تسلم والدى قرار فصلى من المدرسة واصطحبنى معه إلى البيت ويومها أقسم أكثر من مائة يمين بعدم دخول الصحف أو المجلات إلى بيتنا - قال لى الأستاذ إحسان عبد القدوس قبل رحيله: «أمى صنعت منى هذا الرجل» ما أعظمك يا أستاذ إحسان وأنت تتغنى بالمرحومة الوالدة وكيف كنت فى بطنها وأنت فى الشهر التاسع وهى تدق بقدميها على خشبة المسرح، فعلا الوالدة-رحمها الله-كانت حديث مصر كلها ولها بصمات على صدر الصحافة المصرية وعلى حزب الوفد، وكم من رؤساء تحرير صحف تعلموا فى مدرستها مدرسة «روز اليوسف» وكون أن يأتى ذكرها العاطر ومصر تحتفل بيوم عيد الأم فهذا تكريم لسيرتها الطيبة. - الحوار الذى بدأ بينى وبين المرحوم الكاتب العظيم إحسان عبد القدوس كان بمناسبة يوم أن عرضت عليه فكرة مسابقة الأم المثالية لمصر وطالبت بأن نحتفل بالأم المثالية لمصر فى يوم عيد الأم خشية أن يضيع حق كاتبنا الكبير المرحوم الأستاذ مصطفى أمين صاحب فكرة عيد الأم، فقد جاء حظه وهو فى السجن من ينادى بإلغاء عيد الأم واستبداله بعيد الأب.. إحسان عبد القدوس أول من عارض هذا وأول من أيدنى فى إقامة مسابقة يشترك فيها كل أبناء مصر ويختارون لمصر كل عام أما مثالية فى عيد الأم حتى يبقى عيد الأم وتبقى أحسن هدية من مصطفى أمين لأمهات مصر. ◄ أمنية أم أنيس منصور - وأذكر يومها أن طلب منى الأستاذ إحسان عبد القدوس أن أنشر شروط مسابقة الأم المثالية لمصر، وطلب الأستاذ إحسان من الأستاذ أنيس منصور والذى كان وقتها رئيسا لتحرير مجلة «آخر ساعة» أن يعطينى مساحة لمسابقة الأم المثالية لمصر، وفى مداعبة من الأستاذ إحسان للأستاذ أنيس فى التليفون سأله هل كانت والدتك راضية عنك وأنت كاتب صحفي؟ أم كانت تتمنى أن تراك فى شكل آخر؟، قال له أنيس: «أمى فلاحة بسيطة من المنصورة كانت تريد أن ترانى عسكرى مرور، فقال له إحسان: أنا عن نفسى تمنيت أن تكون أمى هى الأم المثالية لمصر»، ويوم أن أطلعنى الأستاذ صبرى على رسالة الشاب المصرى المنصورى مجدى أبو المعاطى الذى قام بترشيح أمه أما مثالية لمصر، ويحكى عن تبرعها بجزء من عظام ساقها بارتفاع 10 سم لدعم ساقى الكسيحة حتى وقفت على قدماى والتحقت بكلية طب المنصورة وتخرجت فيها طبيبا أخصائيا فى جراحة العظام حتى أكون داعما لوالدتى أمينة الشرقاوى التى فازت بلقب الأم المثالية لمصر عام 1975 ومنحها الرئيس الراحل أنور السادات «وسام الكمال» ومنحتها جريدة «أخبار اليوم» رحلة لأداء فريضة الحج هى وزوجها، كما منحها محافظ الدقهلية شقة بالدور الأرضى بعد إجراء العملية وتبرعها بجزء من عظام ساقيها لابنها الكسيح. - هذه كانت حكاية الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس مع مسابقة الأم المثالية التى أصبحت مصر تحتفل بها كل عام