وسط نيران حرائق كاليفورنيا تستقبل الولاياتالمتحدةالأمريكية رئيسها السابع والأربعين الذى سيتم تنصيبه الإثنين القادم، وسط متابعة حثيثة من الأوساط السياسية والاقتصادية والثقافية والبيئية وغيرها فى العالم أجمع، ودائما ما تبدو البلاد يوم تنصيب رئيسها في أوج قوتها الناعمة وبريق نظامها الديمقراطي، فيما يلتزم غالبا الرؤساء يوم تنصيبهم بتجديد الوعود والعهود مع الشعب الأمريكي مع دعوات لإسهام الجميع في حل المشكلات التي تواجه وطنهم. لكن هذه المرة، فإن الوضع مختلف إلى حد ما. وقال تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز إنه من خلال كل المؤشرات، يبدو أن الولاياتالمتحدة فى حالة فوضى. إذ يعتقد ثلثا الأمريكيين أن البلاد على المسار الخطأ، ويقيِّم نحو 70 بالمائة من الأمريكيين الاقتصاد على أنه «غير جيد» أو «سيئ»، وفى التحليل الذى كتبه مايكل بيكلي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة تفتس، ومدير برنامج آسيا فى معهد بحوث السياسة الخارجية، فإن الثقة العامة في الحكومة قد تراجعت بشكل كبير، من 40 بالمئة فى عام 2000 إلى 20 بالمئة فقط اليوم. كما بدأ حب الوطن يتراجع، حيث قال 38 بالمئة فقط من الأمريكيين اليوم إن الوطنية «مهمة جدًا» بالنسبة لهم، وهو انخفاض كبير عن 70 بالمئة فى عام 2000، وأضاف فى تحليله بعنوان «الانتصار الغريب لأمريكا المنقسمة.. لماذا ترتبط القوة بالخارج بالاختلال الداخلي؟». إن الاستقطاب في الكونجرس قد وصل إلى أعلى مستوياته منذ عقود طويلة وارتفعت التهديدات بالعنف ضد السياسيين، وقد تعرض الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب لمحاولتى اغتيال أثناء سعيه لاستعادة البيت الأبيض، ورغم أن العديد من الأمريكيين يعتقدون أنه فاشي، إلا أنه فاز فى التصويت الشعبي. وبعض العلماء يرون تشابهًا بين الولاياتالمتحدة وألمانيا فى فترة جمهورية فايمار، وآخرون يشبهون الولاياتالمتحدة بالاتحاد السوفيتى فى سنواته الأخيرة - حكومة هرمة متداعية من الداخل. بينما يرى آخرون أن البلاد على شفا حرب أهلية. ◄ ضعف من رحم القوة ومع ذلك، فإن هذه الفوضى الأمريكية الواضحة لم تؤثر بشكل كبير على قوة الولاياتالمتحدة، التى لا تزال صامدة، وفى بعض النواحي، نمت أيضًا، فحصة البلاد من الثروة العالمية لا تزال كبيرة كما كانت فى التسعينيات، وعلاقتها بشرايين الاقتصاد العالمية - الطاقة والمالية والأسواق والتكنولوجيا - قد أصبحت أقوى، ودوليًا، تكتسب الولاياتالمتحدة حلفاء جدداً، فى حين أن خصميها الرئيسيين، الصينوروسيا، يواجهان تحديات متزايدة. أما التضخم، والديون الضخمة، والبطء فى الإنتاجية تظل قضايا هامة، لكنها تظل أقل حدة مقارنة بالعقبات الاقتصادية والديموغرافية التى تواجه القوى الكبرى الأخرى. واعتبر الكاتب أن هذه هى المفارقة فى القوة الأمريكية: الولاياتالمتحدة بلد منقسم، يُنظر إليها بشكل دائم على أنها فى حالة تراجع، ومع ذلك تظل بشكل ثابت الأغنى والأقوى فى العالم، تاركةً منافسيها وراءها. لكن هذه القوى نفسها تخلق أيضًا نقطتى ضعف رئيسيتين، أولاً، تعمق