وزير السياحة يتابع الاستعدادات النهائية لتشغيل منظومة التأشيرة بالمطارات    مؤشرات الأسهم الأوروبية تغلق على ارتفاع بدعم نتائج إنفيديا    ستارمر يستعد لزيارة الصين ولندن تقترب من الموافقة على السفارة الجديدة بدعم استخباراتي    السلطات الأوكرانية: هجوم روسي على زابوريجيا يسفر عن مقتل خمسة أشخاص    البيت الأبيض: ترامب يصدر أمرًا لتعديل الرسوم الجمركية المفروضة على البرازيل    مصطفى بكري يكشف تفاصيل سرقة الإخوان لنصف مليار دولار من تبرعات غزة(فيديو)    أمين عام مجلس التعاون الخليجي يستنكر التصعيد الإسرائيلي في سوريا    فرنسا: على إسرائيل الانسحاب من مرتفعات الجولان واحترام سيادة سوريا    ستاد المحور: جلسة مرتقبة في الزمالك لتجديد عقد عمر عبد العزيز    ستاد المحور: الاتحاد السكندري يقترب من استعارة يوسف أوباما من بيراميدز في الميركاتو الشتوي    التأكيد على دعم المنتخبات.. تفاصيل اجتماع وزير الرياضة بهاني أبو ريدة    مصر تستضيف الجمعية العمومية للاتحاد الدولي للإنقاذ وسط إشادة دولية بالتنظيم    مصرع 4 أشخاص إثر حادث تصادم سيارتين بالبحيرة    مصرع شخص وضبط 2 آخرين في تبادل لإطلاق النار مع قوات الأمن بقنا    مي سعد وأحمد الدنف وناهد السباعي يفوزون بجوائز جيل المستقبل ضمن فعاليات أيام القاهرة لصناعة السينما    قوات الاحتلال تتوغل في قرية الصمدانية الغربية بريف القنيطرة بسوريا    غلق باب الطعون الانتخابية بعدد 251 طعنا على المرحلة الأولى بانتخابات النواب    عرض "الملك لير" ل يحيى الفخراني في افتتاح مهرجان أيام قرطاج المسرحية    تطعيم 352 ألف طفل خلال الأسبوع الأول لحملة ضد الحصبة بأسوان    خبير دولي: قرار الأمم المتحدة انتصار رمزي للقضية الفلسطينية ويعكس الدعم المصري التاريخي    طرابلس.. تأسيس الهيئة العليا للرئاسات لتوحيد القرار الوطني الليبي    الهيئة الوطنية للانتخابات تعلن رسميا انطلاق التصويت بالخارج من دولة نيوزيلندا    حقيقة إلغاء انتخابات مجلس النواب وتأجيلها عام كامل؟.. مصطفى بكري يكشف الحقائق    حنان الصاوي تكتب : دورة عاشرة بروح عالمية.. مهرجان شرم الشيخ الدولي يزهر المسرح في سيناء    هل تؤثر عدم زيارة المدينة على صحة العمرة؟ أمين الفتوى يُجيب(فيديو)    هل يوجد عذاب للقبر؟.. أمين الفتوى يجيب    هل التأمين على الحياة حلال أم حرام؟.. أمين الفتوى يجيب    ثلث القيمة يختفى فى أسابيع |انهيار قياسى للعملات المشفرة    احتفالية مستشفى الناس بحضور سفراء ونجوم المجتمع.. أول وأكبر مركز مجاني لزراعة الكبد بالشرق الأوسط "صور"    أطعمة تعيد التوازن لأمعائك وتحسن الهضم    أول رد من عائلة محمد فوزي على إدعاء كريم الحو في «The Voice» | شاهد    «سمات روايات الأطفال.. مؤتمر مركز بحوث أدب الطفل تناقش آفاق فهم البنية السردية وصور الفقد والبطل والفتاة في أدب اليافع    الداخلية تضبط صاحب فيديو «عصا البلطجة» بالجيزة    فقرة بدنية في مران الزمالك قبل مواجهة زيسكو    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 20نوفمبر 2025 فى