لجنة المرأة بنقابة الصحفيين تصدر دليلًا إرشاديًا لتغطية الانتخابات البرلمانية    بعد التراجع الأخير.. أسعار الفراخ والبيض في أسواق وبورصة الشرقية الإثنين 10-11-2025    وزير المالية: بعثة صندوق النقد تصل قريبًا ومؤشراتنا مطمئنة    وزير الاستثمار: 16 مليار دولار حجم التجارة مع الصين.. ولدينا 46 شركة تعمل في مصر    10 آلاف تأخير و2700 إلغاء.. شركات الطيران بأمريكا تواجه أسوأ يوم منذ بداية الإغلاق الحكومى    زيلينسكي يكشف ما حدث خلال لقائه مع ترامب    واشنطن تضغط على إسرائيل لبدء المرحلة الثانية من خطة ترامب    «طلعوا الشتوى».. تحذير شديد بشأن حالة الطقس: استعدوا ل منخفض جوى بارد    حجز مدير كيان تعليمي وهمي للنصب على المواطنين وتزوير الشهادات    الزراعة: تحصينات الحمي القلاعية تحقق نجاحًا بنسبة 100%    «لاعب مهمل».. حازم إمام يشن هجومًا ناريًا على نجم الزمالك    «محدش كان يعرفك وعملنالك سعر».. قناة الزمالك تفتح النار على زيزو بعد تصرفه مع هشام نصر    السوبرانو فاطمة سعيد: حفل افتتاح المتحف الكبير حدث تاريخي لن يتكرر.. وردود الفعل كانت إيجابية جدًا    حدث ليلا.. مواجهات وملفات ساخنة حول العالم (فيديو)    الأهلى بطلا لكأس السوبر المصرى للمرة ال16.. فى كاريكاتير اليوم السابع    شيري عادل: «بتكسف لما بتفرج على نفسي في أي مسلسل»    عدسة نانوية ثورية ابتكار روسي بديل للأشعة السينية في الطب    السقا والرداد وأيتن عامر.. نجوم الفن في عزاء والد محمد رمضان | صور    اليوم.. العرض الخاص لفيلم «السلم والثعبان 2» بحضور أبطال العمل    اليوم..1283 مرشحًا فرديًا يتنافسون على 142 مقعدًا فى «ماراثون النواب»    التحول الرقمي.. مساعد وزير الصحة: هدفنا تمكين متخذي القرار عبر بيانات دقيقة وموثوقة    مواجهات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلى شمال القدس المحتلة    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الاثنين 10 نوفمبر    قطع التيار الكهربائي اليوم عن 18 منطقة في كفر الشيخ.. اعرف السبب    «الكهرباء»: تركيب 2 مليون عداد كودي لمواجهة سرقة التيار وتحسين جودة الخدمة    مساعد وزير الصحة: نستهدف توفير 3 أسرة لكل 1000 نسمة وفق المعايير العالمية    عاجل نقل الفنان محمد صبحي للعناية المركزة.. التفاصيل هنا    وفد أمريكي يعلن من بيروت استعداده للمساعدة في نزع سلاح حزب الله    ترامب يتهم "بي بي سي" بالتلاعب بخطابه ومحاولة التأثير على الانتخابات الأمريكية    طوابير بالتنقيط وصور بالذكاء الاصطناعي.. المشهد الأبرز في تصويت المصريين بالخارج يكشف هزلية "انتخابات" النواب    رئيس لجنة كورونا يوضح أعراض الفيروس الجديد ويحذر الفئات الأكثر عرضة    الطالبان المتهمان في حادث دهس الشيخ زايد: «والدنا خبط الضحايا بالعربية وجرى»    وفاة