فى الربع الأخير من القرن 15 رسم فنان عصر النهضة الإيطالي «ساندرو بوتيتشيللي» لوحته الشهيرة «الربيع» بتكليف من «آل ميدتشي» كهدية زفاف لأحد أبناء العائلة، فكانت اللوحة الأشهر طوال نصف ألفية التي حملت اسم الربيع، وأكثرها إثارة للجدل، لما ضمته من رموز فكرية وسياسية، جسدتها شخصيات أسطورية، وعكست فلسفة للعالم أقرب للأفلاطونية المحدثة. كما ضمت 500 نوع نباتى محدد، و190 زهرة مختلفة. ورغم أهميتها فإنها واحدة من مئات الأعمال التي صورت الربيع على مدى التاريخ، كفصل تزدهر فيه الحياة وتتفتح الأزهار، ورغم ذلك اكتسب أحيانا معانى نقيضة فى أعمال بعض الفنانين. ◄ فنانو القرن 18 استخدموا زهور الربيع كلغة للغواية ◄ البابليون اعتبروه انتصارا على الموت واليابانيون رسموه كجمال فانٍ ■ لوحة الربيع لكلود مونيه لا تقدم لوحة «بوتيتشيللي» تصورًا جماليًا عن الربيع فحسب، بل يعتبرها البعض تلخيصا لعصر النهضة بصراعاته الفكرية والدينية والسياسية، حيث جمعت بين الوثنية والمسيحية والأساطير الإغريقية، وأعادت تعريف مفهوم الطبيعة فى الفن. ◄ رموز كان أول من ربطها بفصل الربيع المؤرخ الفنى الشهير من عصر النهضة «جورجيو فاساري» الذى رآها فى «فيللا كاستيللو» خارج فلورنسا. وهى تصور تسع شخصيات من الأساطير اليونانية، ست نساء ورجلين، والطفل كيوبيد. ويظهر فى يمينها «أنومى إله الرياح» يحاول اختطاف الحورية «كلوريس» والتى تزوجها بعد ذلك، حيث صارت إلهة للربيع، وحاملة أبدية للحياة، تنثر الورود على الأرض وفق الأسطورة. وضمت اللوحة أيضا «فينوس» كرمز لاتحاد الحكمة الإلهية بالجمال الأرضي. إلى جانب ثلاث من إلهات الحسن، و«ميركوري» إله التجارة والفصاحة والمكاسب المالية وآخرين اجتمعوا فى حديقة برتقال، وهو رمز لعائلة «ميدتشي» الثرية الراعية للفنون. ووفقا لعالمة النباتات «ماريا ريتا زافيران» فإن 70% من النباتات فى اللوحة تستخدم فى الطب الشعبي، وهو ما يلمح إلى شعار الشفاء عبر الفن الذى تبنته العائلة الراعية. ويرى البعض أن «بوتيتشيللي» قد تلقى المساعدة فيما يتعلق بالموضوع من شاعر بيت ميدتشى «بوليزيانو»، حيث تضمنت اللوحة قدرا من المعارف العميقة يفوق ما كان لديه. وقد فسرت علاقات الشخصيات الأسطورية فى المشهد بأنها ترمز للصراعات السياسية فى عصرها. كما نجت اللوحة بأعجوبة من محرقة الراهب المتشدد «سافونارولا»، حيث تمت تخبئتها فى أحد الأديرة، بعد إلباس «فينوس» ثوبا أزرق، واعتبارها مريم العذراء، قبل أن تعود فيما بعد لأصلها الإغريقي. وفى الثلث الأخير من القرن 16 رسم الإيطالى «جوزيبى أرسيمبولدو» لوحاته الشهيرة التى تمثل الفصول الأربعة فى هيئة وجوه بشرية مكونة من فواكه وأعشاب وعناصر من الطبيعة، ومنها لوحة «الربيع» التى صور فيها رأسا جانبيا لامرأة شعرها ووجهها عبارة عن زهور متنوعة، وياقة ردائها من الزهور البيضاء، وباقى الرداء من نباتات خضراء. ■ لوحة الأرجوحة للفنان أونوريه فراغونار من عصر الروكوكو إغواء فى عصر الباروك (القرن 17) صور الربيع بشكل رمزى من خلال الزهور، حيث رمز الزنبق إلى دم