الوادي الجديد تعتمد النزول بسن القبول في المدرسة الدولية "IPS"    الديهي يكشف تفاصيل اختراقه ل"جروب الإخوان السري" فيديو    وزيرة البيئة تعقد اجتماعا تنسيقيا لبحث بلورة موقف وطني موحد قبل COP30 بالبرازيل    تراجع مؤشرات الأسهم الروسية في بداية تعاملات بورصة موسكو    بالفيديو.. الغرف التجارية: متابعة دائمة من الأجهزة الرقابية لتطبيق التخفيضات خلال الأوكازيون    رصف طريق "أبنوب - بني محمديات" أسيوط بتكلفة 16 مليون جنيه    بروتوكول بين "البحوث الزراعية" والكلية الفنية العسكرية لإنتاج الأسمدة البوتاسية محليا    12 شهيدا ومصابون بنيران جيش الاحتلال في غزة    "ذا ناشيونال": مصر وقطر يعدان مسودة اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة    المكتب الإعلامي الحكومي بغزة: دخول 266 شاحنة مساعدات منذ الجمعة والاحتلال سهل سرقة معظمها    فيريرا يدرس إجراء تغييرات على تشكيل الزمالك أمام مودرن سبورت    اليوم.. الأهلي يتسلم الدفعة الأولى من قيمة صفقة وسام أبو علي    «الصحة» تغلق مركز غير مرخص لعلاج الإدمان في الشرقية    ضبط أطراف مشاجرة بالسلاح الأبيض في المقطم بسبب خلافات الجيرة    في يومها الثالث.. انتظام امتحانات الدور الثانى للثانوية العامة بالغربية    غرق شاب بأحد شواطئ مدينة القصير جنوب البحر الأحمر    الليلة.. فلكلور مدن القناة في عروض ملتقى السمسمية بشاطئ الفيروز ومركز شباب الشيخ زايد    الجمعة.. ويجز يحيي حفلًا بمهرجان العلمين    حظك اليوم.. تعرف على توقعات الأبراج اليوم الاثنين    إيرادات أفلام موسم الصيف.. "درويش" يتصدر شباك التذاكر و"روكي الغلابة" يواصل المنافسة    الجمعة.. حكيم يحيي حفلا غنائيا بالساحل الشمالي    "ماتقلقش من البديل".. حملة لرفع وعي المرضى تجاه الأدوية في بورسعيد    من 5 فجرا إلى 12 ظهرا.. مقترح برلماني لتعديل مواعيد العمل الرسمية    "الأغذية العالمى": نصف مليون فلسطينى فى غزة على شفا المجاعة    «التعليم» ترسل خطابًا بشأن مناظرة السن في المرحلة الابتدائية لقبول تحويل الطلاب من الأزهر    وفاة شاب صدمته سيارة مسرعة بطريق القاهرة – الفيوم    إصابة عامل في حريق شقة سكنية بسوهاج    «الديهي»: حملة «افتحوا المعبر» مشبوهة واتحدي أي إخواني يتظاهر أمام سفارات إسرائيل    آس: كوناتي يقترب من ريال مدريد.. وليفربول يرفض بيعه بأقل من 50 مليون يورو    "لا نقبل بإرهاب يورتشيتش".. بيراميدز يقدم شكوى لاتحاد الكرة ضد أمين عمر    «وقف كارثة بيع قطاع الناشئين».. نجم الزمالك السابق يثير الجدل بتصريحات قوية    وزير الرياضة ورئيس الأولمبية يستعرضان خطط الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    ريهام عبدالغفور عن وفاة تيمور تيمور: «كنت فاكرة أن عمري ما هتوجع تاني»    وزيرة التضامن الاجتماعي: دعم مصر لقطاع غزة لم يكن وليد أحداث السابع من أكتوبر    نشأت الديهي يكشف مخططات «إخوان الخارج» لاستهداف مصر    أسعار