خلال الفترة الرئاسية الثانية لدونالد ترامب، تبنت الولاياتالمتحدة سياسات يراها البعض "انعزالية" والبعض الآخر يراها بمثابة "إعادة هيبة"، من أبرزها وقف الدعم المالي واللوجستي للمؤسسات الصحية العالمية، بما في ذلك منظمة الصحة العالمية، وبرنامج الأممالمتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. تُمثل هذه السياسات، المُبرَّرة تحت شعار "أمريكا أولاً"، انحرافًا صارخًا عن دور الولاياتالمتحدة بعد الحرب الباردة كقوة مهيمنة داعمة للمؤسسات الدولية، ولا يقتصر الأمر على عزلة أمريكا الدبلوماسية فحسب، بل يُضعف أيضًا هيمنتها العالمية ونفوذها الاستراتيجي وقوتها الناعمة على المدى الطويل. منذ إنشاء الأممالمتحدة والمؤسسات التابعة لها، كانت الولاياتالمتحدة أكبر مُساهم مالي ولوجستي في البرامج العالمية، على سبيل المثال، قبل ولاية ترامب الثانية، موّلت الولاياتالمتحدة ما يقارب 30% من مبادرات الصحة العالمية، ولعبت دورًا حاسمًا في برامج مثل خطة الرئيس الطارئة للإغاثة من الإيدز (PEPFAR)، التي أنقذت حياة أكثر من 25 مليون شخص تقريبا ً، ومع ذلك، خلال ولاية ترامب الثانية، تكثفت السياسات الانعزالية بوتيرة متسارعة. كانت لقرارات مثل الانسحاب من منظمة الصحة العالمية مجددًا وخفض تمويلها بالكامل، وتقليص ميزانية الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بشكل كبير، مع تسريح أكثر من 95% من موظفيها، وفرض تعليق لمدة 90 يومًا على المساعدات الخارجية، ومراجعة جميع برامج المساعدة لتتماشى مع أجندة "أمريكا أولاً"، آثار عميقة. بالإضافة إلى ذلك، أُوقف تمويل برامج الصحة الجنسية والإنجابية، بما في ذلك صندوق الأممالمتحدة للسكان (UNFPA)، لأسباب أيديولوجية محلية. وتُفسر الإدارة الجديدة في واشنطن العاصمة هذه السياسات على أنها إجراءات "للقضاء على "الإنفاق المهدر" علي حد وصفها و"حماية المصالح الأمريكية". ولا بد من التساؤل: هل هذه الادعاءات مجرد واجهة لأهداف سياسية محلية، مثل كسب تأييد الناخبين المحافظين؟ لا شك أن الأوامر التنفيذية لساكن البيت الأبيض الجديد ستكون لها عواقب وخيمة على مستقبل الولاياتالمتحدة، والوجهة النهائية لقطار ترامب الجامح هي زعزعة هيمنة أمريكا على المديين القصير والطويل في النظام العالمي. سيكون لخفض المساعدات المالية آثار فورية ومدمرة على المؤسسات العالمية والدول التي تعتمد عليها، ستفقد منظمات مثل منظمة الصحة العالمية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، اللتان تعتمدان بشكل كبير على التمويل الأمريكي، قدرتها على الاستجابة للأزمات الدولية، بما في ذلك الأوبئة كالإيدز والملاريا والسل، بالإضافة إلى الكوارث الإنسانية كالمجاعة في السودان أو محنة لاجئي الروهينجا في بنغلاديش. قد يُعرّض وقف تمويل خطة الرئيس الأمريكي الطارئة للإغاثة من الإيدز (PEPFAR) حياة ملايين الأشخاص في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى للخطر، وهي منطقة يأتي منها أكثر من 50% من المساعدات الصحية من الولاياتالمتحدة. وإلى جانب المخاوف الإنسانية، تُلحق هذه السياسات الضرر أيضًا بالعلاقات الدبلوماسية الأمريكية مع الدول التابعة، وتعكس ردود الفعل السلبية من الأممالمتحدة وحلفاء الولاياتالمتحدة التقليديين، مثل الاتحاد الأوروبي - الذي وصف هذه السياسات بأنها "غير مسؤولة" - تراجع شرعية أمريكا كقائد عالمي. علاوة على ذلك، قد تُفيد هذه الإجراءات منافسين جيوسياسيين للولايات المتحدة، مثل الصين، التي تملأ الفراغ الذي تركته الولاياتالمتحدة من خلال مبادرات مثل مبادرة الحزام والطريق، لا سيما في أفريقيا وآسيا. ووفقًا لنظرية "جوزيف ناي" للقوة الناعمة، يعتمد النفوذ الدولي لأي دولة على قدرتها على تشكيل القيم والمعايير العالمية من خلال أدوات مثل المساعدات الإنسانية والدبلوماسية العامة - إن خفض الدعم المالي للمؤسسات العالمية يشوه صورة أمريكا كقوة مهيمنة تضع نفسها وتدعي أنها في مصاف الدول الخيرية، ويضعف الثقة العالمية بها كشريك موثوق، لا سيما بين الدول النامية التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على المساعدات الأمريكية. ويبقى السؤال المُلح: هل تخدم سياسات "أمريكا أولاً" مصالح البلاد ومواطنيها على المدى الطويل حقًا؟ في حين تزعم إدارة ترامب أن هذه التدابير "تحمي المصالح الأمريكية"، فإنها في الواقع قد توفر الموارد المالية على المدى القصير ولكنها تعرض النفوذ العالمي والتحالفات الدبلوماسية للخطر، والتي تحمل قيمة أكبر بكثير من التكاليف النقدية على المدى الطويل. في المستقبل القريب، ستُضطر المنظمات الدولية إلى البحث عن مصادر تمويل بديلة، مثل زيادة المساهمات من الاتحاد الأوروبي واليابان ودول الخليج الغنية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون مع القطاع الخاص لتعويض عجز الموازنة. في غضون ذلك، من المُرجّح أن يلعب حلفاء الولاياتالمتحدة، بمن فيهم أعضاء مجموعة السبع، دورًا أكثر فاعلية في المؤسسات العالمية لمنع فراغ القيادة الذي ربما تخلفه الولاياتالمتحدة. علاوة على ذلك، ستُشكل السمعة الملطخة للولايات المتحدة وشرعيتها المفقودة عبئًا على الإدارات الأمريكية المستقبلية، وستكون استعادة مكانة البلاد القيادية في المنظمات الدولية مثل الأممالمتحدة ومجموعة السبع ومجموعة العشرين إرثًا صعبًا سيتركه ترامب في ولايته الثانية، إرثًا سيعمل رؤساء الولاياتالمتحدة القادمون بلا كلل لإعادة بنائه في أعين الرأي العام العالمي.