المنيا    الوكيل: تركيب وعاء أول مفاعل نووي ينقل مشروع الضبعة من مرحلة الإنشاءات إلى التركيبات    رئيس كوريا الجنوبية: أحب الحضارة المصرية وشعبنا يحبكم    محافظ الفيوم يوجه بسرعة رفع مخلفات الطبقة الأسفلتية القديمة بشارع عدلي يكن لتيسير الحركة المرورية    تعفن الدماغ.. دراسة تكشف علاقة مشاهدة الريلز باضطراب التركيز والذاكرة    محافظ القليوبية يُهدي ماكينات خياطة ل 15 متدربة من خريجات دورات المهنة    إيقاف بسمة وهبة وياسمين الخطيب.. الأعلى للإعلام يقرر    الجبهة الوطنية يكلف عبد الظاهر بتسيير أعمال أمانة الجيزة عقب استقالة الدالي    شركة مياه القليوبية ترفع درجة الاستعداد للمرحلة الثانية من انتخابات النواب    خدمة في الجول - طرح تذاكر مواجهة نهائي المرتبط بين الأهلي والاتحاد    مجلس الوزراء يُوافق على إصدار لائحة تنظيم التصوير الأجنبي داخل مصر    محافظ الأقصر يوجه بتحسين الخدمة بوحدة الغسيل الكلوى بمركزى طب أسرة الدير واصفون    أسهم الإسكندرية لتداول الحاويات تواصل الصعود وتقفز 7% بعد صفقة موانئ أبوظبي    التضامن: نخطط لتحويل العاصمة الجديدة إلى مدينة صديقة للأطفال    تموين القليوبية: جنح ضد سوبر ماركت ومخالفي الأسعار    جثة طائرة من السماء.. مصرع شاب عثروا عليه ملقى بشوارع الحلمية    السبت المقبل.. «التضامن» تعلن أسعار برامج حج الجمعيات الأهلية    الرقابة المالية تصدر ضوابط عمل لجنة حماية المتعاملين وتسوية المنازعات في مجال التأمين    والده ل في الجول: أشرف داري لا يفكر في الرحيل عن الأهلي    سبورت بيلد: صلاح هو المشكلة الأكبر أمام تألق فيرتز في ليفربول    نائب وزير الخارجية يجدد دعوة أبناء مصر بالخارج للتوجه إلى صناديق الاقتراع    طقس الإسكندرية اليوم: ارتفاع تدريجي فى درجات الحرارة.. والعظمى 27 درجة مئوية    جامعة بنها تحافظ على مكانتها ضمن أفضل الجامعات عالميًا في تصنيف التايمز للتخصصات البينية 2026    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وهمُ التّاريخِ وحقائقُ السّرد التّخييلى
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 22 - 03 - 2025


سعيد بنكراد
هناك الكثيرُ من الوقائِعِ التى تكشِفُ عن هشَاشةِ الحدودِ بين التّاريخِ والتّخييلِ. فهُما معاً من طبيعةٍ سرديّةٍ، إِنَّهمَا تَمثِيلٌ لِزمنِيَّةٍ لا يُمْكِن أنْ تَحضُرَ فِى الوعْى إِلَّا مِن خِلَال رصْدٍ دقيقٍ لتفاصيلِ خبرةٍ إنسانيّةٍ قابلَةٍ للسّردِ. فقد يكونُ النّاسُ مُنشدّين إلى حقائقِ وجودِهم، ولكنّهم مع ذلك، يُسْنِدون الكثيرَ من مُثُلهم وقيمِهم إلى شَخصيّاتٍ لا تَعيشُ إلّا فى مخيّلتِهم. فرجب وأحمد عبد الجواد وعنترة العبسى كائناتٌ من التّخييلِ حقّاً، ولكنّها تُشكّلُ فى ذاكرةِ قُراءِ الرّوايَةِ والشّعرِ نماذِجَ للصّمودِ والمقاومةِ والذكوريّةِ المفرطةِ والفروسيّةِ والعِشقِ المُسْتَحيلِ. «فجميعُها وغيرُها تَعيشُ بيننا فى استقلالٍ عن النصِّ وعن العوالمِ المُمكنَةِ التى وُلدَتْ فيها، وقد نَجِدُ أحيانا صعوبةً كبيرةً فى التّفكيرِ فيها خارجَ واقِعنا».