اللحوم اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025 في أسواق الأقصر    رئيس الوزراء الفلسطيني: سنعلن قريبا تشكيل لجنة مؤقتة لإدارة قطاع غزة    «متحدث الصحة» ينفي سرقة الأعضاء: «مجرد أساطير بلا أساس علمي»    استشاري مناعة: مبادرة الفحص قبل الزواج خطوة أساسية للحد من انتشار الأمراض    جامعة مصر للمعلوماتية تستضيف جلسة تعريفية حول مبادرة Asia to Japan للتوظيف    مدرب نانت: مصطفى محمد يستحق اللعب بجدارة    حلوى باردة ومغذية فى الصيف، طريقة عمل الأرز باللبن    مصر تدعم السلطة الفلسطينية لاستعادة الأمن بغزة    دار الإفتاء توضح حكم شراء حلوى المولد النبوي والتهادي بها    إسرائيل تقر خطة احتلال مدينة غزة وتعرضها على وزير الدفاع غدا    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    التعليم تحسم الجدل : الالتحاق بالبكالوريا اختياريا ولا يجوز التحويل منها أو إليها    جدول مواعيد قطارات «الإسكندرية - القاهرة» اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025    محافظة بورسعيد.. مواقيت الصلوات الخمس اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    وفاة عميد كلية اللغة العربية الأسبق ب أزهر الشرقية    ارتفاع سعر اليورو اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 أمام الجنيه بالبنوك المصرية    كم سجل عيار 21 الآن؟ أسعار الذهب اليوم في بداية تعاملات الاثنين 18 أغسطس 2025    "2 إخوات أحدهما لاعب كرة".. 15 صورة وأبرز المعلومات عن عائلة إمام عاشور نجم الأهلي    دعه ينفذ دعه يمر فالمنصب لحظة سوف تمر    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    ماكرون: لا أستبعد أن تعترف أوكرانيا بفقدان أراضيها ضمن معاهدة سلام    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«نافذة» أحمد بوزفور تطلّ على ذاته
نشر في صوت البلد يوم 23 - 04 - 2017

ما حكّ جلد الكاتب مثل قلمه، هو ظفره وأكثر. هو لسانُه وترجمانُه، وبه يوجد ويتحدد. أضحى لزاماً عليه إذ يرى النقد يَشِحّ إن لم ينعدم، والصحافةَ وحدها لا تستطيع أن تفيَ شخصَه وعملَه حقهما من التعريف، وقوانين سوق استهلاك جديد تتطلب مزيد إخبار لكسب الجمهور؛ لزاماً ومستحبًا أيضًا أن يكتب النص الثاني الموازي، في كلّ مرة يتخّذ شكلاً وصيغة، إما سيرةً أدبية، تأملاتٍ، إضاءاتٍ على التجربة، أو حوارتٍ وأقوالاً، مما يضع الكاتب والنص تحت الضوء، ويقربه ربما أكثر من قارئه.
هذا ما فعله القاص المغربي أحمد بوزفور في كتابه الجديد والفريد: «النظر إلى بحيرة القلب» (ديهيا،2017). هو صنيعٌ حسنٌ عندما نعلم أنه من كاتب تصرّمت عليه أربعة عقود في ميدان الكتابة، واكتسب بين أقرانه وفي مجاله مكانة مميزة ومستحَقةً لقيمة نصوصه وانصرافه الكامل الى فن القصة القصيرة، صار له فيها منجزٌ متصلٌ منشأً وتجديداً، ومصاحبةً لمن يكتبونها، بالحدب والنصح والتوجيه، صار مريداً لهم فبايعوه لذا شيخاً لهم.
