نك كايستور ترجمة: بسمة ناجى نك كايستور مترجم وصحفي بريطاني، اشتهر بترجماته للأدب الإسباني والفرنسي والبرتغالي إلى الانجليزية. يقدم نيك مراجعة لكتاب «سمكة في الماء» وهو سيرة ذاتية ليوسا، في سردٍ مزدوج يتناوب بين طفولته ومراهقته الفقيرة في بيرو ومحاولته الجريئة لرئاسة بيرو في عام 1990، التي فشلت في النهاية. يقدم الكتاب تأملاً في تقاطع الأدب والسياسة والطموح الشخصي والهوية الوطنية. على مدار حياته الأدبية، كان لماريو بارجاس يوسا نصيب ضخم من أفضل الروايات التي أنتجتها أمريكا اللاتينية. من رواية «زمن البطل»، التي انتقدت قسوة وغباء الحياة العسكرية، إلى التحليل السياسي في رواية «حوار في الكاتدرائية»، أو كوميديا «الخالة خوليا وكاتب السيناريو»، أكسبه اتساع خياله قاعدة شاسعة من القراء في العديد من البلدان. ومع تحوله إلى شخصية عالمية، حيث عاش بين باريس ولندن والولايات المتحدة، بدأ يوسا يتساءل لماذا لم تكن بيرو دولة نامية بقدر ما كانت دولة متأخرة تنهار أمام عينيه. في بريطانيا، اكتشف يوسا التاتشرية. كان متحمسًا للتحول إلى الاعتقاد بأن تدخل الدولة في الاقتصادات الوطنية يخنق النمو والحرية الفردية. حين أراد رئيس شعبوي في أواخر الثمانينيات تأميم النظام المصرفي البيروفي، عاد يوسا إلى بيرو وحشد جماعات المعارضة من حوله، ما أجبر الرئيس على التخلي عن هذا الإجراء. حوَّله هذا النجاح إلى التفرغ الكامل للعمل السياسي، وسرعان ما أتت الانتخابات الرئاسية لعام 1990. لعدة أشهر، بدا وكأن شيئًا لن يمنعه من تولي الرئاسة. على غرار فاتسلاف هافيل في تشيكوسلوفاكيا، رأى يوسا نفسه يبشر بعالمٍ جديد شجاع يجمع بين الأدب والسياسة بطريقة إبداعية ومحرِرة. ثم، فجأة، ظهر على الساحة بيروفي مجهول من أبوين يابانيَين، ألبرتو فوجيموري. تجاوزت ظاهرة فوجيموري الليبراليين الجدد في درعهم اللامع خلال الجولة الحاسمة من الانتخابات الرئاسية، فحزم يوسا حقائبه مغادرًا إلى فرنسا في اليوم التالي. تتنقل فصول كتاب «سمكة في الماء» العشرون بين تجارب يوسا السياسية في تلك السنوات الثلاث في نهاية الثمانينيات وحياته المبكرة حتى عام 1958، عندما غادر بيرو إلى باريس في سن الثانية والعشرين لمتابعة مسيرته المهنية ككاتب. لا تُقدم هذه القصص مجتمعةً صورةً آسرةً ليس فقط لنموّ مثقّفٍ نَهِم الفضول فحسب، بل تُقدّم أيضًا صورةً آسرةً لبيرو على مدى ثلاثين عامًا، بالذكاء، والنظرةٍ الثاقبةٍ للتفاصيل، ونفحاتٍ الفكاهة والغضب ذاتها التي تُميز إنتاج يوسا الأدبي. يصف يوسا بيرو الريفية في طفولته بأنها مكان دافئ وجذاب حيث كان الوجود البارد الوحيد هو وجود والده. يبدأ الكتاب بصدمة يوسا في سن العاشرة، لاكتشافه أن والده لم يمت، كما كان يعتقد، بل يعيش حياةً منفصلةً عنهم فحسب. ورغم عودة والديه مُجددًا للعيش معًا، إلا أن العلاقة القاسية والمُقلقة بين والده وبقية أفراد الأسرة هددت بتدمير طفولته بأكملها. للهروب من هذه التعاسة لجأ يوسا إلى عالم الكتب الخيالي، ومنذ سن الخامسة عشرة بدأ العمل في الصحف، مُجريًا أبحاثًا تاريخية، حتى أنه قام بفهرسة القبور في مقبرة ليما. على الرغم من أنه يُصوّر هذا على أنه نتيجةً لوضعه الاقتصادي المُزري - وخاصةً بعد زواجه في التاسعة عشرة من قريبته - إلا أن هذه الحاجة المُلحة لإثبات الذات كانت كمحاولةً يائسةً لكسب اهتمام ومودة والده الرافض له. في نهاية المطاف، أثمر هذا التوجه نحو الاعتماد على الذات فلسفته السياسية الناضجة. من المُؤسف أن ينقطع سرد يوسا في «سمكة في الماء» عند اللحظة التي يبدأ فيها اكتشافه للعالم خارج بيرو، ما يحرمنا من استكشاف جزء كبير من العملية التي أدت إلى قراره بتبني العمل السياسي، والأسباب التي دفعته إلى الاعتقاد بأن نجاحه ككاتب يعني أنه مُقدّر له أن يُصبح المُنقذ السياسي لبلاده. سواء اتفقنا أم اختلفنا مع قراءته للواقع السياسي البيروفي، لا يسعنا إلا الإعجاب بشجاعة بارجاس يوسا التي دفعته إلى المخاطرة للدفاع عن هذا الواقع والانخراط فيه. كان تحليله بأن البيروفيين قد سئموا من السياسيين الفاسدين من الطراز القديم صائبًا؛ ولكن لتحالفه مع حزبين من الأحزاب التقليدية، بدا للكثير من البيروفيين المُهمشين في الداخل كنموذج للمثقف الأبيض القادم من العاصمة، الجاهل بحياة غالبية مواطنيه المقهورين، وفاجأه «الصيني الصغير» فوجيموري. ثم، بعد الانتخابات، جاءت المفارقة الأخيرة: بدأ فوجيموري نفسه في تطبيق برنامج الخصخصة والتقشف العام الذي كان فارغاس يوسا يدعو إليه فور توليه الرئاسة، رغم أنه لم يذكر أي شيء عنه في حملته الانتخابية. بدا إنكار بارغاس يوسا لما حدث واستياؤه واضحَين، ويُشوِّها الكتاب، إذ يكاد يوحي بعدم استحقاق البيروفيين لتصويت ديمقراطي. يصف فوجيموري بأنه مستبدٌّ من الطراز القديم لإغلاقه الكونجرس واستغلاله سلطاتٍ شبه ديكتاتورية لفرض إصلاحاته ومحاربة الإرهاب، دون أن يقدم توضيحًا مُقنعًا لكيفية تعامله هو مع الأمور بشكلٍ مختلف إن نجح في تولي الرئاسة. والأهم من ذلك، أن «سمكة في الماء» تُصوِّر رحلته السياسية وكأنها تحدٍّ آخر وضعه لنفسه لا لخدمة وطنه بقدر ما هي محاولة لإرضاء والده الغائب. من السهل التحامُل على السياسيين أو الاستهزاء بهم، لكن ربما يتطلب فن الممكن، عند الخوض فيه بصدق، نفس القدر من التفاني والإيثار الذي يتطلبه الأدب.