حوار: أسامة فاروق حتى اللحظات الأخيرة كنت أخشى أن يتراجع مالك رابح عن الحوار. كان كمن يرتكب جرمًا! بل يدنس -بمجرد الحديث- منطقه طاهرة ونقية حسب تعبيره. يتدفق حوارنا ويتشعب فيندمج ثم يشرد فجأة ليقول: «لكنى لا أهتم. حقيقى لا أهتم». لا يهتم بكل ما هو خارج الكتابة، حتى لا يصبح داخلها إلا القلم والورقة البيضاء فقط. تطرف لا أشعر معه أن مجرد الحديث عن المكتوب -فقط- خارج الكتابة، بل حتى عملية النشر نفسها! «أنا دخيل» يقول ويؤكد بأكثر من معنى: «جئت هنا لكى ألعب»، لذا خلق بطلًا يشبهه؛ حائرًا، يعشق اللعب. فى «بيت الولد» روايته الأولى، يقدم لنا العالم عبر عيون مراهق يخوض رحلة قاسية -رغم حيادته فى حكيها- لميلاد آخر، للخروج الثانى من رحم أمه. مذنب أبدى يتجول بحمله الرهيب، ببيته الأول (رحم أمه) فى مدينة وضعته منذ البداية فى خانة العابرين لا الملوك، مدينة كل شيء فيها يؤكد غربته؛ المحال والشوارع والأصحاب، وحتى مجذوبها الذى يرفضه ثم يصبح دليل قبوله وختم نجاته. بطل ولد ولم يجد والده ليمر عبر طوقه فكاد يختنق فى طوق عمه، ثم يفاجأ بأنه يتحول لنسخة كربونية من أب غائب. ليتأكد من أن نزوله الذى لم يكلل بالنجاح من طوق العم لم يكن إلا تأجيلا لما كان سيحدث بالضبط، وأنه يصل للمكان نفسه رغم اختلاف الطريق. يدرك من البداية أن الحياة فى مكان آخر، لكن رحلة بحثه لا تنتهى إلى يقين واضح أو مرفأ آمن، فيظل معلقًا بكلام لم يقله وأحضان أجلها وذنوب ارتكبها فى عقله! بدأ حوارنا من النبذة التعريفية غير التقليدية فى كتابه ولم ينته بانتهاء اللقاء، بل استمر بعده فى رسائل طويلة متبادلة.. يعرف مالك نفسه بأنه: «كاتب وشاعر مصري، مواليد 1995. تخرج، رغما عنه، فى كلية الهندسة ببنها. يهوى المشى وإضاعة الفرص. رياضته المفضلة، ويمارسها فى أوقات فراغه من العمل، هى الوصول المتأخر إلى اكتشافات صغيرة، ينساها لاحقا». وفى حوارنا يقول إن والده سجله متقدما بأيام عن ميلاده الحقيقي، خوفا من التأخر فى الدخول إلى المدارس «هذا التدخل، الذى أجلسنى فى أول مقعد فى الفصل، لم يوفّر لى الوقت كما أراد لكنه، فى الحقيقة، جعلنى أصل إلى الحفلة متأخرا دائما». وهى الرؤية نفسها التى ينظر بها لقصته مع الكتابة، على الرغم من أنه يفكر الآن فى أنه كان دائما يكتب. فى طفولته، وبعد انتهاء العام الدراسي، كان يمزق بلذة صفحات الدراسة المليئة بالشخبطات ويحتفظ بالصفحات البيضاء، يكتب تنويعة على مشهد فى فيلم أو حدث فى حياته الصغيرة، وأحيانا كان يحتفظ بالبياض دون أن يمس «هذا الخوف من الصفحة البيضاء يلازمنى حتى الآن»، ثم يضع على الغلاف اسم متخيّل، المفارقة أنه لم يضع اسمه ولو لمرة واحدة، وسيمر وقت طويل قبل أن يقتنع بأنه كاتب بالفعل «لا يفارقنى شعور أنى دخيل على الأدب. ورغم أنى جادٌ فيما يخص الكتابة، إلّا أنى أفضل أن أبدو غير ذلك بعد القيام من على طاولة الكتابة. إنها نصيحة أومبرتو إيكو التى فهمتها متأخرا. جئتُ هنا للّعب، وأود أن يظل الأمر هكذا». - كيف تفكر فى الكتابة حاليا خصوصا بعد نشر كتابك الأول؟ ومتى وكيف اتخذت هذا القرار؟ أفكر أن الكتابة كانت حتمية. اكتشفتُ أنى أفهم نفسى أفضل حين أفعل ذلك، بالإضافة إلى أنها كانت تُسكننى وتعيد الأمور إلى نصابها. فيما عدا قليلاً من الأصحاب، لم يعرف أحد تقريبا. كنتُ كمن يلعب تنس طاولة مع الحائط. كنتُ أحكى القصص لنفسى كى أدفع عضّات الملل وأكتب الشعر السيئ مداراة للتثاؤب. دشنت، فى سنتى الجامعية الثانية، مدونة على تمبلر، كانت المنفذ الوحيد، وفرت لى الحرية وكذلك التجريب. كانت بمثابة ورشة كتابة لفرد واحد، كل ما كتبته تقريبا مر عبرها، وامتنانى سيظل بلا حدود لهذا المجتمع الرائع. فى عام الوباء، مررتُ تلك الكتابات إلى الخارج. نشرتُ بعض القصص و«هوامش للّعب» فى آخر قصة مع العزيز مو مصراتي، وكذلك قصص وقصائد فى ختم السلطان، وفى كتُب مملة والجمهورية. نت، «بيت الولد» فى نسخة أقدم كذلك نشرت على ثلاثة أجزاء فى أدب 360 مع مينا ناجي. توقفتُ بعدها لفترة، لا أعرف لماذا. كنت أكتب نصوصا وقصائد وأشاركها على المدونة أو أتداولها مع الأصدقاء، أشغل نفسى بمشاريع عدة فى الوقت نفسه ولا أصل إلى خط النهاية. فى وقت ما، وقد تزامن هذا مع قبولى لدور ثانوى فى حلم العائلة وبدئى للعمل، ظننتُ أن هذا هو آخر الدنيا، والوضع سيبقى على ما هو عليه. كان النشر الورقى يراوغني، لى تجربة قديمة معه ولا أحب أن أتحدث عنها. كانت فى حجرى النصوص لكنّى لم أكن أعرف أين أذهب بها. كانت فى حجرى النصوص وكان هذا كافيًا. كانت الكتابة وحدها، بغض النظر عن النتيجة، هى الثواب. ولم عليَّ أن أذهب أبعد؟ المهم، وقع بيت الولد، لحسن حظي، بين أيدى تنمية. استمتعت كثيرا بالعمل معهم فى كل مراحل الكتاب، وأشكر خالد لطفى وسارة عابدين وكل فريق تنمية على تحمسهم وكرمهم، ومحمد خير على نصائحه القيّمة والعمل على تحرير النص. - بالحديث عن التحرير، من أول من يطلع على مسوداتك؟ وما حدود ما تقبله من تدخلات وتعديلات؟ فى الفترة الأخيرة كانت إسراء طارق بمثابة ملاكى الحارس وأول من يطلع على ما أكتب، فى الحقيقة هى السبب فى خروج بيت الولد من الدرج. قبل ذلك أصدقائي، رغم أنى خسرتُ كثيرًا منهم فى حروب الاستنزاف اليومية التى لا نهاية لها. أتذكر بالتحديد القراء الأولين لكل قصة من قصصي، والملاحظات الذكية التى دائما ما تصلنى منهم، حتى وإن لم أستخدمها فى حينها فقد وسّعت رؤيتى وأفادتنى كثيرا لاحقا. أيضا، الأصدقاء على المدونة فى تمبلر ساعدونى بكرم وأريحية، وإن لم يكونوا يعرفونى تماما. أجد عملية التحرير لازمة، سواء كنت أفعل ذلك بنفسى أو أعمل مع محرر. إنها تشبه الطفو بوجه مالح فى الهواء، بعد التفلّت من قوى الشد والجذب. أحاول ألا أقف فى طريق أن يصبح النص أفضل ولو بدرجة. نكتب كثيرا من مناطق معتمة وجارحة، نقضى الوقت الطويل كالعثة تحاول الخروج إلى الضوء، عبر الكتابة وعبرها وحدها. ويصبح مؤلما أن يتخلص الواحد من الكلمات والمقاطع الطويلة التى صاحبته وأن يفتل بعيدا من القماش الذى ضمده. ما يطمئننا، هو أن يرانا الآخر. - ربما لم أتمكن من الوصول لكل النصوص، لكن فى «هوامش للعب» وفى نصوص أخرى أيضا، نقرأ ملامح