منى ربيع منذ ايام وافق مجلس الوزراء على مُسودة مشروع قانون خاص بتنظيم إصدار الفتوى الشرعية المُقدم من وزارة الأوقاف، وتسري أحكام مشروع القانون بشأن تنظيم إصدار الفتوى الشرعية، والمُختصين بمهام الإفتاء الشرعي، وذلك دون الإخلال بالإرشاد الديني والاجتهادات الفقهية في مجال الأبحاث والدراسات العلمية والشرعية. وقد لاقى مشروع القانون استحسانًا من الجميع، لانه في الآونة الاخيرة صدرت بعض الفتاوى والتى احدثت بلبلة وفوضى بين المواطنين، مما يؤكد أن هذا القانون سيجعل استقرارًا وسيحد من الفوضى والجهل وسيكمم افواه المدعين وسيخرص ألسنتهم، «اخبار الحوادث» في السطور التالية ومن منطلق أهمية هذا القانون ناقشت مسودة القانون مع علماء الدين ونواب البرلمان والذين ادلوا برأيهم فيه في السطور التالية. في البداية نصت مسودة مشروع القانون على أن يختص بالفتوى الشرعية العامة التي تتعلق بإبداء الحكم الشرعي في شأنٍ عام يخُص المجتمع كُلٌ من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ودار الإفتاء المصرية، في حين يختصُ بالفتوى الشرعية الخاصة التي ترتبط بإبداء الحكم الشرعي في شأنٍ خاص بالأفراد كُلٌ من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ومجمع البحوث الإسلامية، أو دار الإفتاء المصرية، أو لجان الفتوى بوزارة الأوقاف، حيث نصت المادة الرابعة من مشروع القانون على أن تُنشأ بقرار من الوزير المختص بالأوقاف، لجنة أو أكثر داخل الوزارة للفتوى الشرعية الخاصة، كما حددت المادة شروط اختيار من يتولى الإفتاء في تلك اللجان وضوابط عملها، ونص أيضًا على أن يُرجح في حال تعارض الفتاوى الشرعية؛ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف. كما نص مشروع القانون على أن يكون للأئمة والوعاظ بالأزهر الشريف والهيئات التي يشملها والمعينين المتخصصين بوزارة الأوقاف وغيرهم من المُصرح لهم قانوناً، أداء مهام الإرشاد الديني بما يبين للمسلمين أمور دينهم، دون أن يُعدٌ ذلك تعرضًا للفتوى الشرعية، وذلك مع مراعاة أحكام القانون رقم 51 لسنة 2014 بتنظيم ممارسة الخطابة والدروس الدينية في المساجد وما في حكمها. كما أوجب مشروع القانون التزام المؤسسات والوسائل الصحفية والإعلامية والمواقع الإلكترونية وحسابات مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي ومحتوياتها، عند نشر أو بث الفتاوى الشرعية، أن تكون صادرة عن المُختصين وفقًا لأحكام هذا القانون، وكذلك عند تنظيم برامج للفتوى الشرعية أو استضافة أشخاص للإفتاء الشرعي؛ أن يكون من المُتخصصين وفقًا لأحكام هذا القانون. ونص مشروع القانون أيضًا على العقوبات المقررة لكل من يخالف أحكامه، فيما يتعلق بتحديد المُختصين بالفتوى الشرعية، أو التزامات وسائل الإعلام في هذا الصدد. كانت تلك ابرز ملامح مشروع قانون تنظيم الفتوى فما كان رأي العلماء فيه؟ فوضى الفتاوى في البداية اكد المستشار منصف سليمان وكيل لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب؛ أن مشروع القانون نحتاجه في تلك الفترة وموافقة مجلس الوزراء على المسودة الخاصة به شيء مهم وهذا القانون عند خروجه للنور سيحد من فوضى الفتاوى والجهل وسيحمى البسطاء والشباب من الافكار الهدامة والتطرف وأنه يؤيده بشدة. أما الدكتور عبد الفتاح العواري عميد كلية أصول الدين الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية يقول: إن الفتوى الشرعية يجب أن تصدر من اهل الاختصاص الذين قضوا أعمارهم في البحث والتنقيب فيما تركه فقهاء الامة وعلماء الشريعة، حتى لا يكون هناك دخلاء ليس عندهم علم أو يعرفون قدرًا ضئيلا من العلم لا يجعلهم مؤهلين للفتوى، التقول بغير علم جريمة كبرى عقوبتها هو شريك في الاثم، قال رسول الله صل الله عليه وسلم:»من قال في القرآن برأيه، فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمِر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ، لأنه لم يأتِ الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار»، ومن هنا نلحظ تحذير قول رسول الله من يقوم بالفتي وهو على غير علم فهو يدلوا برأيه عن هوىوليس رأي مستند على دليل شرعي تؤيده مقاصد الشريعة وقوانين اللغة، ان علمائنا وضعوا ضوابط للفتوى ولابد ان يكون الشخص الذى يصدر الفتوى أن يملك أدوات الاجتهاد متحققًا بأهلية المجتهد؛ أن يبين أحكام الشريعة فيما يقول وإذا لم يكن ذلك فعليه أن يبتعد عن الساحة لانه سيأثم وسيأثم ايضا من يخضع لفتواه لان الفتوى بغير دليل حرام. ويستطرد الدكتور عبد الفتاح العوارى حديثه قائلا: إنه يؤيد بشدة مشروع القانون الذى تقدمت به وزارة الأوقاف وغيرها من الهيئات في اطار التشريع لوضع مواد وقوانين تضبط الفتوى، لانه لايجوز أن يخرج على الناس من ليس مؤهلا للفتوى ومن اخطأ في عرض فتواه يجب أن يعرف أنه سيتعرض للعقاب، فحينما يعرف من سيخطئ في فتواه ولم يلتزم بقواعد الشرع وقوانين اللغة وليس من أهل العلم أن هناك قانونًا رادعًا ينتظره في حال الخطأ عندها سيمسك لسانه ولن يتجرأ على الفتوى بغير علم وسيبعد عن ساحة الفتوى، فعلى الجميع أن يمتثل لمثل هذا الأمر حتى يكفوا عن الفوضى وابداء الفتوى بدون علم؛ فهناك من يفتى بالمنع وآخر بالإباحة وتحدث بلبلة بين الناس لذلك هذا القانون مهم جدًا، لأنه سيحدث استقرارًا في المجتمع وسيكفون هؤلاء عن الفوضى الفكرية التى زكمت منها الأنوف وحزنت منها القلوب واصبحت النفس غير مستساغة لما تسمع من أقوال ليس عليها دليلا من كتاب أو سنه او حديث للصحابة؛ إن البعض يتتبع رخص المذاهب والبعض الآخر يتتبع الآراء الشاذة التى لاينبغى أن تخرج على الناس، والمسائل الخلافية واسعة الخلاف وهذه محلها البحث العلمى والدراسة وليس اسوقها للناس واجعلهم متحيرين وهذا أمر لا يليق بمصر بلد الأزهر الشريف. ويضيف عميد كلية أصول الدين الأسبق: فأنا اخرج على الناس فأفتى المستفتى بالرأي الراجح فقط ولا أحيره ولا ابلبل أفكاره حتى احيره فمهمة المفتى أن يصدر رأيًا راجحًا يطمئن له المستفتى وليس ما يحيره. منهج علمى ويؤكد الدكتور عبدالغني هندي عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية قائلا: نحن في معركة مع من يريدون إحداث إرهاب فكرى للناس، نجد في كل يوم يمر علينا أحد الاشخاص يصدر فتاوى بدون علم مما يحدث بلبلة بين العامة، والآن ونحن في عصر السوشيال ميديا هناك اشخاص تفعل ذلك من اجل الترند والشهرة ليس إلا، فنحن دولة مؤسسات ولدينا علماء على علم ودراية كبيرة قادرون على الفتوى بشكل علمى، وان هذا القانون مهم جدا خاصة في العصر الذى نعيشه، وفي نهاية حديثه اكد الدكتور عبد الغنى هندى، ان مصر بلد الازهر الشريف وسر استمراريته يكمن في فهمه