«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد بوزفور: الفرحون لا يكتبون
نشر في أخبار الأدب يوم 29 - 09 - 2018

عرفت أحمد بوزفور من خلال نصوص قليلة جدًّا منشورة له في الإنترنت، وجائزة مغربيّة مستقلّة للقصّة القصيرة مُسمّاة علي اسمه، واحتفاء كبير به وبمنجزه القصصيّ من قبل قصّاصين مغاربة من جيلي، وتأثيره الكبير عليهم. طويلًا، لسنوات، بحثت عن كتبه في المكتبات، والمعارض، وبسطات الكتب المستعملة. لا شيء. الباحث عن أحمد بوزفور وكتاباته العجائبيّة، خارج المغرب، كالباحث عن السّراب، يراه هناك، يعرف أنّه هناك، لكنّ ذلك الشيء الذي هناك يظلّ يتحرّك، محافظًا علي المسافة ذاتها بينك وبينه طوال وقت الحركة، ووقت السّكون. هذا الوصف لبحثي الدّائب عن كتب أحمد بوزفور، والذي انتهي بأن أرسل لي هو بنفسه كتبه بنسخة إلكترونيّة، أجده مناسبًا أيضًا لوصف كتابته، المتغيّرة، المتحوّلة، التي لا تأخذ شكلًا واحدًا، بل تتّخذ لنفسها هيئات عدّة: تشكيلٌ سحابيّ من الكلمات، أو عجينة طينيّة من الجُمل، تدعو متلقّيها للتبصّر فيها، أو وضع أصابعه داخلها، لاستنطاق معانيها الكامنة، المحتملة، »المجهولة»‬ دائمًا، كما سيعلمنا القاصّ الأستاذ في إحدي إجاباته أدناه.
يعتبرأحمد بوزفور من أبرز رواد القصة القصيرة الحديثة في المغرب، وأبرز مجدّديها، ومجدّدي القصّة العربيّة القصيرة عمومًا. ولد عام 1945 ب»‬قبيلة البرانس»القريبة من مدينة تازة الواقعة في شمالي شرق المغرب.تعلّم أولًا في الكتاتيب القرآنية، ثم التحق بالقرويّين بمدينة فاس، التي تابع فيها دراسته الابتدائيّة والثانويّة، وحصل بعدها علي درجات جامعيّة عالية في الأدب العربي، ودرّسه في عدّة جامعات مغربيّة. بدأ الكتابة منذ نهاية ستّينيّات القرن الماضي، ونشر أولي قصصه في الصّحف أوائل سبعينيّاته، أما أولي مجموعاته القصصيّة فظهرت عام 1983 بعنوان: »‬النظر في الوجه العزيز»، ليُصدر بعدها »‬الغابرالظّاهر» (1987)، »‬صيّادالنّعام» (1993)،»ققنس» (2002)، ثمّ »‬قالت نملة»، المضمومة وكتبه الأربعة التي سبقتها في الطّبعة الثّانية من أعماله القصصيّة »‬ديوان السّندباد» (2010)، ليُصدر بعدها: »‬نافذة علي الدّاخل»(2013).
وفيما يلي نص الحوار الذي ينشر بالتزامن مع مجلة »‬حبر» الإلكترونية.
نبدأ، طبعًا، من البداية. أحمد بوزفور قاصٌّ معروف ومؤثّر في المغرب، لكنّه خارج تلك المنطقة من العالم النّاطق بالعربيّة، قلّة من النّاس يعرفون عنه وعن منجزه الأدبيّ، لذا وجب التّعريف: من هو أحمد بوزفور اليوم، من كان بالأمس، كيف بدأ الكتابة، وكيف وصل إلي الشّكل الغرائبيّ العجائبيّ الذي يكتب فيه؟
أنا كاتب مغربي. ولدتُ سنة 1945. أنهيت دراستي الجامعية سنة 1970. عملت بعدها أستاذًا للّغة والأدب العربيّين.نشرتُ أول قصة لي سنة 1971. وكنت قبلها، ومنذ أوائل الستينيّات، قد كتبت نصوصًا كثيرة لم أرض عنها فمزّقتها.حين بدأت النّشر كانت السّاحة الأدبيّة المغربيّة منقسمة إلي تيارين كبيرين:تيار تقليديّ يخضع في السّياسة لأوامر الدّولة ( نسميها في المغرب: المخزن)، ويخضع في طرق التّعبير للأساليب العربيّة البلاغيّة القديمة؛ وتيار حداثيّ متمرد تتجاذبه الرومانسيّات الثوريّة المختلفة. يكتب بالفرنسيّة والعربيّة. ويخضع في السّياسة والتعبير معًا للأيديولوجيّات اليساريّة وعلي رأسها الماركسيّة.