وقد تكونُ هذه الهشاشةُ أيضاً هى التى جعلَتْ نسبةً كبيرةً من الأطفالِ البريطانيّين يَعتقدونَ فى «واقعيّةِ» شارلوك هولمز، ولكنّهم يشكّكون فى حقيقَةِ تْشرشل فى السجلِّ التّاريخىِّ، فالدّفءُ الإنْسانى فى الأوّلِ كان أقوى بكثيرٍ من مَردوديّةِ الثّانى فى الحقلِ السياسى. لقد تَسلّل هولمز إلى تَفاصيلِ حياةِ النّاسِ فى الواقعِ، فهو عندهم رمزٌ للذّكاءِ والنّباهةِ ودقّةِ التحرّى، بينما ظلَّ تشيرشل حبيسَ وقائعَ تاريخيّةٍ لا يَذْكُرها النّاسُ إلا فى المدارِسِ ومُدرّجاتِ المعاهدِ والجامعاتِ. يُوحِى هذا التّداخلُ بإمكانيّةِ وجودِ تطابقٍ بين ما يُمكنُ أنْ تَبْنيه كلماتُ التّخييلِ، وبين ما يُوجدُ فى حقيقَةِ الواقعِ. فنحنُ لا نَذهبُ إلى الأشْياءِ فى حقيقتِها، وإنّما نفعلُ ذلك من خلالِ تمثُّلاتِنا عنها، وذاك ما تَحتفِظُ به ذاكرتُنا.
لذلك لن تَقولَ اللُّقى الأثريّةُ وبقايا الحياةِ التى كشفَ عنها الحفريّون إلا القَليلَ عن شرطِ السّابقين عنّا فى هذه الأرضِ، فالزمنيّةُ فيها تشكو من خصاصٍ فى التّشخيصِ. إنّ العودةَ إلى المحكيّاتِ وحدَها يُمكُن أنْ تَبعثَ الرّوحَ فيها وتُخرِجَها من صمتِ المفاهيمِ الواصِفةِ لها. وهذا ما يُؤكدُ « أنّ روايةً جيّدةً قد تَشتمِلُ على حقائقَ كثيرةٍ تفوقُ بكثيرٍ تلك التى يمكنُ أنْ نَعثُرَ عليها فى كتابٍ سيئٍ فى التّاريخ». وهى صيغةٌ أخرى للقولِ، إنّ حقائقَ الأدبِ أطولُ عمراً وأشدُّ تأثيراً من تلك التى تُبنى فى التّاريخِ.
ومعنى ذلك أنّنا لا نَنظرُ إلى ما يُبْنىَ فى التّخييلِ باعتبارهِ أكاذيبَ خالصةً، ولكنّنا لا نَجزِمُ أنّ التّاريخَ لا يأتى سوى بالحقائِقِ أيضاً. فلا وجودَ لتخييلٍ يَبْنى عوالِمَه فى انفصالٍ كلّى عن عوالِمِنا، ولا وجودَ أيضاً لتاريخٍ خالِصٍ يُبْنَى فى المفاهيمِ والوقائعِ وحدَها.
ففى الحالتين معاً ليس هناك سوى السّردِ، فهو وحدَه قادرٌ على ضبطِ إيقاع الوقائعِ فى الزّمنِ، وهو ما يحدّدُ كمَّ الحقائقِ فيها. وذاك هو الفاصلُ بين ما يُمكنُ أنْ يُصاغُ فى تخييلٍ يُعيدُ للشّخصيّاتِ «لَحْمَها ودمَها»، وبين ما يُوصفُ ضمن قاعدةٍ تمثيليّةٍ لا نَحتفِظُ منها سوى بالاسمِ والوظيفةِ والكُنْيةِ.
تُعدُّ الأولى كائناتٍ تَتمتّعُ بدفءٍ إنسانى، أمّا الثانيّةُ فليستْ سِوى أشباحٍ. وتلك صيغةٌ أخرى للقولِ، إنّ حقائِقَ التّخييلِ تُولدُ وتَنمو وتنْدثرُ على هامِشِ الزمنيّةِ المألوفَةِ، أمّا شخصيّاتُ التّاريخِ، فإنّها تَظلُّ أسيرةَ شرطِها الزّمنى. «هناك تَداخُلٌ بين زمنيّةٍ تاريخيّةٍ مودَعةٍ فى الوجودِ الكونى، وبين زمنيّةٍ تتحكّمُ فيها تنويعاتُ التّخييلِ».