هذه القوى الفجوة بين المدن الكبرى التى تزدهر وبين المجتمعات الريفية التى تكافح، مما يزيد من الفوارق الاقتصادية ويؤجج الاستقطاب السياسي، وعلى الرغم من أن المدن استفادت إلى حد كبير من الاقتصاد المعرفى العالمى المتزايد الذى تدعمه الهجرة، فإن العديد من المناطق الريفية تراجعت مع تقلص وظائف التصنيع والقطاع العام، مما أدى إلى انتشار مشاعر الاستياء وتمزق الوحدة الوطنية، وثانيًا، يعزز العزل الجغرافى والثروة شعورًا بالانفصال عن الشؤون العالمية من خلال حماية البلاد من التهديدات الخارجية، مما يؤدى إلى نقص مزمن فى الاستثمار فى القدرات العسكرية والدبلوماسية. هذه التوترات بين الانفصال والانخراط العالمى تؤدى إلى نوع من العولمة الفارغة، حيث تسعى الولاياتالمتحدة للقيادة على الساحة العالمية ولكنها فى كثير من الأحيان تفتقر إلى الموارد اللازمة لتحقيق أهدافها بالكامل، مما يساهم عن غير قصد فى إشعال صراعات مكلفة. معًا، تشكل هذه النقاط الضعف - الانقسام الداخلى والعجز الاستراتيجى - تهديدًا لاستقرار الولاياتالمتحدة وأمنها، مما يخلق ازدواجيات تحدد قوتها، ازدهار اقتصادى يتعايش مع تدهور مدني، وقوة مادية لا مثيل لها تُبددها سياسة خارجية غير فعّالة، كما أن التجارة والهجرة تثرى البلاد لكنها تُجهد نسيجها الاجتماعى وتدمر المجتمعات العاملة، وبذلك فإن التحدى أمام القادة الأمريكيين هو التنقل بين هذه التناقضات. ◄ دعائم الهيمنة واعتبر الكاتب إن فوضى الولاياتالمتحدة كان لها تأثير ضئيل بشكل ملحوظ على قوتها، فقد وسعت الولاياتالمتحدة تحالفاتها العسكرية وازداد نفوذها على النظم المالية، وأسواق الطاقة، وقواعد المستهلكين، وتطور التكنولوجيا، مما عزز قدرتها على تشكيل النظام الذى تعمل ضمنه الدول الأخرى، على سبيل المثال، يشكل الدولار الآن حوالى 60% من احتياطيات البنوك المركزية العالمية، وهو انخفاض عن 68% فى عام 2004، لكنه يعادل حصته فى 1995، ويُستخدم الدولار فى حوالى 70% من الالتزامات المصرفية عبر الحدود وإصدارات الديون بالعملات الأجنبية - وهى زيادة عن عام 2004 - وحوالى 90% من المعاملات العالمية فى سوق الصرف الأجنبي، ويسمح الدور المهيمن للدولار لواشنطن بفرض العقوبات، وتأمين تكلفة اقتراض منخفضة، وربط مصير الدول الأخرى بمصيرها. فعندما تحتفظ الحكومات الأجنبية باحتياطيات ضخمة من الدولار، فإنها تصبح فعليًا مستثمرة فى نظام يعتمد فيه ازدهارها الاقتصادى على صحة الاقتصاد الأمريكي، مما يجعلها مترددة فى اتخاذ إجراءات، مثل خفض قيمة العملة أو فرض العقوبات، التى قد تضر فى نهاية المطاف بمصالحها الخاصة. وعزز التحول فى قطاع الطاقة الأمريكي من تأثير واشنطن العالمي بشكل أكبر. فبعد أن كانت الولاياتالمتحدة أكبر مستورد للطاقة فى العالم، أصبحت الآن أكبر منتج للنفط والغاز الطبيعي، متفوقة على روسيا والسعودية. فى الوقت نفسه، تبنت تقنيات كفاءة الطاقة والطاقة المتجددة، مما خفض انبعاثات الكربون للفرد إلى مستويات لم تُسجل منذ عشرينيات القرن الماضي، وقد حافظ هذا الازدهار فى الطاقة على انخفاض أسعار النفط