أغلب كتّاب جيلي وأنا منهم كانوا ينتمون إلي التيّار الثّاني، ولكن كتّابًا من هذا التّيار وأنا منهم ضاقوا ذرعًا بدوغمائيّة النّقد الواقعيّ الاشتراكيّ وثاروا عليه. تحملوا الاتّهامات العشوائية بالبورجوازية، وكتبوا خارج التّعليمات البليخانوفيّة. وكما كانوا يثورون في السّياسة علي دهاقنة التيّار الأول، ثاروا في الأدب علي دهاقنة التيّار الثّاني، وكتبوا نصوصًا حرّة أخذت شيئًا فشيئًا تجذب الكتّاب الشّباب، وتتّخذ لها موضعًا في السّاحة الأدبيّة.
بالنّسبة لي، كانت العجائبيّة مساحة حرّة دون اتّجاه ودون بوصلة ودون معلّمين.. وساعدتني علي تغيير نفسي بدل تغيير العالم، وعلي استبطان ذاتي بدل تصوير المجتمع، وعلي استهداف الجمال بدل استهداف الخير الذي يسعي إليه التيّار الأول، أو الحقّ الذي يسعي إليه التّيار الثاني.
انطلاقًا من السّؤال السّابق، يبدو لي أن السّبب الذي يجعل قطاعًا كبيرًا من القرّاء العرب يجهلون مساهماتك الأدبيّة أمران: النقد الأدبي الكسول والمستقيل من دوره (وهذا سيكون موضوع سؤالي التالي)، والنشر، موضوع سؤالي هذا. كتبك لم تُنشر في القاهرة أو بيروت أو عمّان، وهو ما ساهم - برأيي، وباستثناء قلّة نوعيّة من المهتمّين- بأن لا يعرف عنك الكتّاب والقراء في المشرق؛ والواضح أنّك متقشّف أو زاهد بالسعي لأن تُنشر خارج المغرب. هل هذا خيار؟ وهل أنت غير معنيّ بمتابعة وصول ما تكتب إلي جمهور أوسع من القرّاء، حسبك أن تكتب وكفي، أما ما يلي ذلك فهو فائض ومُتكلّف؟
أنا زاهدٌ في النّشر فعلًا، ليس خارج المغرب فقط، بل داخل المغرب أيضًا. وأغلب ما نشرته داخل المغرب حتي الآن كان بطلب من أصدقائي وبدعم منهم. لا يهمّني كثيرًا أن يعرفني الناس كاتبًا، أو أن تنتشر كتبي داخل المغرب أو خارجه. وأنا أحسد كثيرًا أصحاب النّصوص المجهولة. النّصوص الجميلة الرائعة التي نجدها مثلًا في الأدب الشعبيّ: حكايات وأغانيَ وأمثالًا... حكايات ألف ليلة... جلجامش...إلخ. ليس للجمال صاحب. الجمال في الأدب كالجمال في الطبيعة: حرٌّ ومتاحٌ للجميع. ولا ضرورة لتسويقه. إذا كان جميلًا وممتعًا، سيصل إليه العشّاق حتمًا يومًا ما.
ولكي أكون دقيقًا في الجواب عن سؤالك، فزهدي ليس خيارًا في الكتابة أكثر مما هو مزاج. لست كاتبًا محترفًا. أنا في الحقيقة قارئ. مدمن قراءة للنّصوص الجميلة (من كل الأزمنة والأمكنة والثّقافات). وبين الحين والحين، أحسّ بميلٍ إلي كتابة قصة، فأكتبها وأستمتع بمراجعتها وتنقيحها أو بهدمها وإعادة بنائها... وأقرأ ما كتبت علي أصدقائي، فإذا أعجبهم وطلبوه للنّشر أدفعه لهم، وإلا بقي في أدراجي.
