ببائعي أوراق الورد ممن يتغنون ب «الورد.. الورد.. يا ورد مين يشتريك».. يبيعونه بالكيلة، أى ما يعادل ثمنها مليمين. وكانت عماتها يصنعن منه مربى الورد اللذيذة أو يقمن بتقطيره للحصول على ماء الورد اللازم لعمل المخبوزات والحلويات. يترنح رقاص ساعة الحائط أمام عينيها.. فيعيد إلى ذاكرتها ساعة الرحيل من مصر التى أعقبت ثورة 23 يوليو 1952. كل الظروف كانت تدفع اليهود للهجرة خارج البلاد بعد أن أهملت مئات المعابد ثم هدّمت، ونهبت الشواهد الرخامية للمقابر، وافتقدت المتاجر الفاخرة التى كانت مملوكة لليهود اهتمام أصحابها الجدد وعنايتهم بها، وخلت المدارس فجأة من تلاميذها. «كنا جميعاً شهوداً على نهاية أسلوب حياة وطريقة معيشة يشعر بها الكثيرون حين يتذكرونها بمزيج من الشوق والمرارة». لم يذهب لوعة الحزن فى فؤاد «لوسيت» سوى حفاوة استقبال جيران عمارتها لها. فهم لايزالون يتذكرون بالخير والحب عائلتها، وقد دعوها للبقاء معهم إلى الأبد. هنا أدركت الابنة أسباب تعلق والدها بمصر طوال عمره. لم تكن عمارة شارع الملكة نازلي مجرد مكان ولكنها كانت حالة ذهنية.. تشهد على مستوى راق من الإنسانية غير المسبوقة والرحمة والتعاطف والدماثة التى لم تنجح وسائل الراحة الحديثة فى توفيرها بأى مكان آخر فى العالم. «أبدا لم أشعر بهذه الحميمية تجاه أبى كما أحسستها فى هاتين الزيارتين إلى مصر.. لقد كنت أشعر به حولى فى كل مكان أسير فيه فى شوارع القاهرة».