العقيد عمرو حسن من قوات تأمين الانتخابات شمال المنيا    «مش بيلعب وبينضم».. شيكابالا ينتقد تواجد مصطفى شوبير مع منتخب مصر    معسكر منتخب مصر المشارك في كأس العرب ينطلق اليوم استعدادا لمواجهتي الجزائر    مي عمر أمام أحمد السقا في فيلم «هيروشيما»    باريس سان جيرمان يسترجع صدارة الدوري بفوز على ليون في ال +90    «لا تقاوم».. طريقة عمل الملوخية خطوة بخطوة    أداة «غير مضمونة» للتخلص من الشيب.. موضة حقن الشعر الرمادي تثير جدلا    أمواج تسونامي خفيفة تصل شمال شرق اليابان بعد زلزال بقوة 6.9 درجة    ON SPORT تعرض ملخص لمسات زيزو فى السوبر المحلى أمام الزمالك    «لاعيبة لا تستحق قميص الزمالك».. ميدو يفتح النار على مسؤولي القلعة البيضاء    الكشف إصابة أحمد سامي مدافع بيراميدز    مساعد وزير الصحة لنظم المعلومات: التحول الرقمي محور المؤتمر العالمي الثالث للسكان والصحة    نشأت أبو الخير يكتب: القديس مارمرقس كاروز الديار المصرية    3 أبراج «مستحيل يقولوا بحبك في الأول».. يخافون من الرفض ولا يعترفون بمشاعرهم بسهولة    ميشيل مساك لصاحبة السعادة: أغنية الحلوة تصدرت الترند مرتين    البابا تواضروس ومحافظ الجيزة يفتتحان عددًا من المشروعات الخدمية والاجتماعية ب6 أكتوبر    محافظ قنا يشارك في احتفالات موسم الشهيد مارجرجس بدير المحروسة    3 سيارات إطفاء تسيطر على حريق مخبز بالبدرشين    تطورات الحالة الصحية للمطرب إسماعيل الليثى بعد تعرضه لحادث أليم    كشف ملابسات فيديو صفع سيدة بالشرقية بسبب خلافات على تهوية الخبز    نجل عبد الناصر يرد على ياسر جلال بعد تصريح إنزال قوات صاعقة جزائرية بميدان التحرير    هل يجوز الحلف ب«وحياتك» أو «ورحمة أمك»؟.. أمين الفتوى يُجيب    هل يجوز أن تكتب الأم ذهبها كله لابنتها؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    هل يذهب من مسه السحر للمعالجين بالقرآن؟.. أمين الفتوى يجيب    خالد الجندي: الاستخارة ليست منامًا ولا 3 أيام فقط بل تيسير أو صرف من الله    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إيمانويل سويدينبورج .. زيارة إلى الجنة حياة حقيقية مليئة بالنور
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 24 - 03 - 2025


أحمد الزناتى
أدينُ إلى خورخى لويس بورخيس، من بين أشياء أخرى كثيرة بالتعرف إلى اسم اللاهوتى السويدى الغامض إيمانويل سويدينبورج. فى قصة ملائكة سويدينبورج يشير بورخيس إلى أن الرجل اعتاد محادثة الملائكة والشياطين والملأ الأعلى، بل وزعم أنه عرج إلى السماء.
ولبورخيس قصيدة عنه يقول فيها:
أطول من غيره، كان هذا الرجل
يمشى بين القوم، عن بُعدٍ،
ينادى الملائكة بين الحين والآخر
بأسمائهم الخفية.
كان يرى
ما لا تراه العين البشرية
وكان يواصل سرد
الحقائق التى لا تبدل، عن النهاية الأخيرة.