ما علاقتك بالنقد أو علاقة النقد بك، وكيف كنت تراه في الستينيّات والسبعينيّات، وكيف هو اليوم، وما تأثير غيابه؟
الإنصاف؟ أنا لا أبحث عنه. لست مظلومًا. يكفي أن يقرأني قارئ واحد ويستمتع لأحسّ بالسعادة. وحتي إذا لم يوجد هذا القارئ يكفي أن أقرأ أنا ما كتبت.ومع ذلك فقد قرأني كثيرون في المغرب. وبعضهم أحبّوا نصوصي، أو بعضها علي الأقلّ. وكتب عنّي كثيرون في المغرب. استمتعت بما كتبوه وأفدت منه.وإذا كانت لي ملاحظة علي النّقد المغربيّ في الستينيّات والسبعينيّات، ثم في الوقت الراهن، فهيأن النقد قديمًا كان يهتمّ بالقيمة الفنيّة للنصّ، وإن خضعت هذه القيمة للأسف لتعاليم النقد الأيديولوجيّ؛ وأن النقد القصصيّ اليوم لا يهتم بالقيمة، فأيّ نصّ عنده مثل أيّ نصّ آخر، لأنه يهتم بالتّحليل والمنهج والمصطلح أكثر مما يهتم بالجمال في النصوص (حضوره أو غيابه).
كيف تنظر إلي علاقة الكاتب مع السّلطة ومشتقّاتها، وهل ثمّة مساحة أخري - غير مساحة المواجهة- يمكن للإبداع أن يوجد فيها؟
للكتابة في اعتقادي معني أساسي هو الحرية. حريّة التّعبير عن أيّ شيء وعن كل شيء. وحريّة التّعبير بأيّ شكل وبكلّ شكل. وبهذا المعني فموقع الكاتب في اعتقادي هو أن يكون ضدّ أي سلطة، وضد كلّ السُّلط. مهمة الكاتب أن يخلق الجديد، ولن يخلقه إذا خضع لسلطة أيًّا كانت. ومهمّته أن يكون الجديدُ الذي يخلقه جميلًا، ولن يكون جميلًا إذا راعي النّماذج والرّقابة أيًّا كانت، والرّقابة الذاتيّة خصوصًا.
هل هناك مساحة أخري غير المواجهة يمكن للإبداع أن يوجد فيها؟ للأسف لا. لأنّه حتي حين يبدع الكاتب في مساحة أخري مثل المساحة المتعالية، أو مساحة التّجاهل، أو ما يسمي (الفن للفن)، أو (البرج العاجيّ)... إلخ، فإن ما يبدعه (إذا كان جديدًا وجميلًا) سيخلق تلقائيًّا مواجهة ومواجهين.
كثيرًا ما أُعرّفُ القصّة بأنها عالمٌ من »‬الإمكانات والاحتمالات»، مستعيرًا ذلك من فيزياء الكمّ؛هي تحريضٌ مستمرٌّ علي السّؤال بدلًا من كونها طريقًا للوصول إلي إجابات. في قصّتك »‬مدخل عن العطش» شي قريب من هذه المقاربة، يرد فيها أنّ »‬القصّة هي البئر، لا الفأس». ما القصّة بالنّسبة لك؟ ما البئر، وما الفأس؟
ما القصّة بالنّسبة لي؟ ليتني أعرف. إنّني أبحث عن معناها في كلّ نصّ أكتبه، وأحاول أن أقبض عليها، ولكنّها تتحوّل باستمرار، وتخلق لنفسها معاني جديدة باستمرار. هل هي عالم من الإمكانات والاحتمالات؟ بالتأكيد هي كذلك. ولكن ما هي الإمكانات والاحتمالات؟ مجاهيل.
كل المصطلحات تجرّ وراءها مفاهيمها، إلا القصّة: مفهومها أمامها. وإذا كانت اللّغة هي الفأس التي يحفر بها القصّاصون، فالقصة ليست الفأس قطعًا، بل هي البئر. لكن ليست أيّ بئر (فما في كلّ بئر ماء، وما كلُّ المياه عِذَاب).