المسيح، والوردة البيضاء للعذراء. أما فى حقبة «الروكوكو» (القرن 18) فتحول الربيع إلى هوس ضمن لعبة أرستقراطية، كما فى لوحة «الأرجوحة» ل«جان أونوريه فراجونار» (1767)، حيث تظهر الفتاة وهى تتأرجح بين أزهار الكرز، بينما ينهمك العاشق فى التقاط حذائها. الألوان الوردية والزرقاء الفاتحة حولت الربيع إلى ديكورٍ مسرحي، لا علاقة له بالطبيعة الحقيقية، وهى سمة غالبة على أعمال تلك الحقبة. وفى أعمال «أنطوان واتو» مثل «الحج إلى سيثرا» (1717)، تُصوّر الحدائق كفضاءاتٍ للغزل والرقص، حيث تذوب الحدود بين الربيع البشرى وربيع الطبيعة. ووفق كتاب «فن التملق» ل«نوربيرت إلياس»، فقد تحولت الزهور للغة سرية فى ذلك العصر، حيث طوّر فنانون مثل فرانسوا بوشيه «معجما للأزهار»، لتحمل كل منها رسالة غرامية. فى لوحته «ربيع الحب « (1753)، ترمز أزهار البنفسج إلى الإخلاص، والزنبق إلى الشهوة. ولم تكن هذه الرمزية بريئة، بل جزء من ثقافة الإغواء فى بلاط «لويس الخامس عشر». وإذا كان ربيع الباروك قد عبر عن العظة البصرية، فإن ربيع الركوكو عكس تفاهة النخبة الحاكمة والهروب من الواقع قبل قيام الثورة الفرنسية. ■ جزء من لوحة الربيع للفنان بيير أوجست كوت ◄ اقرأ أيضًا | ضبط فتاتين ألقتا «شوربة الطماطم» على لوحة ل «فان كوخ» ◄ اغتراب لم يصور الرومانسيون الربيع كفصل للجمال، بل حولوه إلى مسرحٍ للصراع بين الإنسان والكون، فانقلب إلى استعارة للقلق الوجودي، متأثرين بحزنهم الذى واكب الثورة الصناعية وسيادة المادية. فى لوحة «الربيع» « (1819)، رسم «كاسبر ديفيد فريدريش» أشجارا عارية تزهر، بينما تذوب الثلوج لتكشف عن طبيعة تكاد تخلو من الألوان تصور ربيع الشمال. وفى رسالته إلى صديقه «كارل غوستاف كاروس»، قال: «الأزهار تنتصر دائماً، لكن انتصارها مؤقت... كحلم لا نذكر تفاصيله عند الاستيقاظ». كذلك رسم «فيليب أوتو رونج» لوحته الطباعية «الشاعر فى الربيع» وتضمنت شاعرا منشغلا بقيثارته على يسار اللوحة التى تتفجر فيها الطبيعة بالنباتات وبامرأة وأطفال صغار. وكأن الربيع مرادف للخصوبة والأنوثة الكونية، حيث يبدو الشاعر هامشيا فى المشهد. وللفنان لوحة أخرى بعنوان «الصباح» تحيل إلى معنى مشابه. ووفق إحدى رسائله فقد رسمها ردا على وفاة ابنته، محاولا تحويل حزنه إلى طاقة خلاقة. وبشكل عام اقترن الربيع عند الرومانسيين بالجمال المزوج باليأس وشعور الاغتراب، قبل أن يحوله الانطباعيون إلى مختبر بصري، لتأثير الضوء على الألوان، كما فى لوحة «ربيع» ل«كلود مونيه» التى صور فيها زوجته «كاميل دونسيو» التى كانت عارضته من قبل وعارضة كل من «أوجست رينوار» وإدوارد مانيه». وقد رسمها جالسة فى أجواء ربيعية تحت إحدى الأشجار المزهرة تقرأ. أما «أوجست» رينوار» فقدم الربيع كحفل برجوازى فى لوحته «الربيع الفرنسي»، وكذلك فى لوحته «الأرجوحة»، مبدعا فى لمسات الضوء. وقدمت «بيرث موريسو» لوحة «الربيع فى شارع بولون» كعمل انطباعى مرسوم بلمسات سريعة فى محاولة لالتقاط الضوء وتأثيره على الأشجار المزهرة والأرض. كما ظهرت الأجواء الربيعية فى عدد من لوحاتها كما فى لوحة «أم وطفلها». وفى رسالتها إلى أختها عبرت عن رؤيتها حول الربيع قائلة: «الربيع ليس خارج النافذة، بل فى الطريقة التى يرتطم بها الضوء بفنجان شاى على الطاولة». ■ الربيع للفنان جون مارشال جامبل ◄ ذبول رسم الواقعى «فرانسوا ميليه» لوحته «الربيع فى باربيزون» (1868) وصور فيها مشهدا ليليا، لم يمنع الظلام من رؤية اللون الأخضر للحقول والأشجار. وله لوحة أخرى صور فيها امرأة تجمع الحطب، وحولها زهور برية، وأظهر تفاصيل الطين العالق بحذائها، ليذكرنا بأن ربيع الفقراء هو صراع للبقاء وليس جمالا. وفى حقبة الحداثة فقد الربيع براءته، كما فى لوحة «أشجار اللوز» لفان جوخ، حيث الأغصان الملتوية تزهر بقوة وقلق فى مواجهة سماء زرقاء صارخة. ورسم الميتافيزيقى «جورجيو دى شيريكو» الربيع وكأنه كابوس صامت، من خلال شرفة خالية فوقها سماء زرقاء صافية، وعلى الأرض يد رخامية عملاقة تمسك زهرة ذابلة. وحول السيرياليون الربيع إلى حلم مسموم كما فى لوحة «تحول النرجس» ل«سلفادور دالي» حيث يتحول الجسد إلى زهرة، وتذوب بيضة ذهبية فى الخلفية. وتصور لوحة «الربيع الكوني» ل«ماجريت» السماء مليئة بالورود الرمادية بدلا من النجوم. أما التجريدى «فاسيلى كاندينسكي» فحول زخارف الربيع إلى دوامات لونية، وكتب فى مذكراته: «الربيع ليس زهورا، ولكن صراع بين الحرارة والبرودة.» وحول الدادائى «مارسيل دو شامب» الربيع إلى آلة عبثية بلهاء فى عمل بعنوان «مجمع الربيع». كما رسمت «فريدا كاهلو» الربيع كمرآة لجسدها المعذب. وفى الفن المعاصر أصبحت هشاشة البيئة هاجسا لموضوع الربيع ضمن أعمال فنانين مثل «أولافور إلياسون»، وحتى زهور «يايوى كوساما» البلاستيكية المضيئة فى منحوتات تعتبر نبوءة بمصير البيئة. ◄ خصوبة لم يبدأ اهتمام الفنانين بالربيع فى عصر النهضة، فقد صور منذ الحضارات القديمة. وارتبط فى مصر بفيضان النيل، ودماء أوزوريس. كما فى مقبرة «نيبامون» (1350 ق.م) بطيبة، حيث صور كرقصات احتفالية تحت أشجار التين، لنساء بملابس شفافة يحملن زهور اللوتس، تعبيرا عن الخصوبة. أما فى بلاد الرافدين فارتبط بعشتار رمز الحب والخصوبة والتى كانت وفق ملحمة جلجامش تفتح أبواب العالم السفلى كل ربيع لتحرر المياه الجوفية. كما ارتبط بدماء الإله دموزى كراع يضحى به لإنقاذ المحاصيل فى الأسطورة السومرية. وفى الصين -عهد أسرة «تانغ» (القرن الثامن)، ابتكر الفنانون مفهوم الربيع الأبدى عبر لوحات الحرير التى تجمع بين الزهور والجبال. وفى اليابان ارتبط بالمشهد الآسر لتفتح زهور الكرز، وأيضا بسقوطها. وفى الهند رسم الربيع فى هيئة رقصات كتكريم للإله «فيشنو». وفى أوروبا العصور الوسطى تحول إلى استعارةٍ للفردوس المفقود، كما فى كتاب «المواعظ الزاهية لدوق بيري» (1410)، حيث رسم الأخوان «ليمبورغ» حديقة مسورة مليئة بالورود، كناية عن البراءة المحاصرة بالخطيئة. وفى الفن الإسلامى اتخذ الربيع شكلاً هندسياً، كما فى قصر «الحمراء» بغرناطة، حيث نسجت زخارف السدر والريحان على الجدران كفسيفساء لا نهائية، عكست مفهوم الجنة فى القرآن.