وذاك صنيعُ الرّوائيين أيضاً. لقد سرّبَ نجيب محفوظ فى ثلاثيّتِهِ الكثيرَ من وقائعِ التّاريخِ فى محكيّاتٍ أعادَ بناءَها فى التّخييلِ. لم تكنْ هذه الرّوايةُ، بالتّأكيد، تاريخاً، ولا يُمكنُ تَصنيفُ أحداثِها ضمنَ الذّاكرةِ التّاريخيّةِ لشعبِ مصر، ومع ذلك كانَ عالمُها محاصراً فى تفاصيلهِ وأحكامِه بزمنيّةٍ تاريخيّةٍ لا يُمكنُ إنكارُها: إحالاتُه الدائمةُ على حاراتِ القاهرةِ وأزقّتِها، وإحالاتُه على الأحزابِ وأسماءِ الملوكِ والزعماءِ السياسيّين، والفنّانين والمظاهراتِ، والمطالبةِ بالاستقلالِ.
وهناك أيضاً أنماطُ العيشِ واللّباسِ والسّلوكِ الاجتماعى والقيمِ الأُسَريّةِ. لقد كانت الرّوايةُ تصِفُ محيطاً مألوفاً فى ذاكرةِ القارئِ، فالأشياءُ والكائناتُ الموصوفةُ فيها كانت جزءاً من تجربتِه الحياتيّةِ.
يتعلّقُ الأمْرُ فى جميع هذه الإحالاتِ بمصالحةٍ بين ما يُمكنُ أنْ يُصدِّقَ عليه التاريخُ فعلاً، وبين ما لا تُثْبِتُه سوى الكلماتِ التى تَصِفُه. يَندرجُ الأوّلُ ضمن إثباتٍ يُدَوَّنُ فى الذّاكرةِ الفعليّةِ بامتداداتهِ فى سلوكِ النّاسِ. أمّا الثّانى فلا يُشكّلُ سوى عالمٍ ممكنٍ موطنُه التّمثيلُ السّردى وحدَه.
فكمالُ والآخرونَ فى الرّوايةِ لا وجودَ لهم الّا فى التّخييلِ، أمّا حاراتُ القاهرةِ وأزِقَّتُها فموجودةٌ فى حقيقةِ الواقعِ. لذلك لا يُكلِّفُ الروائى نفسه عناءَ تَبريرَ ما يصفُ، «وليس على المؤرّخِ نقلَ الواقعِ نقلاً أميناً أيضاً، بل عليه فقط شرحَه». إنّ قارئَ الرّوايةِ يُؤمنُ بما يَقرأُ، إنّه يَضعُ ثقتَه فى كَلماتِ الرّوائى، أما فى التّاريخِ فإنّه يبحثُ عن معنى الأحداثِ فى ذاكرةِ الوقائِعِ ذاتها.
لقد كان سعد زغلول فى الرّوايةِ كائناً واقعيّاً، أى وُجدَ ضمنَ وقائِعَ سجّلها التّاريخُ حقّاً، أما أحمد عبد الجواد فلم يكن سوى شخصيّةٍ من صُنعِ خيالٍ جامحٍ. لقد «استَعانَ» به الروائى من أجلِ منحِ الزّعيمَ السياسى حياةً فى التّفاصيل الواقعيّةِ، أى مَنْحِه دفئاً إنسانيّا لا يَقولُ عنه التّاريخُ أى شىء.
لقد وَضعَ بذلك روايتَه ضمن إكراهاتِ المعيشِ اليومى دون أنْ تفقِدَ صلتَها بالتّاريخِ المحلى والكونى. وذاك كانَ سبيلَ الذّاتِ السّاردَةِ إلى الذّهابِ إلى التّاريخِ عبر مُمْكناتِ التّخييلِ. وهذا معناه «أنّ النّصوصَ التّخييليّةَ لا تَضعُ قِصّتَها فى عالمٍ مختلفٍ كليّاً عن عالمِنا، وإن كانت تَروى خرافاتٍ أو محكياتٍ من الخيالِ العلمى.
ففى الحالةِ التى تَتحدّثُ فيها عن غابةٍ مثلاً، فإنّ هذه الغابةَ ستكونُ بالضّرورةِ شبيهةً بالغاباتِ التى نَعرفُها فى عالمِنا، حيثُ الأشجارُ نباتاتٌ وليستْ معادنَ».