عامة وربما الجو نفسه، بل وحتى فقرات بعينها ظهرت بعد ذلك فى المنتج النهائى «بيت الولد»، لكنه رغم ذلك مغاير. الملاحظة الأهم والأبرز ستكون عن الحذف، التخلي، نرى مثلا كيف توارى الأب لصالح بيت الابن وما فرضه ذلك من علاقة خاصة مع الأم، اخترت أن تحذف تاريخ الأب ليظهر فى العمل النهائى كغائب فى عمل لن نعرفه وبالتالى تظهر مشاهده مع الابن مبتورة ومن الصعب تفسير الشحنات العاطفية وراءها لمن لم يقرأ النصوص الأخرى.. أدرك طبعا أنها قصص مختلفة لكن سؤالى عن قرار الحذف بدلا من إضافة كانت متاحة وفى متناول اليد، كيف اتخذت القرار؟ أو لنعد للبداية كيف ولد هذا النص وكيف كانت مراحل تطوره؟ كتبتُ النسخة الأولى من بيت الولد، بصورة محمومة، وعلى نفسين، فى نوفمبر وديسمبر 2018. كانت أسهل شيء فعلته. كُنت قد أمضيت صيف ذلك العام وحيدا، متصعلكا على الضيق وبالقدر الذى تتيحه الأماكن الصغيرة؛ التخبّط فى الطرقات كان يخصنى والشوارع الخلفية، بعد تمنع، فتحت أبوابها لي. تلك النسخة كانت، كما أخبرنى أصحابى لاحقا، أكثر تجريبية وهوسا (خاصة فى البناء والإحالات) مما سيظهر على الورق بعد ست سنوات. لم أفكر فى الموضوع هكذا، كنت فى منطقة بين بين، ستة أشهر من الاستلقاء على السور بين مرحلتين، آخر أعوام الجامعة وسنة التجنيد، وربما بسبب هذا الفراغ غير المؤكد، خرج النص هكذا، وعبّرت الشخصية الرئيسية عن نفسها هكذا. يمكنك أن تقول إن بيت الولد كانت طقوس عبوري. أحب الكتابة من هذا الناحية، يصاحبها شعور غريب بالانعتاق والحرية، وكأن الدنيا كلها مفتوحة للَعب. هوامش للعب كُتبت على مدار النصف الأول من عام الوباء. مرحلة أخرى من البين بين. كُنت متوقفا عن الكتابة وحاولت أن أمرن يدى دون قيود كى لا تتيبس، وانتهى الأمر أنى أحببتُ هذا النوع من الكتابة التلقائية، ليس مقيّدا وليس محمّلا بأثقال. كانا خطين مختلفين، لكنهما تداخلا؛ لأن الصوت فى هوامش للّعب مشابه للصوت فى بيت الولد، بل أحيانا امتداد له. كُنت قد حذفت الكثير من بيت الولد واحتاج النص، فى أثناء تحريره، إلى ملء بعض الفراغات. طبيعة بيت الولد كانت تتقبل هذا، وبالفعل وجدت مقاطع قليلة طريقها كهوامش على المتن. أقول قليلة لأنى لم أرد أن أفقد زخم الإيقاع والبناء المنغلق على نفسه. كنت قررت من البداية أن أدع خط الأب خارج بيت الولد، أن يظهر غائبا كما كان فى طفولة الولد، أن يكون ظلا محيّرا. أردت ألا أسهب فى الشرح. أنجذب، لا إراديا، إلى الشخصيّات التى يقف فى حلقها كلام لكنّها تقول غيره، هنا الولد يمشى جوار حائط ما تعلمه من الأدب (وهذا هو خطؤه القاتل)، يوزع ورق التفاهة على المنضدة ويترك المسائل، مع الاعتذار للقارئ، تظهر وحدها دون التحدث عنها. هناك ما يحدث على السطح وهناك ما يحوم شرها فى الأعماق، الانزعاج وعدم الأريحية الذى يتوّلد من شك القارئ مما يحدث فى الخفاء هو المرجو. - فى السياق نفسه يأتى اقتباس الصفحات الأولى من ريكاردو بيجليا وهو بالتالى ليس مصادفة، بل تأكيد من البداية على الوعى بالتجديد أو البحث عنه على الأقل، حتى لو كان بيجليا يتحدث عن استحضار الزمن.. سؤالى بالتحديد عن التجريب، فالقصة مكتوبة بوعى وتكنيك مغاير للحكى التقليدي، ما هى رؤيتك لهذه المسألة، ما الذى يشغلك الموضوع أم التقنية أو طريقة الكتابة؟ وأين يكون موقع القارئ وقت اختيار طريقة الكتابة؟ وقعت فى حب بيجليا منذ قراءتى لروايته تنفس اصطناعي، تتبعته فى القارئ الأخير والطريق إلى إدا والغزو، لكن تظل القراءة الأولى لتنفس اصطناعى خلّاقة. لم أقتبس منه لأنه مجدد ومجرب عظيم. كان قد مر وقت طويل بين الانتهاء من كتابة بيت الولد والعمل على تحريرها للنشر، من ناحية كان مطلوبا أن أستثمر فى الإيضاح والتعزيز والتفسير، ومن ناحية كنت مصمما أن يظل النص خاما وغُفلا ويعبر عن نفسه كما أراد، كنت قد خففت منه بما فيه الكفاية. هكذا وجدت أن هناك مسافة بين كاتب ذلك النص والكاتب الذى أنا عليه الآن. ربما أردت، بعودتي، هذا المس القديم. لم يكن الأمر تجديدا، كان تعبيرا شخصيًا وفردانيا دون خوف أو تقيّد بقواعد. لم أفكر أن أحدا سيحب أن يقرأ هذا، كانت الصالة فارغة ولم أكن على المسرح، كنت فى الكواليس ألعب وكنت مستمتعا. ما أوجب أن تكون بيت الولد هكذا هو صوت الشخصية المضطربة وغير المستقرة، المهووسة والعالقة فى يوم بعيد. على الأسلوب أن يخضع لضرورات الشخصية، وأجد أن لا معنى لأسلوب سليم ولغة مُتفق عليها تتحدث عن واقع مجنون، إن كان واقع الشخصية مجنونا فالقصة ينوبها شيء من هذا. ما ساعدنى أنى لسنوات كنت أكتب دون قارئ تقريبا، كنت أكتب لنفسى ولقلة من أصحابي. وما زلت أفكر فى القارئ هكذا، صاحب أثق فيه وفى رأيه ثقة عمياء، أعرض عليه تمشية قصيرة، فيقبل على التجربة بصدر رحب، ربما يحب ما أكتب وربما لا يناسبه، فى كلا الحالتين، أنا ممتن لصحبته. - الحركة فى المدينة ملمح مهم فى العمل، لكنه محير ومربك قليلا.. حب عميق لقرية غائبة لا تظهر أبدا فى مقابل حضور كبير لمدينة تأتى كتأكيد لغربة البطل أو دليلا عليها، حتى مع اعترافه بحبها.. ما تفسيرك لهذا الحضور الكبير لمدينة «بنها» فى هذا النص؟ هل هو تأريخ مقصود لمكان كقاهرة نجيب محفوظ مثلا؟ أكتب عن الأماكن التى تحركت فيها، دون أن أحمّلها أكثر مما ينبغي. أتحدث عن بنها فى فترة محددة ، 2017 / 2018 ، وهى الوعاء الذى تسبك فيه الشخصية الرئيسية. تبدو المدينة له بعيدة عن المتناول ورغم تقديمه القرابين لا تقبله، بينما تغيب القرية عنه لعجزه عن إدراك سحرها وخباياها. إنه واقف فى المنتصف، لا هو عابر سبيل ولا هو ملك لمكان كما أراد. إنه يضع مدينته أمام المدن التى قرأ عنها، كما عند محفوظ وباموق ، ويعزو عدم قدرته على فرضها على أرض الواقع وتأريخها بالكتابة إلى قصورها، قبل أن يدرك، فى النهاية بعد فوات الأوان، أن هذا القصور يعود أغلبه إلى نظرته للأمور بالأساس. - هل تسعى لكتابة تاريخ اجتماعى لفترة عشتها، أم أرشفة لتاريخ شخصي؟ الحكاية عندى باب دوار بين هذا وذاك. أبدأ من الشخصى والحميمي، هذه الحرارة التى لا أستطيع ابتلاعها وتؤرقني، أحاول الحفاظ عليها فى النص. لا أحب أن أجلس وأقول سأكتب عن كذا وكذا، وأن هذا الحدث يجب على أن أتناوله. ربما ما أسعى إليه حقا هو إعطاء الشخصيات فى رأسى خلاصهم الشخصي، وإن لم أستطع (وهو ما يحدث غالبا) ففسحة من الزمن بعيدا عن سجنهم الضيق. والنتيجة قد تكون عكس ما توقعته تماما. مثلا، كُنت قد كتبت مقالا عن القراءة فى أثناء التجنيد، كانت قصة تخصنى وزملائى هناك، وغارقة فى التفاصيل الدقيقة لمحاولاتنا القراءة فى تلك البيئة، وكنت مندهشا أن كثيرين ممن خاضوا التجربة كانوا يقولون إن هذا فعلا بالضبط ما كان يحدث معهم. تدهشنى أمور مثل هذه. - كتبت عن «لحظة الوجود»، اللحظة المشرقة الغريبة. هل يمكنك تحديدها فى «بيت الولد»، هل هى لحظة الحبس فى المكتبة مثلا؟ اللحظة المشرقة الغريبة هو تعبير استعرته من إحدى كتّابى المفضلين، أليس مونرو، من مقدمة إحدى مجموعاتها القصصية. بالنسبة لى اللحظة المشرقة الغريبة هى وعى القصة بنفسها، هى القصة وهى تحاول الحصول على لحظة وجود (وهو تعبير يخص فيرجينيا وولف) خاصة بها، حتى وإن لم نفهمها. وبطريقة أو بأخرى هذا ما تدور حوله القصة. أنت محق فى أن اللحظة المشرقة الغريبة عندى هى ذلك الجزء الخاص بالمكتبة وما يليه من رحلة العودة إلى البيت. إنه قلب القصة ويجيب عن أسئلة كثيرة كانت تشغلنى عن فكرة الخلاص والالتئام. إننا ننسى حين نحصل على خلاصنا أو التئامنا الكامل كل تلك المرات السابقة من الخلاصات والالتئامات المبتورة، التى قدمت وعودها وضمانات خلودها، ولسبب أو لآخر، كان الفشل من نصيبها. بيت الولد هى محاولة الشخصية الرئيسية الرجوع إلى البيت، وهى أيضا كل تلك المحاولات التى لم تنجح، لكنها كانت صادقة وحقيقية، فارقة وخالدة، وقت حدوثها. - يتحدث بطلك -حين يقرر الكتابة- عن «المصير الأدبي» عما ينقصه التصور الأدبى من الحقيقية. هل يمكن أن توضح هذه النقطة؟ يضع بطلى ما يحدث له على خلفية ما قرأه، ما يراه فى عالمه يبدو عاديا مقارنة بالألوان البراقة فى الكتب. إنه يصدق الخدعة الأزلية لأنها تناسبه. إنه يرى العالم عبر السطور، القُبلة الحقيقية مثلا هى عنده أدنى منزلة من قبلة يصفها على الورق. حياته مؤجلة حتى يجلس ويكتب عنها. هذا ما أقصده بالمصير الأدبي. إن الأشياء عنده فى حالة من السبات تنتظر التحقق، أن تدشن وجودها، وبقبضة ثقيلة، عملية الكتابة. - حضور القراءة كبير جداً فى كتاباتك، بل ربما لا تكون مبالغة لو قلنا إن غالبية نصوصك تتخذ من القراءة نقطة انطلاق، سواء بالإشارة لكتب أو كتاب بعينهم أو تمثلهم داخل النصوص. اكتشفت القراءة بالمصادفة تقريباً فى سنة الثورة، وفى سن أكبر بكثير من المعتاد. هذه لحظة فارقة فى حياتي، كان كل شيء قد وُضع فى مساره والقطار يمضى مسرعا حين أدركت ما أحبه فعلا. مازلت أتذكر ذلك اليوم وما الذى أحسسته متكدساً فى سرير أبتلع صفحات رواية بوليسية فى انقطاع شبه تام عن العالم ولاحقاً فى الأسبوع نفسه خبطنى نجيب محفوظ على رأسي. كنت محظوظا، لكن تبقى داخلى هذا الشعور بأنى فى مكان لا ينبغى لى أن أكون فيه، خاصة وأن أغلب قراءاتى كانت مختلسة (بما أنى أمضيت وقت الطفولة والمراهقة الرحب أتخبط فى أشياء أخرى) فى عربات المترو والمقاعد