بدأ بوزفور مناوشة القص القصير منذ مطالع سبعينات خلت، حبا خلالها ومشى بتؤدة إلى أن استوى على قدمين بصدور مجموعته الأولى «النظر في الوجه العزيز» (1983). ضمت مخاطراته الأولى في إعادة تصوّر لتوليد هذا الجنس الأدبي وتوليف نسيجه وتشغيل أدواته وخصوصاً تحويل دفّة مركبه، لينتقل من وظيفة المحاكاة نقلاً وتصويرًا إلى التعبير تمثيلاً وجمالياً. وكذلك من مهمة رصد الواقع بواسطة واقعيات وتبنّي قضية الجماعة إلى حيازة الصوت الخاص، في موقع مستجد تؤول فيه البطولة والإحساس والموقف إلى ضمير المتكلم بعينين، واحدة ترنو إلى محفل المجتمع بغية التضامن مع المعذبين في الأرض، وثانية تنكفئ إلى الداخل، أجواء الباطني ولواعج الذاتي وهواجس الفكر، لتقول إحساسها بعبارة الاستيهام.
جاءت قصص هذه المجموعة ضمن سياق إبداعي لجيل أدبي مختلف انطلق عمله مع بداية السبعينات، لم يعد مقتنعًا برؤية الأسلاف، وميكانيكية الوصفة الواقعية والملتزمة عنتًا وتكلفاً، وبلغة محدودة القاموس، وخيال شبه منعدم مسقوف بقرميد الإيديولوجيا والفكرة المسبقة. هنا حيث الأدب له مفهومُ الرسالة، لا نسقُ الأدبية، النسق الذي تبلور تدريجاً في روايات الجيل الذي ينتمي إليه بوزفور وقصصه، وواصل فيه بالمجاميع التالية: «الغابر الظاهر»(1987)؛ «صياد النعام» (1993)؛ «قنقس»(2007) و»نافذة إلى الداخل»(2013).
واضحٌ أن أحمد بوزفور مقلّ، ما ذلك إلا لأنه صائغٌ يتوخّى الدقةَ والصنعةَ المتقنةَ والبضاعةَ الفخمةَ واطِّراحَ العاديِّ، نبذَ المبتذل، وقنصَ الشارد أما الواردُ فمبذول، وللصائغ أدوات يشحذها، أولّها اللغة، الأسلوب الإيقاع، وكيفية استخدام الخيال، لا الخيال ذاته.
سؤال الاستمرار
يستبق أحمد بوزفور سؤالاً قد يورد في أذهان كثيرين: «ما معنى أن يستمر كاتب سبعيني في كتابة القصة اليوم؟». ولكم جوبه بهذا السؤال القاصّ المعلّم سعيد الكفراوي، ولا أحسب إجابته تختلف عما قصده المغربي بوزفور حين قال:» بالنسبة إليّ فات الأوان على أن أكتب في جنس أدبي آخر. انحنى ظهري مع هذه القصة، حتى إنني لو حاولت أن أستقيم لانكسر».
وإذن، بعد انصرام هذه العقود مجتمعةً يقف المحارب القديم والصبور لينظر في بحيرة القلب، ليتأمل ويقدم حصيلة تجربة كاملة، تجربة نصية تأسست وتبلورت واتّسقت ونَسَقت وأثمرت ولها أفق. أي ليست نثارَ كلام ونزوةَ كتابة وشطحةَ تخييل وعسفَ التزام، هي موهبةٌ رَفدتها ثقافةٌ وصقلتها صنعةٌ وحلق بها خيال، وأسستها قبل هذا وذاك وشحذتها لغةٌ ووسائلُ أسلوب، وهذا ما يحتاج أن يتعلمه كل ناشئ ويعيه من يتورط في الأدب، أن يكون كاتباً أو لا يكون. لا يفعل هذا إلا كاتب تجريبي: «إنني متقلّب هاوٍ وتجريبي، وأحس أنني أبدأ مع كل نص جديد أكتبه»(41) ليس تواضعاً ولكن هو قلق الكاتب يعرف خطورة لعبته فيقرّ: «الكتابة تدريب يستمر طوال الحياة. لا نترسم أبداً. الكتابة تجريب يستمر طوال الحياة. لا ننضج أبدًا»(39). إنما حذار أن نفهم التجريب طيشاً، فالقصة فن مضنون به لغير أهله، يأخذ عنده المعاني التالية، فذّة وجوهرية: هو تنويع للذات الساردة، بكسر أحاديتها.