إنّنا ننتَقلُ من المعاينةِ المحايدةِ إلى التّشخيصِ السّردى. إنّ المجرّدَ المفهومى خالٍ من الأحكامِ ولا زمنَ فيه. فالظّلمُ فى الأرضِ لا تُجسّدُه مفاهيمُ تَصفُه وتُحيطُ بمضْمونِه، إنّه يُودَعُ فى محكيّاتٍ تَروى تَفاصيلَه فى حياةِ النّاسِ.
فمن الوقائِعِ البسيطَةِ التى تُشيرُ إلى أشكالِه، كما يَعيشُها أفرادٌ مَعزولون نَبْنى تاريخَ الظّلم ِالإنسانى فى الأرضِ. لذلك نُظِرَ إلى «التّاريخِ باعتبارِه روايةً كانتْ، أما الرّوايةُ فهى تاريخٌ كان من المُمكنِ أنْ يَكون». فحيثُ يَتوقّفُ عملُ المؤرّخِ يَبدأُ عملُ الرّوائى، إنّ ما يَظلُّ «مُهمَلاً» أو ما لم يَنتبِهْ إليه المؤرّخُ أو تجاهَلَه أو لا يُعدُّ عُنصراً «مهمّاً» فى القِصّةِ، هو ما يُعيدُ الرّوائى صياغتَهُ فى التّخييلِ. «فحيثُ لا يُوجدُ سردٌ لا يُوجدُ تاريخٌ أيضاً»، كما يقول كروتشى.
وهى صيغةٌ أخرى للقولِ، إنّ الروائى لا يَبحثُ عن معنى موجودٍ بشكلٍ سابقٍ فى الوقائِعِ المسرودَةِ، بل يقومُ ببنائهِ ضمن هذه الوقائعِ ذاتِها، فى حين تَتّجهُ غاياتُ المؤرّخِ إلى تحويلِ كلّ الوقائعِ إلى مفاهيمَ صامتةٍ، أى إلى معانٍ. إنّ الوَصفَ التّاريخى لا يَكتَفى بمحاكاةِ أفعالٍ، بل يُمْسكُ بدلالاتِها أيضاً، فذاك ما «يُغذّى التّداخلَ بين التّاريخِ باعتبارهِ محكيّاً لوقائعَ سجَّلتها الذّاكرةُ، وبين التّاريخِ باعتبارِه نشاطاً فكريّاً».
أمّا الروائى فيتحرّكُ حراً بين وقائعَ يَعرفُها جميعُ النّاسِ، وبين أخرى هى من صُنْعِ خيالهِ. فيَكفى أنْ يَصفَ الأكواخَ المهترئةَ لكى يُدركَ النّاسُ معنى الفقرِ، ويكفى أيضاً أنْ يأتى على ذكرِ عَلَمٍ من السيَاسةِ أو الفنّ أو الدّينِ لكى يستحضرَ القارئُ لحظةً فى التّاريخِ.
بعبارةٍ أخرى، يتعلّقُ الأمر بالكشفِ عن حقائِقَ لا تَكشِفُ عن نفسِها من خلالِ مفاهيمَ تعيّنُ وتُسمى، بل من خلال نشاطٍ سردى يَستعيدُ سلوكاً تمّ فى الواقِعِ. فالسّردُ شرطُ الزمنيّةِ وهو الدالُّ عليها، «إنّه حاضرٌ فى الرّوايةِ، كما هو حاضرٌ فى التّاريخِ أيضاً. إنّ الفاصلَ بينهما هو» الكمُّ المودَعِ فيهما»». وهو «ما يَعنى أنّ ما يُميّزُ القَصصَ «التّاريخيّةَ» عن القَصصِ «التّخييليّةِ» هو مُحتواها لا شكلُها». ذلك أنّ الحقيقةَ ليست دائما برهنةً علميّةً، والكينونةُ تعبِّرُ عن نفسها بطرقٍ متعدّدةٍ. إنّ التّجربةَ الحياتيّةَ قد تُبنَى أيضاً على هامشٍ زمنيّةِ التّاريخِ الفعلى. لذلك قد يكونُ التّخييلُ ذاتُه «أداةً موجّهةً إلى بلورةِ معرفةٍ تخصّ العالمَ».
