مع بدء تكبيرات العيد قبل شروق الشمس تدب الحياة في الريف ويمتلئ الجو بهجة وسعادة فاليوم يوم استثنائي، وتكريمًا للصائمين على مشقة صيامهم شهراً كريماً، تتعالى الأصوات فى الشوارع فالجميع يعايدون بعضهم البعض، فكل أهل القرية تربطهم علاقات دم ونسب، يسارع أطفال القرية لارتداء ملابسهم الجديدة ويمنون أنفسهم بالحصول على عيدية كبيرة، ينفقونها على تأجير الدراجات والمراجيح البسيطة، وتناول الأطعمة السريعة والحلويات من أحد المطاعم المعدودة بالقرية، يتجمعون فى حلقات على المصاطب الطينية حيث يتباهى كل واحد منهم بحلته الجديدة ويضعون خططهم حول كيفية قضاء ذلك اليوم السعيد. ◄ المراجيح الخشبية تحتضن ضحكات الصغار ◄ صلاة في الساحات تجمع شباب ورجال القرية فى ألفة وتواد ◄ زيارة المقابر في الأعياد عادة متوارثة تحرص عليها النساء ■ فرحة العيد أما الأمهات وربات المنازل فخططهن معدودة وتنحصر في تهيئة المنزل لاستقبال المهنئين بالعيد، وإعداد ما لذ وطاب من العصائر والحلويات لتقديمها لأفراد الأسرة والزائرين المهنئين المباركين، كذلك رص الكحك البيتي في أطباق زاهية تزيده بهاءً وجمالًا، تتفاخر كل واحدة منهن بجودة وسر صناعته، ورائحته المعبقة بالسمن البلدى الفاخر، يرتدين العبايات أو الجلاليب المزركشة الجديدة وينتظرن قدوم رب الأسرة والأبناء من صلاة العيد كي يتناولوا الإفطار سويًا. إلا أن بعضا منهن يقرر زيارة المقابر قبل ظهور خيوط الصباح الأولى كما هى عادتهن السابقة فى كافة الأعياد، يتشحن بالسواد ويخرجن فى جماعات حاملات سلالًا مملوءة بالكحك البيتى والخبز الساخن، يوزعنها على شيوخ المقابر والفقراء رحمة ونوراً على الأحباب الذين غيبهم الموت، لا يتخلون عن هذه العادة الموروثة من جداتهن الفرعونيات فتختلط دموع الحزن مع دموع فرحة أول أيام العيد. بالطبع يختلف العيد فى الريف بمظاهره البسيطة وساعاته القليلة عن عيد المدينة والحضر، إلا أنه يشع دفئا ومحبة قلما تجدها فى مكان آخر. وهو ما رصدته «آخرساعة» فى قرية «ميت سهيل» التابعة لمركز منيا القمح بمحافظة الشرقية، ويتشابه مع أجواء العيد فى الكثير من القرى بريف مصر. ■ صلاة العيد ◄ اقرأ أيضًا | الفرحة مكتوبة على باب مصر| أعياد المصريين.. كريمة العنصرين ◄ صلاة في الساحات قبل قدوم العيد بأيام بسيطة يبدأ شباب القرية في تهيئة الخلاء لاستقبال مصلى العيد الذين يأتون من كافة شوارع وأزقة القرية، وعادة ما يكون أرضًا واسعة خالية توجد على أطراف القرية تكفى لاستيعاب عدد كبير من المصلين، فيعكفون على تنظيفها ورشها بالماء ويتناوبون على ذلك، كما يهتمون بتخصيص مصلى للنساء والفتيات كى يشاركنهم فرحة صلاة العيد، يستغل الشباب وسائل التواصل الاجتماعى وخاصة جروبات الفيسبوك ليعلنوا عن توقيت الصلاة والاحتفالات اللاحقة، يتبرع بعضهم بإحضار مجموعة من الهدايا والحلوى لتوزيعها على الأطفال بعد الصلاة. أما الرجال وكبار السن فيحرصون على الصلاة فيه بجلابيبهم الفلاحى الجديدة، لا يهتمون بالزحام أو التكدس، فما يهمهم التواد والتراحم بينهم، يصطحبون أبناءهم الصغار معهم كى يغرسوا فى نفوسهم أهمية صلاة العيد ودورها فى