إذا عدّدَت الأصوات عليها أن تعدِّدَ اللغات، اللغة بوصفها أسلوبَ تعبير يتمثل في النعت والتشبيه والاستفهام المدرار والتكرار وإيقاع التركيب والتناص الخفيِّ والصوتِ الجامعِ لها. هو ما يفاجئ الكاتب نفسه وما لم يتوقعه، فيكون التجريب عندئذ عملية مستقلة بهدفها هي. وهو ثالثاً، خلافًا للمزعوم المتداول، أكبر من ثورة على الأشكال وكيف يكتب الآخرون، ولا وهو وعي مسبق مؤطر نظري، قد ينجم عنه الافتعال والهوى وليس الضرورة الفنية. لذا ينبغي أن ننظر إليه باعتباره نتيجة لا سببًا، نعم نتوخى فيه خلوص الطوية والدقة والجمال، ليأتي بعدنا من يصنفه في تيار ما وعلى نحو من الأنحاء، هكذا يبقى الكاتب حراً.
حين يمضي كاتب تجريبيٌّ ومخلصٌ لفنه كلّ عمره الأدبي مع زوجة (فن) واحدة فهو قمين بأن يعرف طباعَها، وأصولَ معاشرتها، والهندسةَ العاطفية والعقلية لإقامتهما، إنها التجربة. وهي مشتركة لا تخصّ الكاتب الذي نحن بصدده، بل تمتد الى جيل أدبي جديد في المغرب، والعالم العربي، حيث للقصة القصيرة تاريخٌ ممتد وغنيٌّ بالوعي البصري والنقدي والتشكيل الجمالي مستوعباً بعديد رؤى في قلبها الرؤية الواقعية مرآويةً ونفاذةً ومستبطنةً واقعنا وتحولاتِه، وتبقى الجنس الأصعب والأقدر دائماً على الانتباه لرعشات الكائن وقلق المصير. هي الفن الصعب، يعي بوزفور هذا جيدًا، فيحذر معترفاً بما يسميه كعوب أخيل الثلاثة يحب أن يحصرها في تجربته لكي لا يوصم بالتعميم، بينما كل قاص جاد معرّض لها: ثلاث عقبات، أولها اللغة، من باب الدراية بها قاموساً وطاقة، لا إمكانية لأي لعب سردي إلا بامتلاك أرهف الأدوات اللغوية، وما يحتاج إليه كاتب القصة بعد الطريقة القصصية في تشكيل الخيال: «تعبئته في كأس لغوية ثم تفجيره في وجدان القارئ بهذه الكأس نفسها»(43).
ثانيها، المعرفة، لا مراكمة المعلومات، وإنما ما يقدح الزناد، ويدفع إلى الابتكار، نستقطرها لنبدع، لا لاجترار المسكوكات. ثالث خطر يواجه القاص الفنان هو كيف يصبّ الحكايةَ في القالب، أن يوفر لها شكلها الأنسبَ، ببنائها متناسقةً، متعالقةً لغةً ومرجعاً ومعنى ودلالةً، لتأتي مثل: «بحيرة مستديرة ليس لها مدخل ولا مخرج، لها فقط سطح خارجي بارز، ولكنه حي متحرك مترقرق، وتحت أعماق بعيدة الغور تسكنها حيتان وجواهر وجنيات»(45).