استكمالًا لسؤالي السّابق، لا بدّ من التّعريج علي العلاقة بين الكاتب وتغيير الواقع، بين الكتابة وعلاقتها بهذا التّغيير، إن كان ثمّة علاقة. الأدب متمهّل، يأخذ وقته ويتأمّل الحدث، يحفر فيه ولا يتواني عن إعادة إنتاجه والنظر إليه من زوايا مختلفة متعدّدة، ربّما يؤهلّه ذلك للعب دور طويل المدي، نوع من تأسيس منظور أقرب إلي الحكمة منه إلي أي شي آخر. للمقالة (السياسيّة، أو الفكريّة) دور أكثر مباشرة: نقد الواقع اليوميّ المباشر، تمكين القارئ من أدوات التحليل والوعي النقديّ. هل تتفق معي في هذه »‬الوظائف» أو المآلات المتعدّدة لأنواع الكتابة؟ أيّ علاقة تجدها بين الكتابة (بأنواعها، الأدبيّة وغير الأدبيّة) وتغيير العالم؟ هل هناك علاقة؟
تغيير الواقع؟ كان هذا يراودنا في السبعينيّات.. لكنّنا عرفنا فيما بعد أنّ الكتابة لا تغيّر الواقع، أو لا تغيّره في المدي المنظور علي الأقل. ثم إنّها إذا غيّرت لا تغيّر مباشرة، بل تغيّر الأفكار والمشاعر والتوجّهات في الأشخاص الذين قد يغيّرون الواقع، أو يغيّرون من يغيّره. وعرفنا أيضا أن الكُتَّاب يمكن أن يغيّروا الواقع، ليس بكونهم كتّابًا بل بكونهم مواطنين يعيشون في هذا الواقع ويعانون منه، وينتمون إلي أحزابه ونقاباته، ويشاركون بأشخاصهم وأجسادهم في النّضالات اليوميّة التي يخوضها الناس لتغيير الواقع.
وعلي العموم، فإن الواقع، كما تعرف، رمل يتحرك باستمرار. وهولا ينتظر الكتابة والكُتَّاب ليتغيّر. وبعد حوالي نصف قرن من ممارسة الكتابة، يبدو لي أنّ الواقع قد تغيّر كثيًرا، وتغيّرنا نحن معه... ليس في الاتجاه الذي كنّا نأمله، ولكنه تغيّر علي أي حال. وعزاؤنا أن الحلم الذي كان يراودنا يومئذ لم يفقد بريقه أبدًا، وأن الأمل في تحقيقه، ولو بأيدي الأجيال القادمة، ما يزال كما هو: قويًّا.. ومصرًّا.. ولا يتغيّر.
ربطًا بالسّؤال السابق، واستكمالًا للحديث عن نصّك »‬مدخل عن العطش»، الذي يبدو من بعيد كمرافعة عن الكتابة ومهمّاتها، نقرأ منه: »‬ولكنّنا في وسط الحقل الآن، وليس إلا الحركة، ونحو الأمام، وبدون خجل، وبدون خرائط، تبرّر أن نكتب.» هل يمكن أن نستنتج من هذه العبارة، السّبب الذي تكتب من أجله؟ وبشكلٍ أكثر مباشرة، ودون مواربة: لماذا تكتب؟ وهل ثمّة جدوي من الكتابة؟
لماذا أكتب؟ لأنّي أحبّ الكتابة، وأستمتع بممارستها.
ما جدوي الكتابة؟ أنا لا أبحث عن الجدوي. الكتابة عندي نوعٌ من الموسيقي. ما جدوي الموسيقي؟ ما جدوي الجمال؟ دعنا نُضِفْ إلي هذ العالم المليء بالجدوي شيئا آخر جميلًا.. ولا جدوي منه.
قديمًا كنت حين أُسأل هذا السؤال أبحث عن علة أجيب بها.. (فأفنيتُ علّاتي فكيف أقولُ؟).
يحضر »‬الشرّ»، واضحًا أو مضمرًا، في العديد من قصصك. هناك خطرٌ يلاحق الشخصيّات، فأل سوء، جريمة. في »‬الأعرج يتزوّج» يموت الطفل (أو يُقتل)، تطرد أمّه من بيتها، وتنتهي قاتلةً بدورها. في »‬المؤامرة» يسقط الطفل علي سن المنجل وينبقر بطنه إذ يهرب من أشباح يتوهّمها تلاحقه. هذه قصص كتبت نهاية الستّينيّات وخلال السبعينيّات من القرن الماضي، فترة اتّسمت بالهزيمة علي كلّ الصعد، فترة شهدت انهيار أحلام ومسلّمات. هل أثّرت عليك تلك الحقبة، وهل هذه آثارها في قصصك؟
الشرّ؟ الموت؟ الألم؟ نعم أحسّ بذلك. هل أثّرت عليّ الحقبةُ المؤلمة لنهاية الستينيّات؟ نعم. كثيرًا. أحسّ أنّ نهاية الستينيّات هي بداية الانهيار الذي نعاني منه الآن جميعًا، وعلي جميع الأصعدة. والكتابة شديدة الحساسيّة بالجوّ العام، ولابد أن تعكسه. ليس بالضرورة بكلمات سافرة. قد تفعل ذلك بمناخ النص. بالأثر الشجيّ الذي تخلّفه في نفس القارئ. لكن هذا كلّه ليس إلا سطح الكتابة. الطبقات الأعمق للكتابة أشد قتامة. إنها المنطقة التي لا ينتمي الكاتب فيها إلي شعب أو عرق او طبقة، بل ينتمي إلي الإنسان. ويعاني فيها من الشّرط الوجوديّ للإنسان. المنطقة التي يكون الإنسان فيها هو المجهول. هو الخوف.. يكون (الإنسان فيها هو الموت) كما يقول الشعراء. الفرحون ياصديقي لا يكتبون.