لكنى لما واصلت البحث وجدت أن لسويدينبورج حضورًا أعمق فى أعمال بورخيس مما اعترفت به الدراسات الأكاديمية حتى الآن. أحصى أحد الباحثين ويُدعى ويليام رونالدسون فى كتابه (Borges, Swedenborg and Mysticism, Peter Lang AG 2013) قرابة خمس وتسعين إشارة إلى سويدينبورج فى أعمال بورخيس، وقسَّم فهرس أعمال الأخير إلى خمسة أقسام، كما كتب عنه بورخيس مقالةً (لم تُترجم فى اعتقادى للعربية إلى اليوم: راجع Testimony to the Invisible: Essays on Swedenborg, Chrysalis Books; First Edition (October 1, 1995))، عنه أورد منها السطور التالية:
«فى محاضرته الشهيرة عام 1845، ذكر المفكر الأميركى الكبير رالف والدو إمرسون، الباطنيّ السويدى إيمانويل سويدينبورج كأحد أبرز رموز العرفان الغربي، متأملًا فى تلك الكلمة التى قد توحى بأن الصوفى هو من يبتعد عن صخب الحياة، ينعزل عن ضغوطاتها ويسكن فى عالمه الخاص.
ولكن، لو أن سويدينبرج كان كذلك، لما كان لوجوده معنى. سويدينبورج، على عكس هذا التصور، كان يعتنق الحياة بكل تفاصيلها، بأتراحها وأفراحها، بتعقيداتها وآلامها. لم يكن الهروب من العالم هو بيت القصيد عنده، بل كان السعى الأسمى فى فهمه، فى التفاعل مع أعماق الوجود، فى الاكتشاف المستمر لكل ما هو مجهول، وفى الالتقاء المستمر بين السماء والأرض، بين الروح والجسد.
كالبوذا رفض سويدينبورج الزهد المفرط، ذلك الذى يحد من قدرات الإنسان ويقلل من طاقته الخلاقة. فقد رأى فى عزلة الراهب الذى اتخذ الصحراء مأوى أن تلك العزلة لن تقوده إلى السماوات العُلا. بل كان يعتقد أن قمة النضج الروحى تكمن فى الانغماس الكامل فى الحياة، فى أن تفتح عينيك على كل ما يحيط بك، وتتعامل مع العالم بذكاء وحب وعقل مفتوح.
فالحياة، فى نظره، ليست مجرد تجربة عابرة، بل رحلة مستمرة من البحث والفهم، ويجب أن نغمر أنفسنا فى تفاصيلها دون هرب منها. وفى رؤيته، لم يكن التصوف فى الانعزال عن البشر، بل فى الإبحار العميق بين طبقات الوجود المختلفة، فى محاولة لربط السماء بالأرض، والروح بالجسد، والمادى بالروحي. كانت هذه هى الطريقة التى عاش بها سويدينبورج ، ساعيًا إلى إدراك الحقيقة الكبرى عبر العالمين: عالم العقل وعالم الروح».
سأعرِّف قليلًا بالرجل؛ إيمانويل سويدينبورج (1688-1772) عالم ومخترع وفيلسوف، عُرف بمؤلفاته التى تربط بين التجارب الروحية والعلوم الطبيعية. فى مرحلة متقدمة من حياته، بدأ سويدينبورج يشعر بتجارب روحانية عميقة، حيث زعم أنه كان يتلقى رؤى مباشرة عن الحياة بعد الموت وحالات الأرواح فى السماء والجحيم. هذا الكتاب يُعتبر أحد أعمق أعماله، حيث يناقش فيه معانى الحياة بعد الموت والأسرار التى تكشفها السماء عن حياتنا الأرضية.
يُعد «أسرار السماء» بأجزائه من الكتب الأساسية فى فكر سويدينبورج، وله تأثير عميق فى عديد من الحركات والشخصيات الروحية والفكرية (وليام بليك، جوته، بودلير، ك.ج. يونج وغيرهم).
يعكس الكتاب رؤية متكاملة عن كيفية ارتباط الروح بالجسد والعلاقة بين السماء والأرض. يقدم العمل عِبراً روحياً وفلسفياً يمكن للعديد من الناس أن يجدوا فيه إجابات حول الأسئلة الكبرى المتعلقة بالحياة والموت.
