بعد ساعات فقط من بدء تنفيذ قرارات الرئيس الأمريكى ترامب بفرض رسوم جمركية عالية على معظم دول العالم، فاجأ ترامب الجميع بقرار جديد بتعليق الرسوم الجديدة لثلاثة أشهر لتبقى عند حدود 10٪ فقط، فى نفس الوقت الذى رفع فيه الرسوم الجمركية على الصين إلى رقم قياسى جديد هو 124٪.. لتكون النتيجة الفورية هى أن تشهد بورصات العالم ارتفاعات قياسية بعد أسبوع «كارثى»، بدأ مع إعلان ترامب عن معركة الرسوم الجمركية وما أسماه «تحرير أمريكا» الجديد وانتهى ب»الهدنة التجارية» والحديث عن التفاوض حتى مع الصين التى يبدو أنها استعدت جيدا لمثل هذه المواجهة ولهذا ردت بالمثل على «جمارك ترامب» وإن كان باب التفاوض ما زال ممكنا بين أكبر اقتصادين فى العالم لتفادى حرب تجارية سيخسر فيها الطرفان، وسيخسر معهما العالم كله! ترامب- من البداية- كان يدرك أن قرارات الجمارك سوف ترتب أعباء على المستهلك الأمريكى أو ما أسماه بعض «الألم» الذى يمكن تحمله من أجل «عظمة أمريكا»، ومن أجل أن «تتحرر» أمريكا من الاستغلال الاقتصادى، وتعود الصناعة الأمريكية للازدهار. لكن هذا الطرح من جانب ترامب لم يدخل فى حساباته العديد من تعقيدات الموقف الاقتصادى داخل أمريكا وفى علاقاتها مع الخارج. والنتيجة لم تكن فقط بعض «الألم» من جانب المستهلكين كما كان يتوقع، ولكن خطر الوقوع فى أزمة اقتصادية غير مسبوقة.. لم يكن الأمر فقط هو التراجع الكبير فى البورصات الأمريكية والخسائر الفادحة للمستثمرين، ولا حتى فى ارتفاع نسبة التضخم وتراجع نسبة النمو المحتمل.. ولكن كان حاسما تأكيد البنك الفيدرالى الأمريكى على الخطر المتزايد من وقوع «الركود» فى أكبر اقتصاد بالعالم إذا استمرت وتصاعدت حرب الجمارك! الجانب الآخر فى الصورة.. أن «الألم» الذى تحدث عنه ترامب مبكرا لم يهدد فقط ملايين المستهلكين، بل أصاب بالفعل كبار المستثمرين الذين ساندوا ترامب من البداية وأصبحوا فى قلب إدارته التى يصفها المعارضون بأنها «حكم المليارديرات»، وأشهرهم- داخل الإدارة حتى الآن- هو بالطبع إيلون ماسك الذى دخل فى معركة علنية مع المستشارين التجاريين لترامب معارضا لهذه الرسوم الجمركية!. هذه الطبقة لم تكن تتحدث فقط بسبب تقلبات البورصة وخسائرها الفادحة على شركاتها، ولكنها «فى الأساس« تدرك حجم المخاطر إذا وقع الركود الكبير، وإذا استمرت حالة »عدم اليقين«، بالنسبة للاقتصاد الأمريكى.. وتدرك أن سلاح الرسوم الجمركية سلاح ذو حدين، وأن المنافسة مع الصين لن تحسمها أمريكا بالحرب التجارية ضد العالم كله! جيد أن تهدأ العاصفة قليلا، وأن يتم تجميد رسوم الجمارك لثلاثة شهور، وأن تعود لغة التفاوض بحثا عن حلول وسط تتفادى المخاطر على التجارة العالمية كلها. فى حقيقة الأمر التفاوض يمكن أن يحل مشاكل عديدة تشكو منها دول أخرى وليست أمريكا وحدها.. لكن ستبقى القضية الأساسية هي: أنه فى ظل حرية التجارة العالمية أصبحت تكلفة الإنتاج فى دولة مثل الصين تقل كثيرا عنها فى أمريكا. معركة الرسوم الجمركية إذا استمرت ستخفض التجارة بين البلدين بنسبة تصل إلى 80٪ والأخطر أنها ستكلف العالم انخفاضا فى الإنتاج بنسبة خطيرة تبلغ 7٪ كما تقول منظمة التجارة العالمية. حرب الرسوم الجمركية لن تحل المشكلة بل ستعقدها. ربما المطلوب شىء آخر: تفاوض حقيقى لتطوير نظام التجارة العالمية الحالى ليكون أكثر عدالة وأشد انضباطا. تفاوض لا يراعى فقط مصالح الكبار ولا صراعاتهم الخطيرة، وإنما يرتفع فيه صوت أغلبية شعوب العالم التى تناضل من أجل حقها فى التنمية والتقدم بدلا من أن تدفع «كالعادة» ثمن الصراع بين الأقوياء!