كثيرًا ما أقولُ (وأكتبُ) أن القصّة القصيرة هي »‬شعر السّرد»، وأن العلاقة بين القصة القصيرة والشعر أكبر بكثير، وأعمق، من علاقة القصة بالفن السردئّ الآخر: الرواية. في القصّة تكثيف، ورمز، ومجاز، ومساحة فنيّة لا مجال فيها للزوائد والعثرات، أكثر من ذلك: أقوم أحيانًا بنشر بعض قصصي باعتبارها نصوصًا شعريّة، والعكس. العلاقة بين نصوصك القصصية وبين الشّعر واضحة، وربّما تكون طليعيًّا وسبّاقًا في هذا الاشتغال التخوميّ. بعض قصصك مكتوبة بالكامل علي تفعيلة معيّنة علي نسق قصيدة التّفعيلة، بعض قصصك الأخري تتضمّن قصائد داخلها، وبعضها تحمل شحنات شعريّة كبيرة، أو منظورات شعريّة، مثل تلك التي يحملها شعر النثر. هل تتفق معي فيما يتعلّق بهذا التشخيص المتعلّق بالعلاقة اللّصيقة، الاشتباكيّة، بين القصّة القصيرة والشعر؟
أتفق مع تشخيصك للعلاقة بين القصّة والشّعر. الشّعر هو دم الكتابة. هو جوهرها. بدأَت الكتابةُ، حين بدأت، شعرًا. وكلما رجعت إليه أخلصت لهويّتها. بالنّسبة لي، أغلب قراءاتي في الشّعر. وقد مارستُ طوال حياتي المهنيّة تذويقه لطلّابي. وقد أحسستُ دائمًا أن القصّة شكل من أشكال الشعر: شكله السرديّ. والقصّة بدونه تفقد ثلاثة علي الأقل من عناصرها الأساسية: تفقد عمقها: تلك المساحة المجهولة التي يمارس القارئ فيها تأويله؛ وتفقد إيجازها (دقّتها ورشاقتها)؛ ثم تفقد أخيرًا جماليات التّعبير والإيقاع فيها. وما هي القصّة بدون هذه العناصر؟ حكاية.
بعض من قصصك تستخدم المنظورات العلميّة، خصوصًا تلك القادمة من حقل البيولوجيا التطوريّة، ويمكن أيضًا أن ننظر إلي بعض آخر باعتبارها تأمّلات فلسفيّة. اهتمامك بالعلوم والفلسفة، وثقافتك الرّفيعة، واضحان، ولا أعتقد أن ثمّة كاتب قادر فعلًا علي الكتابة، والتّجديد، والإبداع، والخوض في الفنون، دون أن يمتلك مخزونًا معرفيًّا كبيرًا. الأدب - بالنّسبة لي- هو اختزال التجارب والمعارف وإعادة تشكيلها فنيًّا. يصعب عليّ أن أفهم كيف سينتُج الفنّ عن عقل »‬فارغ». ما هو موقع المعارف المختلفة من كتابتك الأدبيّة، وكيف تستفيد منها في اشتقاق الأشكال، والمواضيع؟ وكيف تؤثّر علي إعادة تشكيل رؤيتك للعالم؟
موقع المعرفة من كتابتي؟ لم أفكر في ذلك من قبل. لكن يبدو لي وأنا أتأمّل في سؤالكم الآن أنّ المعرفة قد يكون لها موقعان فيما أكتب:
موقع قبليّ: يتعلق بالمعرفة التي قد أكتسبها قبل الكتابة.. سواء كانت في علوم الطّبيعة والإنسان أو في التّجارب التي أعيشها في الحياة، أو أقرأها في النّصوص الإبداعية. وأنا ولوع بالرّبط بين هذه المجالات كلّها، حتي إنّي لأجد أو أخلق شبهًا بين السرد والفيزياء أحيانًا، ولا أري فرقًا كبيرًا بين تعقيدات نظام الكون بمجرّاته الكبري كما يتحدث عنها ستيفن هوكينغ مثلًا في كتبه الفيزيائيّة، وبين تعقيدات النّفس البشريّة كما يتحدث عنها دوستويفسكي في رواياته.