وهذا معناه، أنّ الزّمنيّةَ ليست فى الواقعةِ، إنّها تُصبُّ فى المحكى الذى يُشخِّصُها، فمن خلاله تُصبحُ مرئيّةً فى سلوكِ النّاس حيث الحنينُ إلى ما مضى أو التّوق إلى ما سيأتى وحيث النّدم والترجّى. إنّنا نَقِى أنْفسَنا من التّلفِ والضّياعِ من خلالِ نسْجِ محكيّاتٍ دالّةٍ على وجودِنا فى الزّمن. فتجربةُ الزّمنِ تُقاسُ على التّفاوتِ القائمِ بين زمنيّةِ الحكْى وبين زمنيّةِ الأحداثِ المحكيّةِ. إنّنا، من خلال ذلك، لا نُحيى تجربةً ولّت ولن تَعود أبداً، بل نُفسّرُ ما يَحدُثُ الآن استناداً إلى ما حدثَ قديماً أو ما كان من الممكنِ أن يقعَ.
استناداً إلى ذلك، ستَظلُّ الشّخصيّاتُ التّخييليّةُ ثابتةً فى الذّاكرةِ، كما رَسَمها خيالُ الرّوائى، فذاك ما يمنَعُنا من التّشكيكِ فى «حقيقتِها»، فى حين تتميّزُ شخصياتُ التّاريخِ بتحوّلاتِها فى التّدوينِ التّاريخى، فهى تَعيشُ فى ذاكرةِ المؤرّخِ حسب ما تُمِدّه به الوثائقُ والشّهاداتُ، ووفقَ ما يعودُ إلى موقفِه مما يَسردُ أيضاً: هناك من يَرى فى السّلطان مولاى إسماعيل طاغيةً عاش بالدّماء، وهناك من يرى فيه ملكاً مؤسّساً لإمبراطوريّةِ مازالت ممتدّةً فى التّاريخِ المعَاصِر. وقد نظرَ الأتراكُ العَلمانيّون إلى كمال أتاتورك باعتبارِه بطلاً قوميّاً، فهو مؤسّسُ تركيا الحديثةِ، ولكنّه كان فى نظرِ الإسلاميّين هو من أسْهمَ فى القَضاءِ على دولةِ الخلافَة الإسلاميّةِ. يَندرجُ هذا التّفاوتُ ضمن ما يُسمّيه هايدن وايت «الانخراطَ الإيديولوجىَّ» للمؤرّخِ، فالذى يكتبُ نصوصاً فى التّاريخِ لا يَستطيعُ خلاصاً من قناعاتِه فى الدّين أو السياسةٍ.
وتلك هى طبيعةُ السّردِ فى التّخييل والتّاريخِ على حدٍّ سواء. إنّه مَطاطى وعُرضَةٌ لِتأْويلاتِ المتلقِّى ومسبَقاتِه فى الحكمِ على الأحداثِ، إنّه جُزْءٌ أساسى من ذَاكِرةٍ محشوّةٍ بِالوضْعيَّاتِ الشّبيهةِ بمَا يُسْرَدُ وَيُوصَف فى المحكيّاتِ التى احتفظتْ بها الذّاكرةُ الجماعيّةُ.
وذاك سبيلنُا إلى استحضارِ ما وقع قديماً. إنّ السّردَ يُحيى ويُميتُ ويملأُ كلَّ الفَجواتِ التى تَستَعْصى على الضّبطِ التّاريخى أو تُفلِتُ من سلطانِه. وهو أيضاً ما يُمَكّنُنا من استِعادةِ ما ضيّعناهُ فى زمنٍ «نَفعىٍّ» لا نَنْتبِه إليه إلّا فى النّادرِ من الحالات.
وبذلك وجبَ النّظرُ إلى حياةِ النّاسِ باعتبارِها «نصوصاً» سرديّةً تُرْوى فى المحتملِ، وتكونُ بذلك قادرةً على استيعابِ لحظاتِ الأزْمةِ والاحْتِباسِ والقَطائِع والتحوّلاتِ المفاجئِة. فذاك ما يُمكِّنُنا من خلقِ روابطَ دائمةٍ بين الماضى والحاضِر. إنّ «الماضى ليس شيئاً آخر غير ما نَودّ تذكُّرَه»، كما يقول سارتر.