وأسرار السماء أول عمل نشره سويدينبورج بعد أن أخذت حياته منعطفًا دراميًا فى منتصف العمر. كان قد حقق بالفعل مسيرة مهنية بارزة كعالم وفيلسوف ومهندس، وكذلك مشرف حكومى على صناعة التعدين فى وطنه السويد. لكن بينما كان يكتب وينشر هذا العمل الأخير، خضع لهزة روحية عميق.
ومن بين بوادر هذا التغيير كانت حيوية أحلامه خلال تلك الفترة (من يوليو 1743 إلى ديسمبر 1744)، التى سجل أحداثها العجيبة فى عمله غير المنشور يوميات الأحلام. وقد منحها أهمية كبيرة، حيث حللها بعناية فى يومياته. ومن منتصف هذه الفترة تقريبًا، فى عيد الفصح 1744، شهد رؤية قوية للمسيح.
دون مزيد من استطراد سأنقل فى السطور التالية فقرات من رحلة سويدينبرج السماوية، التى زعم فيها زيارة الجنة وقدَّم وصفًا عجيبًا لما رآه:
(رأيت فى السماء قصورًا فاخرة مهيبة للغاية لدرجة أنها عصية على الوصف بالكلمات. كانت الطوابق العليا منها تلمع كما لو كانت مصنوعة من الذهب الخالص، والطوابق السفلى كما لو كانت مصنوعة من الأحجار الكريمة.
وكان كل قصر يبدو أكثر روعة من الذى قبله. وكان الحال نفسه داخل القصور. كانت الغرف مزينة بزخارف رائعة إلى درجة تعجز معها كلمات البشر أو فنونهم أو معارفهم على وصفها.
من الجانب الذى يواجه الجنوب، ثمة حدائق تفيض بكل شيء مشرق متلأليء ، هنا وهناك الأوراق كالفضة، والثمار كالذهب، بينما كانت الزهور فى أسرّتها تصنع أقواس قزح حقيقية بألوانها. وعلى أفق النظر كانت هناك قصور أخرى تُحيط بالمشهد. رأيت عمارة السماء على هذا النحو، بحيث يمكن أن نطلق عليها جوهر الفن نفسه—ولا عجب فى ذلك، لأن الفن نفسه يأتينا من السماء.
وفى قصور الجنة غُرف كما قلتُ، ولكل غرفة وظيفة مخصوصة. فثمة غرفة مخصصة للذة الانشغال بالعمل، وغرفة النهوض بالوظيفة المطلوبة، وفى غرفة أخرى لذة الحديث والمسامرة، وفى رابعة لذة التواجد مع الزوج أو الزوجة، وفى خامسة لذة تناول الطعام، وفى سادسة لذة التواصل مع الأحباء الذين فارقونا فى الدنيا.
فى عالم الجنة تنبض الأشياء بالحياة والجمال بطريقة تفوق الخيال. وكأنها تتخذ شكلًا من النور الإلهى الأعظم الذى لا يستطيع الإنسان العادى إدراكه، حيث لا تدركه الأبصار المادية.
هناك، فى الأجواء السماوية التى يعيش فيها المباركون والصالحون، تلتقى الأنوار بألوان فائقة، فتصير الأجواء ساطعة مثل قطع ألماسٍ يتلألأ، وجواهر تشرق بأنوارها، ولؤلؤٍ متوهجٍ من الداخل. يعكس كل ذلك حياة حقيقية، حياةً حية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث يراها الأرواح كما لو كانت من صنع الخالق القدير، مليئة بالنور، لا توازيها أيّ تجربة مادية يمكن أن يختبرها الإنسان على الأرض.