كيف أستفيد من هذه المعرفة في الكتابة؟ أنا لا أكتسب هذه المعرفة من أجل الكتابة. أكتسبها من أجل أن أكون. ثم تأتي الكتابة بعد ذلك كثمرة طبيعيّة. لكن يخيّل لي أن علوم الطّبيعة تعطينا إحساسًا بجماليّات الوضوح والدقّة والنّظام والشكل. وأن علوم الإنسان تعطينا إحساسًا بجماليات السّعة والعمق والتّعقيد والغموض. ولابد أن هذه الأحاسيس تؤثّر علي كتاباتنا وتسهم في بنائها بهذا الشّكل أو بذاك.
موقع بعديّ: يتعلق بالمعرفة التي قد تعطيها نصوصي للقارئ. وأنا لا أستطيع بالطّبع الحديث عن مدي هذه المعرفة أو صداها. ولكنني آمل أن تعطي نصوصي لقارئها معرفةً بنفسه أولًا، حين يجد مثلًا في هذه القصّة أو تلك شيئًا أحسَّ به يومًا ولم يوله اهتمامًا، فوجده هنا بارزًا ومؤثّرًا ويستحقّ الاهتمام. وآمل أن تعطيه معرفة بالعلاقة الخفيّة بين الأطراف المتباعدة، بين الأزمنة مثلًا أو بين المواقف أو بين المشاعر... وآمل أخيرًا أن تمتّعه، فالمتعة أجمل المعارف وأرقاها، وألطفها وأبقاها أثرًا في النّفس.
يظهر السّندباد في قصّة واحدة من قصصك، هي قصّة »‬الهنديّ»، ورغم ذلك أجدك مهجوسًا بهذه الشخصيّة الرحّالة، الباحثة دومًا عن العوالم الغرائبيّة، فصورة السندباد هي صورة حسابك علي الفيسبوك، وأعمالك القصصيّة شبه الكاملة مجموعة ضمن سفر أسميته: »‬ديوان السّندباد». هل السندباد »‬شخصيّتك البديلة» (alter ego)؟ هل تجد فيه جانبًا لم تتمكّن أنت من تحقيقه؟ ولِمَ لَمْ يظهر (وهو صاحب هذه المكانة عندك) سوي في قصّة واحدة من قصصك؟
السّندباد شخصيتي البديلة؟ ربّما.. وربما كنت أنا شخصيّته البديلة. كنت معجبًا به منذ قرأت ألف ليلة في صغري. أنا أيضًا أحببت أن أقوم برحلات، وأن أحكي حكايات. حكايات غريبة يشطُّ فيها الخيال وتُطوّح فيها الأقدارُ بالمصائر. كان السندباد بطلي دائمًا ومثالي الأعلي. لم أقم برحلات. وحكاياتي كئيبة وغامضة ومبتورة... ولكنني مجرّد صورة من ملايين الصّور من المثال الأعلي.