وبقى عيد الأم رغم أنف الجميع باسم كاتبنا الكبير مصطفى أمين وساما على صدر كل أم مصرية وليصبح عيدا قوميا تحتفل به مصر كل عام. ◄ جعلت منى صحفيا - وكان من نصيبى أن أكتب مقالا بعده تحت عنوان «أمى جعلت منى صحفيا» نشرت فيه قصة حبى وانتمائى للصحافة، وكنت وقتها طالبا فى مدرسة فاروق الأول الثانوية بالعباسية، وكانت بداية المقال تحكى عن دور أمى معى وكيف تحدت والدى فكانت تشترى لى جريدة الأخبار يوميا دون علم والدي.. - أمى سيدة بسيطة لا تقرأ ولا تكتب ورغم ذلك كانت تحب الصحافة ولم يكن فى حسابها أن أكون صحفيا. كانت تحرص كل صباح على شراء «الجورنال» لى وأنا ما زلت تلميذا فى المرحلة الابتدائية، وقد لاحظت أننى لا أقرأ فيه إلا الحوادث، فطلبت منى أن أهتم بأخبار بلدى رغم أنها لا تفهم فى السياسة. - أما والدي«رحمه الله»فكان يعارض أمى فى تصرفاتها معي، وكثيرا ما كان يشترى لى مجلة «البعكوكة» حتى انصرف عن قراءة الحوادث اليومية، فقد كان يخشى أن أتأثر بها نظرا لحداثة سني، ولكن أمى أقنعته ونجحت فى أن يستمر دخول «الجورنال» إلى بيتنا كل صباح.. وأذكر عم حسين بائع الجرائد الذى كان يأتى لنا «بالجورنال» عرض على والدى أن يعطينا كل صباح جرائد «المصرى والأساس والبلاغ» على أن يستردها بعد قراءتها مقابل 20 قرشا فى الشهر، رحبت أمى بالفكرة، ولكن والدى فى هذه المرة تمسك برأيه. - وعندما انتقلت إلى المدرسة الثانوية «فاروق الأول بالعباسية».. أصدرت مجلة على حسابى وأطلقت عليها اسم «نداء الطلبة» وعينت نفسى رئيسا لتحريرها.. كنت أطبعها فى مطبعة بميدان «فاروق سابقاً» الذى يعرف بميدان الجيش الآن.. وكانت تكلفنى ثمانى جنيهات عن الألف نسخة، وكان إيراد المجلة هو حصيلة اشتراكات من الطلبة. ◄ قرار فصل - كنت أعتبر نفسى أصغر رئيس تحرير فى مصر، وكنت أمارس عملى فعلا فى كتابة المقالات والانتقادات لدرجة أن ناظر المدرسة استدعى والدى يوما وسلمه قرار فصلى؛ لأننى هاجمت مدرس العربى فى المجلة التى أصدرها.. والتهمة التى اتهمته بها أننى تناولت شخصية مدرس العربى بالكاريكاتير وهو يقف بجوار سور الدارسة يلتهم سندوتش فول.. وكان دائما يدعى لنا أثناء حصة العربى أنه لا يأكل وأن وجبة الصباح عنده تتكون من زبدة و20 بيضة وطبق عسل نحل وكوب لبن. - المهم.. تسلم والدى قرار فصلى من المدرسة واصطحبنى معه إلى البيت ويومها أقسم أكثر من مائة يمين بعدم دخول الصحف أو المجلات إلى بيتنا، وبعد فصلى من المدرسة حدث احتجاج من زملائى التلاميذ الذين كانوا يكتبون فى المجلة التى أصدرها.. ذهبوا إلى الناظر واحتشدوا فى مكتبه وأعلنوا احتجاجهم على قرار فصلى وطالبوا بعودتى فورا. - تعاطف عدد من المدرسين معهم، وشعر ناظر المدرسة بحرج شديد، ولهذا استجاب لنداء