الصحيح للإسلام، وهو فهم يتجاوز الفهم «الجماعاتي» أو الأيديولوجي، الأزهر يعتمد على منهج علمي موضوعي يركز على دراسة علوم الإسلام بعيدًا عن أي انحيازات سياسية أو أهداف سلطوية، هذه الحيادية جعلت الأزهر مؤسسة تعليمية وعلمية بحتة، لا تسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية أو الوصول إلى السلطة. الإتجار بالشرع أما الدكتور سعد الدين الهلالى استاذ الفقه المقارن بجامعة الازهر فيقول: الفتوى فقهية، ووصفها بالشرعية متاجرة بالشَّرع والدِّين، فالشَّرع الدِّيني وحي مُقدَّس من الله تعالى، وهو صدق كلَّه موصوف من الله تعالى بأنه «هدى ونور» وليس دستورًا أو قانونًا، والهُدى والنور متعدد الدلالات التي يكشف عنها الفقهاء المتخصصون في كل زمان ومكان، ويسمح بالتَّوقُّف عن العمل بالنَّص أو بعضه الذي حيل بينه وبين الواقع الحضاري المتجدد، مثل «ملك اليمين» و»كفَّارة عتق الرَّقبة» بعد حضارة إلغاء الرِّق وتجريم المتاجرة في البشر تكريمًا للإنسان، ومثل التَّوقُّف عن عقوبات قطع الأطراف والجلد والضَّرب بعد حضارة إلغاء العقوبات البدنية تكريمًا للإنسان، ونحو ذلك بسبب وصف النصوص الشرعية بالهدى والنور المرن بسعة الاجتهاد فيه ولو بالتَّوقُّف، بخلاف وصف تلك النصوص بالدستور أو بالقانون الجامد والمانع من الاجتهاد فيه. وحقُّ الاجتهاد في النصوص الشرعية مكفول لكلِّ مُكلَّف بحسب طاقته؛ حتى يتمكَّن كلُّ إنسان من اختيار الدلالة التي يعتقد مقام الله فيها علوًّا وعدلًا ورحمة بسلامة قلبه وطمأنينة نفسه. والإنسان غير المُخيَّر مرفوع عنه القلم؛ لأن الاختيار مناط التَّكليف أو الحساب يوم القيامة، ويكون اختيار كلِّ إنسان لنفسه في فقه دِينه لله - بعد بلوغه سنَّ الرُّشد - باجتهاده على قدر مبلغه من العلم والعقل، فالأكثر إلمامًا بعلوم اللغة والمنطق والمقاصد والأصول كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل يستطيع أن يختار من بين دلالات النصوص الشرعية المقدسة مباشرة، وهذا الاختيار واجب عليه، ومأجور به، ويوصف بالخطأ والصَّواب مع مقامه العلمي الكبير، ومن ثم فلا يُلزم غيره ومَن اقتنع به. أمَّا الفقير - أو حتى المُعدَم - في علوم اللغة والمنطق والمقاصد والأصول، والعاجز عن فقه النُّصوص الشَّرعيَّة المقدسَّة، فإنه يختار من بين فهوم أو فتاوى الفقهاء الأساتذة الفهم أو الفتوى التي يرى مقام الله فيها بفطرته الإنسانية وبقلبه السَّليم، وهذا الاختيار واجب عليه، ومأجور به، ويوصف - أيضًا - بالخطأ والصَّواب، فلم يختلف عن اختيار أصحاب الكعب العالي في العلوم الخادمة لفقه النصوص الشرعية المقدسة. وبهذا يمنع الإسلام استعباد أحد لأحد باسم الدِّين، فلا ولاية لفقيه - كما يقول أهل الشِّيعة - ولا ولاية للإفتاء - كما يسعى بعض أهل السُّنَّة - لمنع اختطاف الفتوى في دِين الله من صاحبها، فكلُّ واحد فقيه نفسه، كما يقول الإمام الشَّاطبي ت790ه في كتابه «الموافقات»؛ استدلالًا بقوله سبحانه: «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» (الإسراء: 13)، وبقوله تعالى: «بل الإنسان على نفسه بصيره» (القيامة: 14)، وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأكثر من صحابي - من آحاد الصحابة وعوامهم - منهم وابصة بن معبد وأبو ثعلبة الخشني وواثلة بن الأسقع: «لِتُفتك نفسك .. استفت