اختبار النص
إنه من دون شك طموح يُختبر في النص، لدى كتابته، وليس بالنيات ولا المزعم، عرضة لامتحان مستمر تُحيّن معه الخبرة والحذق عند إنشاء كل قصة، ولابد من جوار مع ما يكتبه الآخرون، لا سيما أبناء جيلك، فكيف بمن سبقوك وشقوا الطريق، هم رواد التحديث، وهزّوا جذع النخلة ليساقط قصٌّ جديد ثمراً جَنيا. عدا الراحل محمد زفزاف، هو بلا منازع أبو القصة القصيرة الحديثة ومرسِّخ عمدها في المغرب، وواحد من معلميها في العالم العربي، تستغرق بوزفور تجربته فقط، يغطس بخاصة في بحيرة قصته، وفي صفحتها يتملّى وجه نصه، رابطاً نسَبه إلى آباء كبار(كافكا، بورخيس) كثير حقاً «يدعي وصلاً بليلى/ وليلى لا تقر لهم بذاك» لا نعرف كيف، بورخيس تحديداً الذي كتب (La cuenta) هي تقليد حكائي شفوي أولاً، وليست من طرز ما ورثناه عن بو أو تشيخوف وموبسان. نقول هذا لأن تجديد القصة القصيرة عربياً وتجريبيتها يندرجان في سلسة نسب متصل، أي ليست من صنع مخاطرة واحدة، وهو ما أصّلها، أو هي نزوة طائشة، أحسب بوزفور يفهم هذا جيداً وتمثله.
ومع كل غناه وتعدد إضاءاته، يبقى النص الموازي، أي ما يكتبه كاتب عن إبداعيته الخاصة بكيفية نظرية أو تأملية، رهنًا أساساً بالنص الأم، الأكبر، والجامع، يشمل عطاءه وما تتلمذ عليه، إليهما نحتكم في النهاية، نفعل هذا بالقراءة أولاً، عالمةً ومتذوقةً ومدرّبة، وبإنجاز حفور في تضاريس هذا النص. وفي الحالتين نرى ان قصص أحمد بوزفور ابتعدت منذ البداية عن رسم الشيء كما هو إلى كما تراه عين، ويستبطنه حسٌّ، وتنطقه بحشد إمكانات اللغة والبيان كلها لصنع الشيء القصصي بواسطة أدوات الشعور، ما يجتمع عنده في (حروف المعاني) من شأنها صقل الدلالة وتوجيهها وتحديدها في آن.
لقد اتجهت قصة بوزفور إلى صنع واقع مواز لما يمور في الحياة، لا تنشغل بقضية ما بالضرورة، بقدر ما تنكبّ على إحساس وصورة وحك للقشرة وسلخ للجلد ونفاذ إلى داخل مكامن الطفولة، عبر استعارية أقرب إلى اللغة الشعرية منها إلى نثر يتحول عنده إلى لغة ثالثة، وبحثاً عن جنس أدبي متفرد، بما يتطابق مع النظرة المجددة كما اختص بها فرانك أوكونور القصة القصيرة في كتابه الرائد: «الصوت المنفرد» (1962). وفي مجموعته الأحدث «نافذة على الداخل» يتجلى هذا الانزياح بقوة، كأنه ترك القصة القصيرة وراءه، وراح يمشي خلف نص هو من يصنع بالتواتر نوعه، بذا يرسخ تجربة سبعيني لا يبلى أدبه، ما يؤكد أن القصة القصيرة تملك دائماً طاقات تعبير قصوى إذا وُجد معلموها.
ما حكّ جلد الكاتب مثل قلمه، هو ظفره وأكثر. هو لسانُه وترجمانُه، وبه يوجد ويتحدد. أضحى لزاماً عليه إذ يرى النقد يَشِحّ إن لم ينعدم، والصحافةَ وحدها لا تستطيع أن تفيَ شخصَه وعملَه حقهما من التعريف، وقوانين سوق استهلاك جديد تتطلب مزيد إخبار لكسب الجمهور؛ لزاماً ومستحبًا أيضًا أن يكتب النص الثاني الموازي، في كلّ مرة يتخّذ شكلاً وصيغة، إما سيرةً أدبية، تأملاتٍ، إضاءاتٍ على التجربة، أو حوارتٍ وأقوالاً، مما يضع الكاتب والنص تحت الضوء، ويقربه ربما أكثر من قارئه.