وهذا معناهُ أنّ وجودَ الخطابِ التّاريخى ذاتِهِ لا يُمْكِن أنْ يَستقِيم إِلَّا إِذَا اسْتطَاعَ تَخلِيصَ التَّجْربةِ الموصوفَةِ من مرجعيّتِها الزمنيّةِ المباشرَةِ وتحويلِها إلى خبرةٍ قابلةٍ للتّعميمِ. «فالتّاريخُ لا يحتفظُ إلا بالوقائعِ الجديرةِ بالتذكّر» (شيشرون). والجديرُ بالتّذكّرِ ليس نسخةً معزولةً، بل هو نموذجٌ عامٌّ لخبرةٍ تضمُّ داخلَها ما تحقّق أو كان من الممكنِ أن يتحقّقَ فى سلوكاتٍ مفردةٍ: إنّ الحبَّ لا يتحوّلُ إلى قيمةٍ مجرّدةٍ إِلَّا إِذَا تَخلَّص مِن كلِّ الحِكايَات المخصوصةِ للعاشِقِ، حينها يُصْبِحُ دالًّا على قصّةِ العشقِ كما عاشها كلُّ العشّاقِ فى الأرضِ.
وهذا ما يؤكّدُ أنّ المفْهومَ يحتاجُ دائمًا إِلى مَا يُصدِّقُ على مضْمونِه، ولكنّ الأفعالَ أيضاً لنْ تُصبحَ حدثاً إلا ضمنَ مآلٍ بعينِه، ما يُمكنُ أنْ يَندرجَ ضمن كرونولوجيا موجّهةٍ إلى بناءِ قصّةٍ. لِذَلك لا يَستقِيمُ السَّرْدُ التّاريخى إِلَّا إذا كان أفُقُهُ مَفاهِيمَ مجرّدةً تُخْبِر عن حَقِيقَةٍ موْضوعيَّةٍ تَخُص مَرْحَلةً بِعيْنِهَا (خلاصاتُ المُؤرخِ وأحْكامُه)، فِى حِين لا يَحْتاج السَّرْد التَّخْييلى إِلى ذلكَ، فَهُو يَحتَفِى بما يُبْنى فى المحكى دون اهتمامِ بِمرْجعيَّاتٍ قد لا يلتفتُ إليها القارئُ أبداً. وذاك مَا يَفصِلُ بَيْن المفْهومِ والوَجْه الحدَثى، إِنَّ المفْهومَ مُجرَّدٌ وَعَامٌّ ومُشْتركٌ، أَمَّا الحدثُ فمخصوصٌ لا يستمدُّ معناه إلّا من المحكى الذى يَحتَضنُه، إنّه وثيقُ الصّلةِ بالفعلِ.
لذلك كان الحدثُ فى التّاريخ مصدراً للكثيرِ من المحكيّاتِ فى السّردِ: اختُطِفَ المهدى بن بركة يوم 29 أكتوبر سنة 1965 فى أحدِ شوارعِ باريس فى الحى اللاتينى، وذاك هو الحدثُ فى التّاريخِ. ولا أحدَ يَعرفُ بالتّدقيقِ يوم تصفيّتِه واليدَ الآثمةَ التى قامتْ بذلك. واستناداً إلى هذا الحدثِ التّاريخى تناسلتْ محكيّاتٌ كثيرةٌ كانت جميعُها تَضعُه ضمن «حِبكةٍ» مخصوصةٍ حاولتْ السّلطةُ بكلِّ الوسائلِ التّشويشَ عليها، بما فيها تسميّة الشّوارعِ باسمه، وحاولَ أتباعهُ، استناداً إليها، إرساءَ قواعدَ قصّةٍ تُدينُ القتلةَ والآمِرَ بالقتلِ. إنّها مجموع القصصِ التى أصبحتْ مع مرور الزّمنِ جزءاً من تاريخِ السّلطةِ ومن تاريخِ اليَسار السياسى فى المغرب: القصصُ التى تُدين القتلَ والقتلةَ وتلك التى تنفيه أو تُبرّرُه.
وذاك ما يُميِّزُ الذّاكرةَ الدينيّةَ أيضاً فى تَعامُلِها مع وقائعِ التّاريخِ. فعددٌ كبيرٌ من صحابَةِ الرّسولِ وتابِعيه تَحوّلَ إلى شخصيّاتٍ فيها من التّخييلِ ما قد يُغطّى على وجودِها الحقيقى. فكلُّ الوقائعِ التى تَعودُ إليها هى احتفاءٌ بالدّينِ لا وصفٌ لقوّةِ الإيمانِ عند الصّحابةِ والتّابعين. يتعلّقُ الأمرُ بهوياتٍ تُضافُ إلى سجلّهم المدنى، إنّها تتبلوَرُ حسب ما تتطلّبه تعاليمُ الدّينِ، لا استناداً إلى تفاصيلِ حياتِهم فى حقيقَةِ التّاريخِ. فعمر بن الخطاب فى ذاكرةِ العامّةِ لا يُحيلُ على شخصٍ فى التّاريخِ، بل هو رمزٌ للعدْلِ «المطْلقِ».