تقوية صلة الأرحام، تصدح أصواتهم بتكبيرات العيد وتتردد فى أرجاء القرية البسيطة كأنها سيمفونية ملائكية. وعلى مقربة منهم يصطف الشباب وصغار السن بجلابيبهم ناصعة البياض وروائحهم العطرة يتبادلون الحديث همسًا، ويتناقشون حول خططهم فى كيفية قضاء اليوم الأول من العيد، وهى عادة ما تبدأ بعد العصر حتى الساعات الأولى من صباح اليوم الثانى من العيد، يحرصون على التقاط الصور التذكارية بعد الانتهاء من الصلاة لتصبح واحدة من ذكرياتهم الغالية. يقول أحمد صلاح (طالب): يبدأ احتفالنا بالعيد من يوم الوقفة حتى الانتهاء من صلاة العيد، حيث يتجمع الأصدقاء للعب البلايستيشن وتبادل النكات وتناول الطعام السريع، أو السهر فى المقهى الوحيد الموجود بالقرية حتى صلاة الفجر، ثم نعود إلى المنزل للاغتسال والتطيب استعدادًا لصلاة العيد مشيرًا إلى أن يوم الوقفة يكون يومًا مزدحمًا بالأعمال سواء أكان حلاقة العيد أو تهيئة جلباب العيد عند أحد ترزية القرية. ويضيف أحمد: وبالطبع فإن واحدة من عاداتنا التى يحرص عليها كل الأجيال هو التزاور وتهنئة الأقارب والجيران بالعيد، فيسير رجال وشباب العائلة فى تجمع كبير ويطوفوا بمنازل الأقارب للتهنئة وتقديم العيدية للأطفال، فيسود جو من الحب والحميمية بين الجميع مؤكدًا أن التهنئة بالعيد تمتد حتى صلاة العصر. أما سعيد نوح (مزارع) فيقول: يختلف العيد فى القرية عن المدينة فمازال أهل الريف يحافظون على عاداتهم وتقاليدهم فى التزاور ونبذ الخلافات احتفالًا بتلك المناسبة الهامة، فتكتسى الشوارع والحارات بمظاهر الود والحب، ويخرج الجميع عن بكرة أبيهم لصلاة العيد إما فى الخلاء أو فى أحد المساجد، ويقابلون بعضهم بترحاب شديد، مشيرًا إلى أن هذه المظاهر من الصعب وجودها في المدن. ويضيف نوح أن احتفال رجال القرية بالعيد عادة ما يقتصر على ارتداء جلاليب جديدة وتوزيع العيدية على الأبناء والأقارب، وهناك البعض منهم يرتاد المقابر ليبدأوا عيدهم مع أحبائهم ويقرأوا لهم الفاتحة ويترحموا عليهم. ■ كحك العيد ◄ مراجيح وحلويات أما الأطفال فترتبط فرحتهم بفرحة الأعياد فرغم احتفالهم باليوم الأول فقط لكنهم يحاولون جعله يومًا مميزًا، فيخرجون ليلة العيد ويضعون خططهم المختلفة، لا يهتمون بتلبية نداء النوم الذى يداعب أعينهم، فيحلمون بقدوم صباح العيد، يمنون أنفسهم بالحصول على عيدية كبيرة تحقق لهم كافة أحلامهم. يبدأ برنامجهم مع إشراقة شمس العيد فيستحمون «حماية العيد» ويتهيأون للصلاة سواء مع الأب أو الأم، يتعجلون الحصول على العيدية ويطالبون بالمزيد من الجنيهات، فيخرجون لشراء أكياس المقرمشات والشوكولاتة التى من النادر أن يحصلوا عليها فى الأيام العادية، يتناولونها فى نهم ومتعة شديدة، يتحلقون حول بائعى الألعاب الذين يفترشون الأرض ويشترون واحدة منها، يملأون جيوبهم بالبمب ويلقونها فى الأرض مصدرة صوتًا عاليًا ينافس أصوات ضحكاتهم. يذهبون سريًعا إلى المراجيح الموجودة فى وسط القرية فلا يعرفون غيرها وينتظرون قدومها من العيد للعيد، وهى مجموعة من المراجيح الخشبية البسيطة وأخرى مصنوعة من الفيبر جلاس عبارة عن زحليقة يتدافعون عليها، وواحدة تشبه