والغاز فى الولاياتالمتحدة، حتى فى أوقات الصراعات الدولية. على سبيل المثال، تدفع الشركات الأوروبية الآن ضعف أو ثلاثة أضعاف تكاليف الكهرباء، وأربعة إلى خمسة أضعاف تكلفة الغاز الطبيعي، مما دفع بعض الشركات الأجنبية إلى نقل مصانعها إلى الولاياتالمتحدة. كما ساعد إنتاج الطاقة الولاياتالمتحدة على عزل نفسها وحلفائها عن الضغوط الخارجية. فعلى سبيل المثال، بعد حرب أوكرانيا، تمكنت الولاياتالمتحدة من مساعدة أوروبا، التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة الروسية، فى سد العجز من خلال إرسال النفط والغاز إليها. فى الوقت نفسه، يضغط السوق الأمريكى الضخم للمستهلكين، الذى يعادل مجتمعا السوق الصينية ومنطقة اليورو، الشركات والحكومات الأجنبية على التماشى مع سياسات التجارة الأمريكية للحفاظ على الوصول إلى أكثر أسواق الإيرادات ربحًا فى العالم. ◄ عودة ترامب ويزيد تفوق الولاياتالمتحدة في مجال الابتكار العالمي من قوتها الهيكلية. حيث تُحقق الشركات الأمريكية أكثر من 50% من أرباح التكنولوجيا العالية فى العالم، بينما لا تحصل الصين سوى على 6%. وهذا التفوق فى الابتكار يضع الشركات الأمريكية فى نقاط حاسمة فى سلاسل الإمداد، مما يمكّن واشنطن من التأثير على شبكات الإنتاج، كما يظهر من خلال تنسيقها لقيود أشباه الموصلات متعددة الجنسيات على الصين. بالإضافة إلى ذلك، وسعت الولاياتالمتحدة تحالفاتها العسكرية، مما يعزز قدرتها على إحاطة منافسيها وعرض قوتها عبر أوراسيا. ورحب حلف شمال الأطلنطي (الناتو) بفنلندا والسويد، بينما فى منطقة الهند والمحيط الهادئ، ساهمت المبادرات مثل «أوكوس» و»الرباعية» (أو الحوار الرباعي) فى تعزيز الروابط بين أسترالياوالهندواليابان. كما تحسنت العلاقات التى كانت متوترة سابقًا - مثل تلك بين اليابان وكوريا الجنوبية أو بين الولاياتالمتحدة والفلبين- مما يمهد الطريق لمزيد من التعاون الدفاعى والوصول إلى قواعد عسكرية أمريكية. ويعود دونالد ترامب للسلطة بفكر استثنائى فى البلاد عبر تاريخ من سبقه من القادة. فخلال حملته الانتخابية للرئاسة، وعد الرجل بتقديم سياسة خارجية قومية «أمريكا أولاً»، وتفاخر حول كيف أنه فى ولايته الأولى، هدد بالتخلى عن حلفاء الناتو وادعى أنه فى ولايته الثانية، إذا فشلت الدول الأوروبية الأعضاء فى الناتو فى زيادة إنفاقها الدفاعي، فسيترك الروس «يفعلون ما يريدون»، وقد رفعت ترشيحاته وتعييناته البارزة من مكانة أنصار «Make America Great Again MAGA» الذين كانوا يعارضون طويلًا «العولمة» و«النظام الدولى الليبرالي»، حيث كان من المتوقع أن تتشكل إدارته من عدد كبير من المساهمين فى قائمة الأمنيات السياسية لمؤسسة «هيريتاج» تحت مشروع 2025، الذى يدعو إلى خروج الولاياتالمتحدة من صندوق النقد الدولى والبنك الدولي. وبعد أيام من تعيين ترامب لشخصية فوكس نيوز بيت هيجسيث كوزير للدفاع، أدان هيجسيث الأممالمتحدة باعتبارها «منظمة عولمية بالكامل تدفع بأجندة معادية لأمريكا وإسرائيل والحرية»، لذا رأى تحليل نشرته «فورين أفيرز»، وكتبه اليكسندر كولي، ودانيال