وهو أمرٌ يُشيرُ إلى أنّ الذّاكرةَ التّخييليّةَ لا تُلْغى وقائعَ التّاريخِ، بل تَتعاملُ معها وفقَ تَوجيهاتٍ عقَديّةٍ مُسبقَةٍ قد تَدفَعها إلى إعادةِ صِياغتِهَا فِى شَكْل اِسْتعاراتٍ تَختَفِى فِى الغالبِ فِى تَفاصِيلِ المحكى. إنّها تُضمِّنُها نَفَساً سرديّاً يَضعُها فى قَلبِ «الزّمنِ الدينىِّ». فهذا الزّمن ليس «نفعيّاً»، إنّه ذكرى دالّةٌ على البدءِ والنّهايةِ التى يَسيرُ الإنسانُ نحوها بإصرارٍ.
إنّ السّردُ احتفاءٌ بزمنيِّة تتحقَقُ فى المُمكنِ الحياتى، لا فى زمنيّةِ الوقائعِ التّاريخِيَّةِ وحدَها. إنّها نسبيةٌ تؤجّلُ الحكمَ أو تعلّقُه أو تقلّصُ من مَداه.
وتلك إشارةٌ إلى أنّ التّاريخَ يبعثُ الحياةَ فى وقائعَ من الحياةِ قد لا يُنكِرُها النّاسُ، فى حين «تَقتَرحُ علينا الرِّوايةُ شكْلاً آخر للواقعيّةِ يكون قادرًا على اِسْتثارة تفاصيلَ حياتيّةٍ ووصْفِ شخصياتٍ وأماكِنَ من كلّ نوعٍ، وذاك ما يُمكِّنُها من التَّسلُّلِ إِلى الرُّوحِ الإنْسانيَّةِ والإحاطةِ بمضمونِها. إنَّ الرِّوائى، مثَلهُ فى ذلك مثلُ التّشكيلى فى علاقَتِهِ بالرّسمِ والألوانِ، يُحاولُ هو الآخرُ خلقَ تَطابُقٍ بين الكلِماتِ والأشياءِ».
إنّ التّاريخَ مُحاصرٌ بتجربةٍ زمنيّةٍ لم يخترْها المؤرّخُ، إنّها مِلْكٌ للزّمنِ الكونى، أمّا الروائى فحرٌّ فى اختِيارِ ما يَشاءُ منها حسب ما تَقتَضيه حِبْكةُ السّردِ التّخييلى. ومع ذلك لا تختلِفُ مَهمّةُ المؤرّخِ عن مهامِ الروائى، فهو أيضا يقومُ ببناءِ عالمٍ استناداً إلى وقائعَ تُقدّمُها وثائقُ خامٌ. لذلك لا يُمكُن تأويلُ وقائعِ التّاريخِ والتّخييلِ فى انفصالٍ كُلّى عن القصدِ الخاص للمؤرخِ والروائى.
يدلُّ هذا على أنّ معنى الحدَثِ يُستمَدُّ من القِصّةِ لا من العناصرِ التى تُكوّنه، أى يُبنى فى السّردِ. فهو قد يُستَعمَلُ فى قَصصٍ متعدّدةٍ تُبنى وفق غاياتٍ توجدُ خارجَه. وهذا ما يَقومُ به اليوم دعاةُ «الموريّة» المزعومةِ فى بِلادِنا. إنّهم يَلتقِطون من أرْشيفِنا ومن أرشيفِ غيرنا وقائعَ وأحداثاً مفصولةً عن سياقِها فى الزّمنِ من أجلِ بناءِ قصةٍ لا يُمكنُ أنْ تُوجدَ إلا فى فرضيّاتهم، أى فى مخيّلتهم. إنّهم يُقدمون للنّاسِ أمّةً تنبعثُ من العِرْقِ لا من حَقائقِ التّاريخِ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.