التلاميذ الصغار، وشفاعة المدرسين وقرر عودتى إلى المدرسة بشرط أن أعتذر لمدرس العربي، كان قرار عودتى هو أحسن روشتة علاج كتبها زملائى التلاميذ باحتجاجهم لأمى التى حزنت لفصلى وفرحت بعودتى وجاءت أمى ولأول مرة تهمس فى أذنى وتستحلفنى بأن أبتعد عن الصحافة حتى لا يضيع مستقبلي.. وطبعا كانت تقصد أن اتخذ قرارا بوقف إصدار المجلة. - وكأى ابن فقد تظاهرت بأننى سوف أمتثل لندائها حتى تهدأ أعصابها وتطمئن.. ولكننى ازددت إيمانا وحماسا وقررت أن أصدر مجلة أخرى بجانب (نداء الطلبة) وأطلقت عليها اسم «المجد»، وخرجت المجلة دون أن تحمل اسمى فى العدد الأول منها.. وفزع ناظر المدرسة، فأرسل يستدعينى ليستفسر منى عن الشخص الذى أصدر هذه المجلة، وعندما علم أننى من أصدرها، أنذرنى وهددنى بالفصل إذا لم أتوقف تماما عن نشاطى فى العمل الصحفي. - فى هذه الفترة وبالذات أوائل سنة 1953 كانت هناك منظمات للشباب تتبع هيئة التحرير، وقد زارنا قائد منظمات الشباب فى المدرسة بمناسبة الاحتفال «بيوم الشجرة» فكتبت مقالا عنه فى مجلتي.. وإذا به يستدعينى ويطلب منى العمل معه صحفيا فى مجلة (الثورة) وهذه المجلة كانت تصدر كل يوم خميس وتباع فى الأسواق.. غمرتنى الفرحة لأن أمنيتى بدأت تتحقق حيث بدأت مقالات تنشر باسمى يحملها باعة الصحف.. أما والدى فقد هدد أمى بالطلاق إذا تركت المدرسة وعملت بهذه المجلة.. وكنت وقتها تلميذا فى التوجيهية «الثانوية العامة الآن». - وبقدر فرحتي.. كان حزنى على أمى التى تلقت قرار والدى وكان صدمة بالنسبة لها.. كان أمامى أن اختار إما العمل فى مجلة «الثورة» أو طلاق أمي.. وكيف أجمع بين المجلة وبين أمى فى وقت واحد، أحسست بالاختيار الصعب أنه موقف حساس.. هل تنتصر هوايتى على عاطفتى نحو أمي.. - ذهبت الى قائد منظمات الشباب أعتذر له، لأننى لا أريد أن أكون سببا فى طلاق أمي.. ووجدت الرجل متمسكا بي.. ووجه دعوة لوالدى الذى قابله وأقنعه أن منظمات الشباب لها فصول بالمدرسة الخديوية الثانوية، وجميع المدرسين الأوائل فى مصر يقومون بالتدريس فيها.. وسأحصل على التوجيهية وأكون من الأوائل، أخيرا.. وافق والدى بشرط أن أشعره فعلا بانتظامى فى الدراسة.. وهدأت أعصاب أمي.. وبدأت أرد لها شيئا من الجميل، لقد منحتها أول مرتب فى حياتى ورغم عدم احتياجها إلى الثلاثين جنيها التى تقاضيتها كمرتب إلا أنها كانت سعيدة أن ترانى وأنا صحفي.. ولكن صحفى صغير!!! - وفى سنة 1954 صدر قرار بحل منظمات الشباب وبالطبع أغلقت مجلة «الثورة» وكان هذا القرار صدمة لأمى لأنها تعلم مدى تأثيره فى نفسي.. المهم قامت الدولة بتوزيعنا على صحف الحكومة، وطلبوا منى أن أختار العمل فى جريدة الشعب، أو الجمهورية رفضت وفضلت أن أعمل فى صحافة أخبار اليوم مبتدئا.