هذا ما فعله القاص المغربي أحمد بوزفور في كتابه الجديد والفريد: «النظر إلى بحيرة القلب» (ديهيا،2017). هو صنيعٌ حسنٌ عندما نعلم أنه من كاتب تصرّمت عليه أربعة عقود في ميدان الكتابة، واكتسب بين أقرانه وفي مجاله مكانة مميزة ومستحَقةً لقيمة نصوصه وانصرافه الكامل الى فن القصة القصيرة، صار له فيها منجزٌ متصلٌ منشأً وتجديداً، ومصاحبةً لمن يكتبونها، بالحدب والنصح والتوجيه، صار مريداً لهم فبايعوه لذا شيخاً لهم.
بدأ بوزفور مناوشة القص القصير منذ مطالع سبعينات خلت، حبا خلالها ومشى بتؤدة إلى أن استوى على قدمين بصدور مجموعته الأولى «النظر في الوجه العزيز» (1983). ضمت مخاطراته الأولى في إعادة تصوّر لتوليد هذا الجنس الأدبي وتوليف نسيجه وتشغيل أدواته وخصوصاً تحويل دفّة مركبه، لينتقل من وظيفة المحاكاة نقلاً وتصويرًا إلى التعبير تمثيلاً وجمالياً. وكذلك من مهمة رصد الواقع بواسطة واقعيات وتبنّي قضية الجماعة إلى حيازة الصوت الخاص، في موقع مستجد تؤول فيه البطولة والإحساس والموقف إلى ضمير المتكلم بعينين، واحدة ترنو إلى محفل المجتمع بغية التضامن مع المعذبين في الأرض، وثانية تنكفئ إلى الداخل، أجواء الباطني ولواعج الذاتي وهواجس الفكر، لتقول إحساسها بعبارة الاستيهام.
جاءت قصص هذه المجموعة ضمن سياق إبداعي لجيل أدبي مختلف انطلق عمله مع بداية السبعينات، لم يعد مقتنعًا برؤية الأسلاف، وميكانيكية الوصفة الواقعية والملتزمة عنتًا وتكلفاً، وبلغة محدودة القاموس، وخيال شبه منعدم مسقوف بقرميد الإيديولوجيا والفكرة المسبقة. هنا حيث الأدب له مفهومُ الرسالة، لا نسقُ الأدبية، النسق الذي تبلور تدريجاً في روايات الجيل الذي ينتمي إليه بوزفور وقصصه، وواصل فيه بالمجاميع التالية: «الغابر الظاهر»(1987)؛ «صياد النعام» (1993)؛ «قنقس»(2007) و»نافذة إلى الداخل»(2013).
واضحٌ أن أحمد بوزفور مقلّ، ما ذلك إلا لأنه صائغٌ يتوخّى الدقةَ والصنعةَ المتقنةَ والبضاعةَ الفخمةَ واطِّراحَ العاديِّ، نبذَ المبتذل، وقنصَ الشارد أما الواردُ فمبذول، وللصائغ أدوات يشحذها، أولّها اللغة، الأسلوب الإيقاع، وكيفية استخدام الخيال، لا الخيال ذاته.
سؤال الاستمرار
يستبق أحمد بوزفور سؤالاً قد يورد في أذهان كثيرين: «ما معنى أن يستمر كاتب سبعيني في كتابة القصة اليوم؟». ولكم جوبه بهذا السؤال القاصّ المعلّم سعيد الكفراوي، ولا أحسب إجابته تختلف عما قصده المغربي بوزفور حين قال:» بالنسبة إليّ فات الأوان على أن أكتب في جنس أدبي آخر. انحنى ظهري مع هذه القصة، حتى إنني لو حاولت أن أستقيم لانكسر».