ومن بين هذه الأنوار البهية تظهر روضات الجنات ، التى تحمل أشجارًا رائعة، وأزهارًا أبهى مما يمكن أن يتخيله عقل. تتلون تلك الحدائق بالحياة فى أبهى صورها، فكل شجرة وكل زهرة وكل شعاع ضوء يتسلل من خلالها، يحمل معناه الرمزي. ولقد شهدتُها بنفسي، حيث تجلت أمامى جمالاتها فى صور لا يمكن وصفها بالكلمات؛ من أشعة الضوء التى تتداخل وتتماوج كما لو أنها تُعيد تشكيل مفهوم الجمال ذاته.
وفى تلك السماء المتلألئة تظهر أقواس قزح التى تضيء الأفق وتزينه بأنوارها، وكأنها رسائل سماوية تروى قصة الروح فى سعيها نحو السمو. ليست هذه الأقواس مجرد ظاهرة طبيعية، بل هى بمثابة انعكاس النور السماوي، الذى يحمل فى طياته رمزًا عميقًا لكل ما هو روحي، وكل ما يرتبط بالحب والإيمان، فى تجسيد حيّ للحياة بعد الموت.
وفى هذه البقاع السماوية مدنٌ لا نظير لها، تتألق قلاعها وتسطع بألوانها، محطِّمة كل تصور ممكن لما يمكن أن تكون عليه العمارة فى عالمنا الأرضي. تبهر تلك المدن الناظر وتجعله يشعر وكأنه يشاهد نسخة سماوية من الجمال المطلق.
كانت هناك رؤى لأورشليم الجديدة، كما وصفها يوحنا فى رؤيته، فظهرت أمامى بألوانها الباهرة وحجرها الكريم الذى يزين كل زاوية فيها، كأنما تتجسد فى شكلها كل معانى النقاء والجمال الروحي.
وفى تلك الأوقات، كنت أشاهد تلك العناصر الزخرفية المدهشة فى القصور والمنازل، والتى كانت تتحرك كأنها كائنات حية، تتجدد باستمرار، تتجدد فى كل لحظة لتلائم حركة الروح نفسها.
وكل زاوية، وكل تفصيل، وكل جزء من هذه المنازل، كان يحمل فى طياته رسالة من الرب، تجسد الحياة الروحية وتفيض بالنور.أما عن المنازل التى تسكنها الأرواح الطيبة، فهى بحق عالم آخر. لا يمكن مقارنة المنازل الأرضية بتلك التى تسكنها الملائكة، التى لا تقتصر على الجمال الخارجى فقط، بل تمتزج فيها الحياة الروحية بكل ما تحمله من قوة ونعومة، بحيث يصير الحجر والخشب فى نظرهم أشياء ميتة، بينما كل شيء يتصل بروح الرب القدير، مفعم بالحياة.
ليست هذه البيوت الفردوسية مجرد مأوى، بل هى تجسيد حيٌّ للروح الإلهية، تتناغم مع حواس الأرواح والملائكة، وتستجيب للطبيعة الروحية التى تحيط بها.
ذلك هو العالم السماوى الذى يتجلى فى أبهى صور الجمال والتجدد المستمر، حيث تتناغم الأشياء وتتماوج لتشكل لوحة من النور والروح، لا نهاية لها، يتجدد فيها الإيمان والحب فى كل لحظة، كما لو أن كل شيء هناك يردّد صدى الحياة الأبدية.
يحتوى الكون على أسرار السماء، وكل جزء من الكون مقرون بالحب الإلهى والحكمة، السماء، اتحاد السماء والأرض، الفهم الصحيح، وجميع طرق فعل الخير؛ لكننا لا نرى هذا فى المظهر السطحى لحياة الأرض. على السطح، نرى فى الأساس أن العالم مرهون إلى حد كبير ببقائنا الجسدي.
مع ذلك فالحقيقة أن كل جزء من أجزاء الكون مشحون برسالة داخلية. وإنْ لم نبحث، فمن غير المحتمل أن نلاحظ ذلك، لأن الجوهر لا يظهر بسهولة على المظهر. هكذا إرادة الله.
