تحت الشعار الفضفاض «أمريكا أولاً» الذى يتخذه الرئيس ترامب ستاراً لكل قراراته المثيرة للجدل، أعلنت إدارته مؤخراً الغاء 5800 من 6200 عقد من منح الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية «USAID»، بتخفيض قدره 54 مليار دولار، بزعم ان هذه الأموال تستنزف الخزانة الأمريكية دون طائل فى الوقت الذى يمكن فيه توظيفها بمشاريع محلية. وعلى أثر قرار الإلغاء الذى طال نحو 83٪ من برامج الوكالة التى تعمل فى اكثر من 100 دولة، تم الإعلان عن تسريح جميع موظفى الوكالة فى الخارج (نحو 10٫000) بحلول منتصف أغسطس، وإغلاق مكاتبها الميدانية وتجميد أموالها ووقف المساعدات التى تقدمها. وبغض النظر عن الآثار الإنسانية المدمرة لهذا القرار على ملايين الأشخاص فى الأماكن الأكثر فقراً واحتياجاً فى العالم، التى يمكن تناولها فى مقال آخر، يعد هذا القرار «انتحاراً» دبلوماسياً لأمريكا وأكبر مسمار فى نعش النفوذ الذى ظلت تبنيه بتؤدة عبر عشرات العقود. فرغم انشائها كمؤسسة مستقلة عام 1961، إلا أن «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية» كانت دائماً احد أهم أسلحة السياسة الخارجية الأمريكية وأداة رئيسية لدبلوماسية واشنطن وقوتها الناعمة. والمساعدات التى قدمتها على مدار عقود لم تسهم فقط فى تشكيل صورة امريكا كحليف وداعم، خاصة فى المناطق التى لا تكفى فيها الدبلوماسية التقليدية، بل وساعدتها ايضاً فى بناء تحالفات، وتعزيز نفوذها الدولى فى مواجهة المنافسين الاستراتيجيين. فكثير من مساعدات الوكالة تم توجيهها لدول ذات أهمية استراتيجية، ما عزز قدرة واشنطن على بناء تحالفات مهمة، مهددة الآن بالانهيار مع حلّ الوكالة. كذلك استغلت واشنطن خدمات الوكالة كوسيلة للضغط السياسى الذى أغناها فى كثير من الأحيان عن اللجوء للتدخل العسكرى، كما استخدمتها كسلاح فى مواجهة «مبادرة الحزام والطريق» التى تستخدمها الصين كمطية لنفوذها. نعم قد يوفر إغلاق الوكالة على الخزانة الأمريكية بضعة مليارات سنوياً، لكن الثمن الذى ستدفعه من نفوذها وهيبتها وعلاقاتها وقوتها الناعمة لا يمكن تقييمه بالأرقام ولا تعويضه.