وإذن، بعد انصرام هذه العقود مجتمعةً يقف المحارب القديم والصبور لينظر في بحيرة القلب، ليتأمل ويقدم حصيلة تجربة كاملة، تجربة نصية تأسست وتبلورت واتّسقت ونَسَقت وأثمرت ولها أفق. أي ليست نثارَ كلام ونزوةَ كتابة وشطحةَ تخييل وعسفَ التزام، هي موهبةٌ رَفدتها ثقافةٌ وصقلتها صنعةٌ وحلق بها خيال، وأسستها قبل هذا وذاك وشحذتها لغةٌ ووسائلُ أسلوب، وهذا ما يحتاج أن يتعلمه كل ناشئ ويعيه من يتورط في الأدب، أن يكون كاتباً أو لا يكون. لا يفعل هذا إلا كاتب تجريبي: «إنني متقلّب هاوٍ وتجريبي، وأحس أنني أبدأ مع كل نص جديد أكتبه»(41) ليس تواضعاً ولكن هو قلق الكاتب يعرف خطورة لعبته فيقرّ: «الكتابة تدريب يستمر طوال الحياة. لا نترسم أبداً. الكتابة تجريب يستمر طوال الحياة. لا ننضج أبدًا»(39). إنما حذار أن نفهم التجريب طيشاً، فالقصة فن مضنون به لغير أهله، يأخذ عنده المعاني التالية، فذّة وجوهرية: هو تنويع للذات الساردة، بكسر أحاديتها.
إذا عدّدَت الأصوات عليها أن تعدِّدَ اللغات، اللغة بوصفها أسلوبَ تعبير يتمثل في النعت والتشبيه والاستفهام المدرار والتكرار وإيقاع التركيب والتناص الخفيِّ والصوتِ الجامعِ لها. هو ما يفاجئ الكاتب نفسه وما لم يتوقعه، فيكون التجريب عندئذ عملية مستقلة بهدفها هي. وهو ثالثاً، خلافًا للمزعوم المتداول، أكبر من ثورة على الأشكال وكيف يكتب الآخرون، ولا وهو وعي مسبق مؤطر نظري، قد ينجم عنه الافتعال والهوى وليس الضرورة الفنية. لذا ينبغي أن ننظر إليه باعتباره نتيجة لا سببًا، نعم نتوخى فيه خلوص الطوية والدقة والجمال، ليأتي بعدنا من يصنفه في تيار ما وعلى نحو من الأنحاء، هكذا يبقى الكاتب حراً.
حين يمضي كاتب تجريبيٌّ ومخلصٌ لفنه كلّ عمره الأدبي مع زوجة (فن) واحدة فهو قمين بأن يعرف طباعَها، وأصولَ معاشرتها، والهندسةَ العاطفية والعقلية لإقامتهما، إنها التجربة. وهي مشتركة لا تخصّ الكاتب الذي نحن بصدده، بل تمتد الى جيل أدبي جديد في المغرب، والعالم العربي، حيث للقصة القصيرة تاريخٌ ممتد وغنيٌّ بالوعي البصري والنقدي والتشكيل الجمالي مستوعباً بعديد رؤى في قلبها الرؤية الواقعية مرآويةً ونفاذةً ومستبطنةً واقعنا وتحولاتِه، وتبقى الجنس الأصعب والأقدر دائماً على الانتباه لرعشات الكائن وقلق المصير. هي الفن الصعب، يعي بوزفور هذا جيدًا، فيحذر معترفاً بما يسميه كعوب أخيل الثلاثة يحب أن يحصرها في تجربته لكي لا يوصم بالتعميم، بينما كل قاص جاد معرّض لها: ثلاث عقبات، أولها اللغة، من باب الدراية بها قاموساً وطاقة، لا إمكانية لأي لعب سردي إلا بامتلاك أرهف الأدوات اللغوية، وما يحتاج إليه كاتب القصة بعد الطريقة القصصية في تشكيل الخيال: «تعبئته في كأس لغوية ثم تفجيره في وجدان القارئ بهذه الكأس نفسها»(43).