لم لا يظهر السّندباد كثيرًا في قصصي إذن؟ ولم ظهر في قصة (الهنديّ) بالذّات؟ لا أدري. ربما لأنّه ينتمي إلي المنطقة السريّة في نفسي. المنطقة التي أضِنُّ بها علي النّاس، وأستأثر بالحياة فيها وحدي. وقد أفلت مني دون أن أشعر في (الهنديّ). ربما جذبه العنوان. أليس أصل ألف ليلة هنديًّا؟
أنت مجدّد كبير في الشّكل القصصيّ، فالغرائبيّة عندك ليست مقصورة علي الموضوعات، بل تمتدّ إلي الشكل الذي يأخذ أنساقًا غير متوقّعة، أو لا يمكن تخيّل أنّها ممكنة لنص قصصي، مثل قصّة »‬صدر حديثًا» التي تأخذ شكل عرض لرواية، وتعليقات عليها. بالنّسبة لي: لا بدّ من فلسفة فنيّة تبرّر الشّكل الفنيّ وتؤسّس له، وهذا هو الفرق بين »‬التجريبيّة» كمذهب فنيّ - إن صحّ التعبير-، وبين »‬التجريب» كمحاولات عشوائية لا تمتلك مشروعيّة معرفية ولا تكثيفًا لخبرات فنيّة يجب أن تسبقها. ما هي فلسفتك في الشكل الفنيّ؟ هل تفكّر في الشكل سلفًا قبل الكتابة؟ هل تفرض عمليّة الكتابة، شكلًا ما؟ هل يفرض الموضوع شكلًا ما؟ هل يتحوّل الشكل أثناء الكتابة؟ ما هي العلاقة بين الشكل والموضوع؟
ليست لي أيّة فلسفة. لا في الشّكل الفنيّ ولا في غيره. ولا أفكّر في شكل القصة قبل كتابتها. إنها تُكوّن شكلها وهي تتخلّق. لذلك ربما لا تتّخذ قصصي شكلًا واحدًا. من أين تأتي أشكالي إذن ما دمت لا أنطلق من مقياس ذهبيّ محدّد وقبليّ؟ لا أدري. لابد أنّ في لاشعور كلّ كاتب معملًا صغيرًا للأشكال. معملًا يستقي موادّه الخامّ من كل النّصوص التي قرأها، ومن كل اللّوحات والموسيقات والأفلام والعروض الفنيّة التي سبق له أن تذوّقها. والكاتب يصنع، في هذا المعمل، ومن هذه المواد، أشكاله الجديدة.
»‬صيّاد النعام»، مجموعتك الثالثة، تنحو منحيً نادرًا في الكتابة العربيّة: فهي (في أغلب نصوصها) نوع من الكتابة التجريديّة، وتمثّل تحديًّا كبيرًا للقارئ الذي قد نسميّه –جُزافًا- »‬القارئ العاديّ». بمعني ما، أنا أميل لرأي يذهب إلي أن لا دور للقارئ في عمليّة الكتابة. يكتب الكاتب ما يريد (فنيًّا) دون اعتبار للمتلقّين، بينما يأتي دور القارئ (حتي بالمعني التوليديّ والشراكيّ في النصّ) بعد الكتابة، وليس قبلها. يبدو كتاب »‬صيّاد النعام» سائرًا في هذه المقولة إلي نهاياتها. كيف تري أنت الأمر؟ هل من دور للقارئ في عمليّة الكتابة قبل نشرها؟
أعتقد أن دور القارئ في عملية الكتابة يختلف باختلاف الكُتَّاب. فيما يخصّني، هناك قارئ غريب يقف علي سنّ قلمي وأنا أكتب. لا أعرفه، لكنّني أعرف أنّه ذكيّ جدًّا، أذكي منيّ علي الأقل. وأنا أحسّ به وأكتب له وأخشاه. من هو هذا القارئ؟ هل هو (ضميري الفنيّ)؟لابد أنّ هناك ضميرًا فنيًّا مثل ذاك الذي يقولون عنه (الضّمير المهنيّ) أو (الضّمير الأخلاقيّ)... هل هو القارئ الذي أحلم أن يكونه قُرّائي؟ لا أدري. لكنّني أحسّ بحضوره، وأنا أكتب، إحساسًا قلقًا يشبه إحساس العاشق بالعذول. أفكّر أحيانًا بأنّ نصوصي قد تصبح، بدون الحضور الضاغط لهذا القارئ، أشد عنفًا وتمردًّا وغرابة... وأفكر أحيانًا أخري أنها ستصبح، علي العكس، أكثر هدوءًا ووداعةً وانضباطًا للقواعد الفنيّة والذوق العام.
هذا القارئ الغريب هو صراطي وقَدَري. هو طائري المعلّق في عنقي. وهو ملاكي الحارس أيضًا.