نيكسون، إنه لا ينبغى أن يكون مفاجئًا أن فوز ترامب فى 2024 قد أثار عناوين مثل «أمريكا تختار دورًا جديدًا فى العالم» و»ترامب سيحسم الضربة النهائية للنظام الليبرالي»، إذ بلا شك، سيعيد فترة رئاسته الثانية توجيه السياسة الداخلية والدولية نحو اتجاهات غير ليبرالية. لكنه، فى ذات الوقت، لن ينهى ما يُسمى «النظام الدولي الليبرالي»، ببساطة لأنه قد انتهى بالفعل. ◄ اقرأ أيضًا | أكذوبة إسرائيل الكبرى.. حقائق التاريخ تبدد أوهام خرائط الصهيونية الملفقة ◄ شخصية خطيرة والنظام الدولي الليبرالي هو مصطلح مختصر للمؤسسات الدولية وترتيبات المعاهدات التى قادت واشنطن فى إنشائها خلال العقد الأول بعد الحرب العالمية الثانية، بما فى ذلك الأممالمتحدة والناتو. هذه المؤسسات، التى سعت إلى تعزيز حقوق الإنسان، والتجارة الحرة، والديمقراطية، والتعاون متعدد الأطراف، كانت تدعم هذه المبادئ بشكل فعلى فى بعض الأحيان، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتى فى عام 1991، توسعت واشنطن وحلفاؤها الأقوياء فى هذا النظام، وشهد ذلك موجة من الديمقراطية، وإنشاء منظمة التجارة العالمية (WTO)، ودفعًا عالميًا من أجل التجارة العالمية غير المقيدة وتدفقات مالية مفتوحة، ولكن على مدى أكثر من عقد من الزمان، كانت الصينوروسيا منخرطتين فى مشاريع تنظيمية دولية خاصة بهما. فى الوقت نفسه، عزز التراجع النسبى فى الاقتصاد لدول مجموعة السبع (G-7) من قوة التفاوض لدى الدول الأضعف. ولأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، تتمتع هذه الدول الآن ببدائل حقيقية للأسواق الغربية، والمساعدات التنموية، وحتى الحماية العسكرية، كما أن صعود الشعبوية الرجعية، ليس فقط فى أمريكا الشمالية وأوروبا، ولكن أيضًا فى الهند وأجزاء من أمريكا اللاتينية، قد حطم الهيمنة الأيديولوجية التى كانت الليبرالية تتمتع بها خلال عقدين بعد نهاية الحرب الباردة. وقد احتفظ الرئيس الأمريكى جو بايدن ببعض جوانب النهج الاقتصادى القومى لترامب، بما فى ذلك الرسوم الجمركية، ودفع للأمام بأول سياسة صناعية أمريكية كبيرة منذ عقود عبر قانون الرقائق (CHIPS) وقانون خفض التضخم (Inflation Reduction Act). ومن ناحية أخرى، فإن الإشارة إلى «النظام الدولى الليبرالي» تتجاهل القوة المتزايدة لغير الليبرالية فى السياسة العالمية. كما أن العبارة العامة هذه توحى بشكل خاطئ بأن العديد من جوانب النظام الدولى المعاصر- مثل سيادة الدولة، وحكم القانون، والتعددية - هى بطبيعتها أو بالضرورة ليبرالية، بينما فى الواقع هى متوافقة تمامًا مع بعض الأشكال غير الليبرالية والأنظمة السياسية المعادية لليبرالية، ويخشى التيار السائد فى المؤسسة السياسية الخارجية الأمريكية من الرئيس ترامب كشخصية مؤيدة للعزلة الخطيرة، والتى يعتبروها بعيدة تمامًا عن القيم والمصالح الأمريكية، كما يخشون أن إعادة انتخاب ترامب ستعمل على تفكيك النظام الليبرالى الذى بنته الولاياتالمتحدة وحلفاؤها ودافعوا عنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، واتخذت منه دعائم هيمنتها طوال عقود.