المتهالكة للميكروباصات، وفى أثناء الدروس المملة ومحاضرات المحركات الكهربية الطويلة، حتى فى أثناء ليل الخدمة الطويل فى التجنيد كنت أخبيء الكتاب فى ملابسي، مدفوعا بالرغبة فى الالتهام، وتعويض ما فاتني. كل مكان ذهبت إليه كنت أتساءل بينى وبين نفسي، كيف ينفع أن أقرأ هنا. القراءة، لا زالت تناسبنى أكثر من أى شيء آخر، فيما عدا المشى الهائم الطويل. أتفق معك فى أنها مدخل للاشتباك مع الواقع وإعادة النظر مع شخصيّاتي، هى وسيلتهم لفهم العالم، كما هو الحال معي. الآن، أقرأ كثيرا، مختلسا كالعادة، فى وقت العمل وأفكر فى نجيب محفوظ فى أول مسيرته الوظيفية فى الأوقاف، يحكى أنه امتلك كل الوقت الذى فى العالم وأن الدنيا كانت بردا، وأنه كان يضع الكرسى فوق المكتب من شدته ويقرأ، لبروست ودوستويفسكى وأندريه جيد وغيرهم. تؤانسنى تلك الصورة. - حضور السينما طاغ في كتاباتك أيضا، ليس على مستوى الاستشهاد فقط، لكنه جاء بأشكال أخرى متوارية في تقنيات الكتابة نفسها كتقطيع اللقطات والفلاش باك وحتى العناوين وغيرها. هل كانت هذه الحسابات في رأسك وقت الكتابة وكيف تنظر بشكل عام لفكرة التأثر بالسينما؟ وألا تخشى أن يؤثر عدم اطلاع القارئ على بعض الأعمال على استقباله لمشاهدك؟ السينما هي الفن الوحيد الضارب فى أعماق طفولتي، كانت سابقة على القراءة وفتحت لي الباب، تعلمّت وأستعير منها الكثير، كما أشرت إلى الحركة والقطع والعناوين الفرعية في بيت الولد. لكن أيضًا الصوت. أتذكر حوار لمارتن سكورسيزي أثر فيّ بصورة بالغة جدا. كان سكورسيزي، ولا يزال، مشهورا باستخدام الساوندتراك المكون من أغانٍ شهيرة قد تجدها على الراديو – وما يسمى The Needle Drop– في بداياته، في فيلم Mean Streets طوّر هذه التقنية إلى مدى رائع وأصبحت علامة له. لكنه يتخلي عنها في فيلمه التالي Taxi Driver ويوظّف ملحنا ليؤلف مقطوعات موسيقية خصيصا. يتحدث سكورسيزي أن هذا كان ضروريا لأن الشخصية الرئيسية – ترافيس بيكل – لا يستمع إلى الراديو ولا يهتم بالأغاني الموجودة عليه. هذه الجدية في الانتباه إلى التفاصيل والتكريس التام ليحافظ على الصوت الفردي لبطله ووجهة نظره فاجأتني، والحقيقة لا يمكن تخيل Taxi Driver بطريقة أخرى. صوت الشخصية هو الذي يفرض التقنية وطريقة التناول وأحاول أن أستمع إلى هذا الصوت دائما. الإشارات والإحالات هي خضوع لهذا الصوت، وهي هناك من أجل غرض معين، الاطلاع عليها مسبقا نقطة إضافية، وغير مؤثر. - أصبح سؤال العزلة أساسيا فى كل اللقاءات التى أجريها مؤخرا. هل هى ضرورة من ضرورات الكتابة، أم أصبحت سمة لجيل لا يجد بديلا عنها وبالتالى لا يجد حرجا فى إعلانها والتمسك بها؟ لست اجتماعيا، إنى منطوٍ والأشياء التى أحببتها، كما يقولون، أحببتها وحدي. العزلة عندى أساسية لطبيعتي، والحقيقة أنى أكتب حتى أكون فى عزلة أرحب. الكتابة، مثلها مثل الثورة، تنفى عنَا عزلتنا قبل أن تطرز لنا بيدها مئزرا خاصا من عزلة جديدة. - ما الجديد لديك؟ أعمل حاليا على رواية، وأنتظر بدء العمل على تحرير مجموعة قصصية تصدر قريبا، كلى حماسٌ لهذا المشروع.