في قصصك إشارات إلي الموسيقي، والسينما، وتستعير في بعضها تقنيّات كتابة السيناريو السينمائي، موضّحًا حركة الكاميرا والموسيقي التصويريّة المرافقة، مثل قصة »‬آخر أيام سقراط». يقودني هذا مباشرة إلي علاقة السرد القصصي بالفنون الأخري، واستفادة بعضها من بعض، وتلاقح بعضها ببعض. كيف يستفيد أحمد بوزفور من الفنون المختلفة في نصّه القصصيّ؟ ما هي الإضافة التي تتحقّق؟
الموسيقي والسّينما هما جناحاي اللّذان أطير بهما حين تضيق أحوالي. كانت السّينما تساعدني علي تحمّل البؤس الذي عشته في طفولتي. تسافر بي إلي أصقاع العالم المختلفة، وتعرّفني علي النّاس وتجاربهم وأحلامهم وخيباتهم ومصائرهم، وتُربّي عينيّ علي تذوق جمال الطبيعة والوجوه والأشكال. وأقول (كانت)، لأنّني لم أعد الآن أشاهد السّينما للأسف. لم تعد في مدننا قاعات سينمائيّة محترمة وكافية، ولا أحب مشاهدة الأفلام علي الشّاشة الصّغيرة. ذوقي السينمائيّ تربّي في القاعات. أما الموسيقي فكانت، ولا تزال، الهواء الذي أتنفّسه. أحسّ وأنا أسمعها (الكلاسيكيّة خصوصًا) بالعالم منظّمًا وصافيًا وجميلًا، وأحسّني فيه وأنا أرِقُّ وأَشِفُّ، مع استمرار العزف وتطوّره وتحوّله، حتي لأحسّني، في الأخير، عدمًا أبيضَ محضاً.
هل أستفيد من السّينما أو من الموسيقي أو من الفنون الأخري في قصصي؟ أعتقد أن لها تأثيرًا بالطّبع. لكنّني لا أعرف إلي أي مدي. لابدّ أنها تفيد في الإحساس بالشّكل علي الأقل، وفي الدقّة والتّرتيب... وربما في الوقع أيضًا. القصّة موسيقي في شعوري.. نوع خاصٌّ من الموسيقي. وأنا أنصح الذين يبحثون في القصة عن المعني بالاستماع إلي الموسيقي.
»‬مْمْمَؤَثَّي» هي قصّة لك مكتوبة بالدّارجة المغربيّة، وقد فاجأتُ نفسي عندما خالفتُ رغبتي الأوليّة بعدم قراءتها (لتوقّعي بأنّني لن أفهم منها شيئًا)، لأجد أنّني فهمتها واستمتعتُ بها. لماذا خضت هذه المحاولة، أعني: كتابة نصّ قصصي كامل بالدّارجة المحليّة؟ نعرف عن إمكانيّات العاميّات المختلفة في مجال الشّعر، هذه لا نقاش فيها، وتجاربها ثريّة ومبدعة. أما النثر؟ لا أزال أنا من أصحاب الرأي الذي يقول أن العاميّات غير قادرة علي إنتاج نثر فنيّ بمستويً عالٍ، هل تتفق معي؟ ثم، هل نحن –كتّاب العربيّة- بحاجة لتحديد أكبر لجمهور القراءة الصّغير، وتصغيره أكثر، بالتحوّل إلي العاميّات؟
قصة (مْمْمَؤَثَّي) مهداة إلي الكاتب المغربيّ الكبير (إدمون عمران المالح). كنت معه ذات مرّة في لقاء ثقافيّ، وسألني بعد أن استمع إلي إحدي قصصي: لماذا لا تكتب بالدّارجة؟ قلت له: إنّني أستعمل الدّارجة في الحوار أحيانًا. قال: لماذا لا تكتب القصّة كلّها بالدّارجة؟ قلت له: إنني أتهيّب ذلك. ولكن فكرته جعلتني أغامر وأخوض التّجربة.
عانيت كثيرًا في كتابة (مْمْمَؤَثَّي). ويبدو أن هذه المعاناة انعكست علي شكل القصّة وموضوعها، حتي لقد أحسستُ أن ذلك الطّفل الأخرس في القصّة هو اللّغة الدّارجة التي أحاول عبثًا أن أُنطقها أو أنطق بها. اكتشفت خلال التّجربة أن الدّارجة لغة الجماعة، وأنها تحتاج، لكي نكتب بها القصة: فن الفرد، إلي كثير من التجارب الأدبيّة والفنيّة حتي نطوّعها ونقودها من الخارج، حيث الجماعة والنّماذج والقواعد والأخلاق، إلي الدّاخل حيث الفرديّ والنّشاز والغريب والمختلف. وهكذا عدتُ من التّجربة بخفي حنين.
نعم، أنا مع رأيك القائل: (إن العاميات غير قادرة علي إنتاج نثر فني بمستوي عال). اسمح لي أن أضيف فقط عبارة: (حتّي الآن).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.