كل محجوب فيه سر. ونحن نبقى جاهلين بحقيقة أن كل تفصيل، حتى أصغر ذرة غبار— حتى أصغر جزيء دون ذري—يرمز إلى مسائل روحية وسماوية؛ وبسبب نقص هذه المعرفة نفتقر أيضًا إلى الاهتمام أو الوعى بقداسة موطننا.
ومع ذلك، يمكننا أن نصل إلى فهم صحيح إذا أمعنّا النظر إلى فكرة واحدة: منبع الكون هو الحب الإلهى والحكمة، وبالتالى لا يمكن أن يوجد إلا إذا كان يحتوى بداخله على أشياء تتعلق بالسماء، اتحاد السماء والأرض، وفهم الخير وفعله.
من أين إذن تأتى الحياة؟ من حقيقة أن كل شيء فى العالم متعلق بالحب الإلهى والحكمة الإلهية من وراء إيجاد هذا العالم، وكل ما لا يعكس الحب الإلهى والحكمة على مستوى أعمق، هو خلوّ من الحياة فى الواقع، إذا لم يكن حدث واحد فى العالم يجسد أو يعكس الحب الإلهى والحكمة بطريقته الخاصة، فإنه ليس حيًا بحق.بدون هذه الحياة الداخلية، الكون فى مظهره الخارجى ميت. يشبه ذلك الإنسان، حيث أن الإنسان له ذات خارجية وداخلية.
الكائن الخارجي، إذا فُصل عن الداخلي، هو مجرد جسد وبالتالى ميت. إنها الذات الداخلية التى تعيش حقًا وتسمح للذات الخارجية أن تعيش) (انتهى الاقتباس).
نلاحظ فى الفقرة السابقة أن المؤلف انتقل من وصف الجنة كما رآها وقصورها وغرفها ومبانيها إلى الحديث عن الحكمة الإلهية، وهو من دأب اللاهوتيين القروسطين ومن بعدهم، لأن الغرض ليس فى الأساس مجرد تقديم وصف للفردوس السماوي، وإنما استنهاض همّة البشر للتفكر فى عالم الملكوت.
يرتبط شكل الجنة/الفردوس فى المخيلة الإنسانية بالوردة لأسباب لم أستطع الوصول إليها، ولا غرابة أن اختار محرّر نسخة هذا الجزء الذى ترجمتُ الفقرات السابقة صورة الوردة على غلاف الكتاب.
فى نهاية الكوميديا الإلهية يتخيّل دانتى أن الفردوس على شكل وردة هائلة تضمّ حبيبته بياتريس، وقال بورخيس – والعهدة على مارجريت أتوود فى كتابها محادثات مع الموتى- إن دانتى كتب الكوميديا الإلهية برمتها لاستحضار روح بياتريس من العالم الآخر.
فى النص القرآنى الكريم نقرأ : (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان) (سورة الرحمن: آية 37)، وهذه هى المرة الوحيدة التى ذُكر فيها اسم الوردة فى النص القرآني. وذلك فى إشارة إلى يوم الدينونة والحساب وانكشاف الحُجب.
ولئن كان المثالان مختلفين، إلا أن المشترك أن الحياة الأخرى متصلة – بشكل أو بآخر– بشكل الوردة. أما فى التراث العربي/الإسلامي، والعرفانى منه على الأخصّ، يتحوّل مجاز الوردة إلى أيقونة تدور حولها معظم أشعار العرفان والغزليات، سواءً العربيّ منها أم الفارسي.