الطائرات الخشبية المثبتة بقواعد حديدية. يحجزون أدوارهم بصعوبة شديدة فالزحام يخنق الأجواء وقد يقضون يومهم كله ينتظرون السماح لهم باللعب، ينتشر بائعو المهلبية والترمس وغزل البنات حولهم فيضفوا على الأجواء بهجة وألوانًا زاهية. يقول عمر سعيد، تلميذ فى الصف الخامس الابتدائي: أنتظر قدوم العيد بفارغ الصبر فهو اليوم الوحيد الذى أشعر فيه بسعادة غامرة وأشترى كل ما أحلم بالحصول عليه من حلوى وألعاب، ويبدأ احتفالى بعد صلاة العيد حيث أدور بشوارع القرية مع أصدقائى ونشترى أكياس الشيبسى والبسكويت، وبعض الألعاب من البائعين الموجودين فى الشارع، مشيرًا إلى أن البعض منهم يشترى صواريخ العيد رغم تحذيرات الأهالى من خطورتها. ويتابع: إلا أن أغلب الأطفال يقضون وقتهم فى المراجيح فهى لا تأتى إلا فى الأعياد فقط، فنسرع لتجربة كافة الألعاب الخشبية والتهام غزل البنات والبوظة المثلجة، وهو ما يزيدنا سعادة. أما لين حازم (13 عامًا) فتقول: أخطط مع صديقاتى قضاء اليوم الأول من العيد فى التنزه بشوارع القرية وتناول الآيس الكريم والشوكولاتة بعد صلاة العيد مباشرة، كما نذهب للعب فى المراجيح والتقاط الصور التذكارية على هواتفنا المحمولة، مشيرة إلى أنها لا تفوت زيارة أقاربها وتهنئتهم بالعيد بهدف الحصول على عيدية كبيرة. وترى أن العيد فى القرية يختلف عن عيد المدينة أو العيد الذى تراه على شاشات التليفزيون حيث تمتلئ شوارع القرية بالأطفال والرجال من المهنئين، وتتعالى الضحكات ويكون الجميع فى بهجة. ويشير عبدالعزيز بيومى (مالك المراجيح): يعد العيد موسمًا لنا ونحرص على القدوم كل عيد إلى واحدة من القرى المختلفة فالأطفال ينتظروننا على أحر من الجمر، ورغم قلة عدد المراجيح وإمكانياتها البسيطة إلا أنها تخلق بداخل الأطفال فرحة وسعادة غامرة، مشيرًا إلى أنه استقدم واحدة من المراجيح الحديثة المصنوعة من الفيبر جلاس ذات أدوار عالية كمضاهاة للألعاب المودرن. ◄ كحك ومقابر لا شك أن فرحة الأمهات بالعيد تختلف بشكل كبير فهى فرحة ممتزجة بحزن على انتهاء الشهر الكريم واستعدادًا لأول أيام العيد، تبدأ الاستعدادات لاستقباله بأسبوع على الأقل وذلك بخبز الكحك فى المنازل، فتتحلق الجارات والقريبات بعد صلاة التراويح وحتى ساعة متأخرة من الليل ويقمن بإعداد الصاجات ورصها، وحشو الكحك بالعجوة والملبن، يتبادلن الأحاديث والضحكات، رائحة السمن البلدى والسمسم تتنشر فى الأجواء فتسيل اللعاب وتثير شهية البطون، ينهرن أطفالهن ويحذرنهم من الاقتراب من صاجات الكحك. يحرصن على تخصيص حصة من الكحك لتوزيعها فى المقابر فهى زيارة لا يستطعن تفويتها، كذلك تقديم طبق مملوء منه لمسحراتى القرية كمكافأة له على مجهوده طيلة شهر رمضان. وتقول أحلام نبيل (ربة بيت): نحتفل بقدوم العيد بخبز الكحك والبسكويت إما فى المنازل أو فى أحد أفران القرية فنقضى ليلة الوقفة بأكملها فى رص وتسوية الصاجات والتأكد من حلاوة طعمها، لنهرع بعد ذلك قبل شروق الشمس لزيارة المقابر وقراءة الفاتحة على أرواح الغاليين والدعاء لهم بالرحمة والجنة، مشيرة إلى أن الفقراء ينتظرون حصتهم من الكحك والفاكهة على أحر من الجمر.