نفسك استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك.. وإن أفتاك المفتون»، كما أخرجه أحمد وأبو يعلى. ولا يغتر أحد بعلم أحد أو فقهه فيتَّخذه إلهًا من دون الله، أو نائبًا عن الله في الأرض، والعياذ بالله، فاستقلال المسلم في دينه لله شرط لصحَّة إسلامه؛ كما قال تعالى: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء» (البينة: 5)، وأخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أن النبي صل الله عليه وسلم قال: «الأعمال بالنية ولكل امريء ما نوى». والويل لكلِّ من يدَّعي وصف فتواه الفقهيَّة بأنها دِينُ الله وشرعه المُقدَّس للناس، كما قال تعالى: «فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون» (البقرة: 79)، وأخرج مسلم من حديث بريدة بن الحصيب، أن النبي صل الله عليه وسلم كان يقول لأمير جيشه: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا». الاختلاف رحمة ويستطرد د.سعد الدين الهلالي قائلا: ومن هنا كان على أصحاب مشروع «تنظيم الفتوى الشَّرعية» أن يستجيبوا لله تعالى في قوله سبحانه: «لا إكراه في الدِّين» (البقرة: 256)، وإذا كان دِين الله لا إكراه فيه فإن فقه دينه لا إكراه فيه من باب أولى، ولهذا تعدَّدت الرُّؤى الفقهية أو الإفتائية عند الصحابة والتابعين والفقهاء في كل عصر، ولا إنكار في المُختلف فيه، وهذا الاختلاف رحمة بخلق الله، كما قال عمر بن عبد العزيز: «ما أحب أن أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولًا واحدًا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يُقتدى بهم، ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة»، كما أخرجه ابن عبد البر في كتابه «جامع بيان العلم وفضله». إن أصحاب مشروع قانون «تنظيم الفتوى الشَّرعيَّة» يسعون إلى إدارة المسلمين بعقل أحدهم على حساب عقول باقيهم، ويهدمون ميزة التَّعدُّديَّة الفقهيَّة التي تسع الجميع وترحمهم بالفتوى الأحاديَّة التي تسع البعض على حساب الآخر، وينكثون عهد الله الآمر بتعميم فقه الدِّين للجميع وبيانه المُتعدِّد لكلِّ الناس باسم الفتوى التي تكتم سائر الفتاوى الأخرى، فالفقه هو مجموع الفتاوى أو الآراء في المسألة الواحدة، والفتوى هي واحدة من تلك الآراء مع كتمان باقي الآراء، والله تعالى أمر بالفقه وليس بالإفتاء الذي اختصه لنفسه، فقال تعالى: «يستفتونك قل الله يفتيكم» (النساء: 176)، وقال تعالى: «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون» (التوبة: 122)، وقال تعالى: «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلًا فبئس ما يشترون» (آل عمران: 187)، وأخرج الشيخان عن معاوية أن النبي صل الله عليه وسلم قال: «مَن يُرِد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدِّين»، وأخرج أحمد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله - عز وجل - بلجام من نار يوم القيامة». القانون اقتصر أمر الفتوي على الجهات الرسمية الدينية حتى النشر في وسائل الإعلام يكون وفقا لبيان صادر من هذه الجهات، الجهات الرسمية صناعة بشرية حكوميَّة كانت أو أهليَّة بدعم حكومي، وليست بتفويض من الله تعالى، فهي تُترجم رؤيتها، وتتكلَّم باسم فقهها، وتُوصف فتاويها بالخطأ والصواب، فهي ليست معصومة، ولن تُغني عن أحد من الله شيئًا، وكلُّ مُكلَّف سيحاسبه الله تعالى فردًا، كما قال تعالى: «يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون» (النحل: 111)، وقال تعالى: «وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا» (مريم: 95)، وقال تعالى: «يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله» (الانفطار: 19)، وأخرج الشيخان عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمَّة رسول الله لا أغني عنكِ من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئتِ من مالي لا أغني عنكِ من الله شيئًا». وعلو المرتبة العلمية أو الفقهية للِّجان الإفتائية لا يمنحها العصمة الدِّينيَّة، ولا يُعطيها سلطة احتكار الفتوى في دِين الله، أو سلطة الولاية على الناس، فلن تكون تلك اللجان أوصل عند الله من أنبيائه ورسله الكرام الذين يُوحي إليهم، ومع ذلك فقد حدَّد الله مهامَّهم بما يمنعهم من امتلاك السُّلطة على الناس وحق اختيار كل مُكلَّف لدينه وفقهه، فقال تعالى: «ما على الرسول إلا البلاغ» (المائدة: 99)، وقال تعالى: «وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل» (الأنعام: 107)، وقال تعالى: «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر» (الغاشية: 21-22)، وقال تعالى: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف: 29). وقد ثبت بالتَّاريخ فشل جميع أنواع القمع الدِّيني الذي يتسبَّب في حروب وصراعات وفتن بين مَن يحترمون عقولهم وكرامتهم الإنسانية وبين مَن يَفرضون أنفسهم أوصياء على دِين الله، كما يتسبَّب في تنشئة جيل منافق لنفسه مع الله عند المستضعفين الذين يخضعون لأوصياء الدِّين خوفًا من سلطانهم، ويكفي التَّذكير بفتنة فرض فتاوى المعتزلة على الناس في عهد «عبد الله المأمون بن هارون الرشيد»، الذي أنشأ محاكم تفتيشيَّة دِينية لمعاقبة المخالفين لتلك الفتاوى، فصارت حياة الناس فتنة مدَّة خمسة عشر عامًا، استمرَّت في عصره حتى مات سنة 218ه-833م، وعصر أخيه الذي خلفه «محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد» حتى مات سنة 227ه-842م، وعصر أخيه الذي خلفه «هارون الواثق بالله» حتى مات سنة 232ه-847م ولم تخمد تلك الفتنة إلَّا بعد رفع يد السلطان عن أمور العقائد نهائيًّا في عهد «جعفر المتوكل على الله بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد» الذي تولَّى بعد «الواثق». وإنه إذا كان الهدف من قانون «تنظيم الفتوى» هو حماية المقاصد الخمسة الكلية وهي الدِّين والنفس والعقل والعرض والمال لكلِّ أحد ففي مقدور الدولة أن تُضيف إلى قانون الإجراءات الجنائية الجديد تجريمًا لأي فتوى ولو كانت موصوفة بالشَّرعيَّة أو بالدِّينيَّة الإسلامية أو غير الإسلامية التي تحضُّ على الكراهية أو ازرداء الآخر وتكفيره في دينه، أو تدعو إلى الإرهاب أو العصيان على القانون أو المساس بحقوق الآخرين وحرماتهم، وليس بتأسيس لجان وصائية على دين الله، التي منحها القرآن الكريم، وكفلها الدستور. ويتساءل د.سعد الدين الهلالي:هل الفتوي مسئولية المفتي أم مسئولية المستفتي؟ قول الفتوى مسؤولية القائل، والعمل بالفتوى مسؤولية الفاعل، فعلى سبيل المثال فإن من يُفتي بمقولة «وقوع أو احتساب الطلاق الشفوي للمتزوجين رسميًّا» مسؤول عن قوله بين يدي الله، وليس قوله هذا مُلزِمًا لأحدٍ سوى نفسه. فمَن أفتي بمقوله «استحلال دم أحد أو ماله أو عرضه» مسؤول عن قوله هذا بصفته مُحرِّضًا على هذا الاستحلال، وفتواه لا تُلزِم غيره، فمَن امتثل لهذه الفتوى كان مسؤولًا عن فعله بصفته مُباشرًا لجريمته، ولا تعذره تلك الفتوى. إن الفتوى ليست شرعًا ولا دِينًا مُقدَّسًا، وإنَّما هي رأي من آراء فقهية بشريَّة اختاره صاحبها بما يكشف ثقافته ومستواه العقلي ومقام الله في قلبه، ويكذب مَن يصف الفتوى الفقهية بالشَّرعيَّة المُقدسَّة التي تنطق بالعصمة أو بالحق المُطلق الكاشف عن مُراد الله، فحاش لله أن يطَّلع على مُراده أحد دون أن يكشف هو عن ذاته المُقدسَّة ما يريد، فهو القائل عن نفسه: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير» (الأنعام: 103)، وقال تعالى عن سيدنا عيسى: «تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب» (المائدة: 116). أمَّا شروط الفتوى فإنه يشترط على مَن يتلفظ بها أن يكون صادقًا أمينًا، فالمفتي الصادق هو مَن يذكر الآراء أو الفتاوى المُختلفة في المسألة موضوع الاستفتاء دون أن يكتم بعضها، والمفتي الأمين هو مَن ينسب كل رأي لصاحبه، فلا ينسب الفتوى أو الرأي للدِين أو للشرع أو حتى لنفسه إلَّا أن يكون هو أول مَن قالها في تاريخ المسلمين؛ فقد أخرج ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» عن عامر الشعبي، قال: اجتمعنا عند يزيد بن عمر بن هبيرة، الأمير الأموي في جماعة من قراء أهل الكوفة والبصرة، فجعل يسألهم حتى انتهى إلى محمد بن سيرين يسأله؟ فيقول له: «قال فلان كذا، وقال فلان كذا، وقال فلان كذا». فقال ابن هبيرة: قد أخبرتني عن غير واحد، فأي قول آخذ؟ قال: «اختر لنفسك». ويشترط على مَن يمتثل للفتوى أن يكون صادقًا مع نفسه أمينًا عليها، ويكون صدق الإنسان مع نفسه عند الامتثال للفتوى التي يطمئن إليها بقلبه الذي يلقى الله به فلا ينافق نفسه بالامتثال لفتوى يُنكرها قلبه أو يرتاب منها، وتكون أمانة الإنسان مع نفسه بالعمل بالفتوى المُطمئنة لقلبه في السِّر والعلن وإن خالفت فتاوى غيره دون المساس بحقه؛ فقد أخرج أحمد عن وابصة بن معبد، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البر وعن الإثم؟ فقال له: «البرُّ ما انشرح له صدرك، والإثم ما حاك في صدرك، وإن أفتاك عنه الناس»، وفي رواية: «يا وابصة: استفت قلبك واستفت نفسك، البرُّ ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك». اقرأ أيضا: «الوزراء» يتخذ قرارًا هامًا بشأن تنظيم إصدار الفتوى الشرعية ماذا لو دخل الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى؟ الذكاء الاصطناعي آية من آيات الله للإنسانية قد يُحسن الإنسان التعامل معها، وقد يُسيء التعامل بها، وهي في كلِّ حال مؤكِّدة للمسؤولية الفرديَّة للمُكلَّف الذي عليه أن يميز بين الصدق وبين الكذب بنفسه دون الاعتماد على غيره، ولن يُغني عنه وكالة مؤسسة أو لجان في صدق المحتوى الذي دخل الذكاء الاصطناعي مجاله. والفتوى من أوسع مجالات الذكاء الاصطناعي، فلم تعُد في مأمن غير قلب صاحبها؛ لتعلُّقها بالدِّين، فلا يأخذ أحد فتواه المتعلقة بأمر من أمور الدِّين سوى من قلبه الذي لا يخدع صاحبه ولا سلطان للذكاء الاصطناعي عليه، بخلاف أي فتوى صادرة من غيره، ولو كانت صادرة من مؤسسة أو لجنة رسميَّة فما أيسر تحريفها بالذكاء الاصطناعي.