تخصص الباحثة الألمانية الكبيرة آنا مارى شيمل (1922 – 2003)، فصلًا من كتابها "الجميل والمقدّس – دراسات، ترجمة عقيل عيدان، الدار العربية للعلوم ناشرون 2008)، تتناول فيه الورود فى الحضارة الإسلامية. تورد شيمل نصوصًا دينية (أحاديث نبوية وغيرها)، ترجّح فكرة أنّ الوردة مخلوق سماوى أخروي، لا علاقة لها بالأرض وأهلها، فتشير إلى حديث نبوي، رواه الشاعر الفارسى روزبهان البقلى (الشهير بالمصري)، جاء فيه: كلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم وردةً، قبّلها ووضعها على عينيه، وحديث نبوى آخر يقول: «الورد الأبيض خُلِقَ مِن عَرَقى ليلة المعراج، وخِلقَ الورد الأحمر من عَرَق جبريل» (لم أعثر على متن الحديث النبوى ولا مصدره).
وللعارف الفارسى روزبهان المصرى تجربة صوفية مع الورد، تقترب فى مجازها مع فردوس كوميديا دانتى الإلهية. شاهد روزبهان تجلى الحضور الإلهى فى شكل سحابٍ من الورد الأبيض والأحمر، لامع شاسع كنور وردة سماوية. لاحظتُ شيمل أيضًا فى كتابها أنّ الولع بالورد – مجازًا وحقيقة- تجاوز الحد عند بعض الشخصيات التاريخية، الذى اعتبروا أنّ الورد أمرٌ موقوفٌ على الخاصة، دون العامة.
ولو أننا رجعنا إلى وصف سويدينبورج للجنة لوجدنا مواطن شبه كثيرة بين وصفه للفردوس (وعلى حد علمى لم يطّلع سويدينبورج على القرآن الكريم أو وصف الجنة فيه) وبين وصف التنزيل الحكيم للجنة.
نقرأ فى الآية 20 من سورة الزمر (لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) ويقول سويدينبورج: وكان الحال نفسه داخل القصور. كانت الغرف مزينة بزخارف)، ونقرأ فى الآية 10 من سورة الفرقان: ( تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا)، ويقول المؤلف: رأيت فى السماء قصورًا فاخرة للغاية لدرجة أنها عصية على الوصف بالكلمات)، كما أن أوصاف سويدينبورج حول أن أوراقها من الذهب وثمارها من الفضة لا يختلف كثيرًا عما ورد فى الأثر وفى أحاديث النبى الأكرم حول وصف الفردوس.
سيبرز السؤال: هل كان سويدينبورج دجالًا أفاقًا فى رؤاه أم أنه رأى الفردوس السماوي؟
الحقيقة أن تأمل تاريخ التجارب الروحية يشير إلى ما يسمّى بفكرة الخيال الخلاق، أى القدرة على شحذ ملكات العقل الباطن للقيام بهذه الرحلات، كما نرى فى أسلوب التفكير البوذى عند طائفة الزِن، أو يوجا التانترا، أو السَكْرَة الصوفية وتجارب راهبات/ شاعرات القرون الوسطى (هيدليجارد فون بنجين، وتيريزا الأفيلية)، وثمة من يذهب إلى أن كافكا استلهم تراث القبالاه العرفانى وهو يكتب رواية القصر.
ودون مزيد من الإسهاب يمكن للقاريء العودة إلى ما كتبه المرحوم د. هنرى كوربان حول فكرة الخيال الخلّاق عن محى الدين بن عربى وأسفاره الروحية بالقلب، وسوف يعثر على تفاصيل مذهلة متصلة بهذه الأسفار السماوية، أما فى الفكر الغربى فقد أشرتُ إلى تجارب مماثلة فى كتابى هكذا تكلم ك.ج.يونج، لا سيما فى الفصل الأخير ودراستى المطولة عن الخيال الخلاق بين محى الدين بن عربى ويونج.
فى الإنسان دافع إلى الدندنة حول أسرار المقدّس والإلهي، وفى نفسه طموح متزايد إلى تجاوز تلك المحطة القصيرة المُسماة بالحياة الأرضية، ومن السفه وضيق الأفق أن يُنكَر على أحد بذل تلك المحاولات، لأنها صادرة عن ألمٍ عميق وفضول أصيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.