ثانيها، المعرفة، لا مراكمة المعلومات، وإنما ما يقدح الزناد، ويدفع إلى الابتكار، نستقطرها لنبدع، لا لاجترار المسكوكات. ثالث خطر يواجه القاص الفنان هو كيف يصبّ الحكايةَ في القالب، أن يوفر لها شكلها الأنسبَ، ببنائها متناسقةً، متعالقةً لغةً ومرجعاً ومعنى ودلالةً، لتأتي مثل: «بحيرة مستديرة ليس لها مدخل ولا مخرج، لها فقط سطح خارجي بارز، ولكنه حي متحرك مترقرق، وتحت أعماق بعيدة الغور تسكنها حيتان وجواهر وجنيات»(45).
اختبار النص
إنه من دون شك طموح يُختبر في النص، لدى كتابته، وليس بالنيات ولا المزعم، عرضة لامتحان مستمر تُحيّن معه الخبرة والحذق عند إنشاء كل قصة، ولابد من جوار مع ما يكتبه الآخرون، لا سيما أبناء جيلك، فكيف بمن سبقوك وشقوا الطريق، هم رواد التحديث، وهزّوا جذع النخلة ليساقط قصٌّ جديد ثمراً جَنيا. عدا الراحل محمد زفزاف، هو بلا منازع أبو القصة القصيرة الحديثة ومرسِّخ عمدها في المغرب، وواحد من معلميها في العالم العربي، تستغرق بوزفور تجربته فقط، يغطس بخاصة في بحيرة قصته، وفي صفحتها يتملّى وجه نصه، رابطاً نسَبه إلى آباء كبار(كافكا، بورخيس) كثير حقاً «يدعي وصلاً بليلى/ وليلى لا تقر لهم بذاك» لا نعرف كيف، بورخيس تحديداً الذي كتب (La cuenta) هي تقليد حكائي شفوي أولاً، وليست من طرز ما ورثناه عن بو أو تشيخوف وموبسان. نقول هذا لأن تجديد القصة القصيرة عربياً وتجريبيتها يندرجان في سلسة نسب متصل، أي ليست من صنع مخاطرة واحدة، وهو ما أصّلها، أو هي نزوة طائشة، أحسب بوزفور يفهم هذا جيداً وتمثله.
ومع كل غناه وتعدد إضاءاته، يبقى النص الموازي، أي ما يكتبه كاتب عن إبداعيته الخاصة بكيفية نظرية أو تأملية، رهنًا أساساً بالنص الأم، الأكبر، والجامع، يشمل عطاءه وما تتلمذ عليه، إليهما نحتكم في النهاية، نفعل هذا بالقراءة أولاً، عالمةً ومتذوقةً ومدرّبة، وبإنجاز حفور في تضاريس هذا النص. وفي الحالتين نرى ان قصص أحمد بوزفور ابتعدت منذ البداية عن رسم الشيء كما هو إلى كما تراه عين، ويستبطنه حسٌّ، وتنطقه بحشد إمكانات اللغة والبيان كلها لصنع الشيء القصصي بواسطة أدوات الشعور، ما يجتمع عنده في (حروف المعاني) من شأنها صقل الدلالة وتوجيهها وتحديدها في آن.
لقد اتجهت قصة بوزفور إلى صنع واقع مواز لما يمور في الحياة، لا تنشغل بقضية ما بالضرورة، بقدر ما تنكبّ على إحساس وصورة وحك للقشرة وسلخ للجلد ونفاذ إلى داخل مكامن الطفولة، عبر استعارية أقرب إلى اللغة الشعرية منها إلى نثر يتحول عنده إلى لغة ثالثة، وبحثاً عن جنس أدبي متفرد، بما يتطابق مع النظرة المجددة كما اختص بها فرانك أوكونور القصة القصيرة في كتابه الرائد: «الصوت المنفرد» (1962). وفي مجموعته الأحدث «نافذة على الداخل» يتجلى هذا الانزياح بقوة، كأنه ترك القصة القصيرة وراءه، وراح يمشي خلف نص هو من يصنع بالتواتر نوعه، بذا يرسخ تجربة سبعيني لا يبلى أدبه، ما يؤكد أن القصة القصيرة تملك دائماً طاقات تعبير قصوى إذا وُجد معلموها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.