تأزَّم واقع الداخل الإسرائيلي بصورة غير مسبوقة، فرغم تباهى حكومة نتانياهو بحملات عدوانية على ساحات عربية فى قطاع غزة، والضفة الغربية، وجنوب لبنان، وسوريا، واليمن، واعتبار تلك الاعتداءات إنجازًا ميدانيًا وعسكريًا للحكومة الأكثر تطرفًا، لكن انعكاس هذه الممارسات فرض على 82.700 مستوطن الهجرة من إسرائيل بلا عودة خلال العام الفائت 2024، حسب بيانات جهاز الإحصاء المركزي الإسرائيلي. وتؤكد المؤشرات أن الحرب لم تكن وحدها محفزًا على موجات الهجرة من إسرائيل، فقبل موقعة «طوفان الأقصى» فى 7 أكتوبر 2023، أفاد جهاز الإحصاء ذاته بهجرة 55.300 إسرائيلى للإقامة الممتدة فى الخارج، وعزا المهاجرون قرارهم إلى توتر الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية على متن «السفينة الإسرائيلية»، لا سيما بعد تولى حكومة نتانياهو فى ديسمبر 2022، والتزام الأخير باتفاقات ائتلافية مع أحزاب وتكتلات «الصهيونية الدينية» نظير الانضمام إلى حكومة برئاسته، ما فرض عليه تمرير قرارات وتشريعات ديكتاتورية، جاء فى طليعتها ما يُعرف ب«الإصلاحات القضائية»، وإعفاء الطلاب المتدينين «الحريديم» من الخدمة الإلزامية فى الجيش الإسرائيلى، فضلًا عن منح الشريحة ذاتها امتيازات مادية ومعنوية غير محدودة، اعتبرتها الشرائح الليبرالية عنصرية، يتحمَّل دافع الضرائب الإسرائيلي تكلفتها. ربما فرض واقع الداخل الإسرائيلي القاتم على نائبة المدعية العامة ليئات بن آرى هى الأخرى تقديم الاستقالة من منصبها بعد 27 عامًا من الخدمة فى الجهاز القضائي، وبعيدًا عن العبارات الإنشائية التى بررت بها القرار المفاجئ، لكنها كانت رأس حربة محاربة فساد السلطة، والشخصية المعنية بالتحقيق فى الملف 4000، الذى يمثل فيه نتانياهو أمام القضاء، ودعمت مطالبة المدعية العامة جالى بهاراف ميارا باستدعاء زوجته سارة للتحقيق، ولم تتردد فى دعم قرارات المدعية العامة أيضًا فى كبح جماح وزير الأمن القومى اليمينى المتطرف إيتمار بن جافير، حتى إن الأخير وقف على قدميه الخلفيتين، مطالبًا غير مرة بإقالة ميارا وداعمتها، وقال بحسب موقع «تايمز أوف إسرائيل»: «إما أنا، أو هى».. ويتزامن ارتباك المشهد مع صدور التقرير السنوى للجهاز المركزى الإسرائيلي للإحصاء، الذى ادعى وصول تعداد سكان إسرائيل إلى 10 ملايين نسمة خلال العام 2024، ورغم أن التقرير أدرج فلسطينى الداخل «21%» ضمن التعداد الإسرائيلى، ولم يلتفت إلى أن 25% من الأطفال المولودين فى العام ذاته هم من العرب «عرب 48»، لكن معدى التقرير اعتبروا الرقم إيجابيًا، خاصة وهو يؤشر وفقًا لعموميته المغلوطة إلى ارتفاع عدد مستوطنى الدولة العبرية، لكنهم أقروا فى المقابل بطفرة مذهلة فى عدد الأشخاص الذين قفزوا من «السفينة الإسرائيلية» وهاجروا بلا رجعة إلى الخارج، حسب تعبير صحيفة «يديعوت أحرونوت». ◄ اقرأ أيضًا | الكشف عن صفقة أمريكية محتملة لبيع أسلحة ب8 مليارات دولار إلى إسرائيل وفى تقريرها المنشور بالصحيفة العبرية، حلَّلت الصحفية الإسرائيلية نينا فوكس التقرير الإحصائى، وقالت إن «استمرار الحرب بلا داع لأسباب سياسية داخلية، تتعلق بمصالح نتانياهو الضيقة، يقود حتمًا إلى انهيار المجتمع الإسرائيلى، ورحيل النخبة من الشباب المتعلم، وأولئك الذين سئموا دورانا مستمرا وبلا نهاية فى دوَّامة عميقة، ناهيك عن اليأس من ديكتاتورية الحكومة ورئيسها، الذى ورَّط إسرائيل فى أكثر من حرب». وتشير البيانات الرسمية إلى أن عدد الرجال الذين يغادرون إسرائيل أكبر من عدد النساء، بمعدل5.9 لكل 1000 رجل مقابل 5.5 لكل 1000 امرأة. أما الفئة العمرية الأكثر هجرة من إسرائيل فتتراوح ما بين 25 إلى 44 عامًا، وتكمن الخطورة فى أن هذه الفئة هى الرئيسية فى سوق العمل، لكن الأكثر خطورة هو أن نسبة عالية من المهاجرين يحملون شهادات أكاديمية، خاصة فى مجالات مثل التكنولوجيا والاقتصاد. من زاوية التكنولوجيا والاقتصاد تبدو الصورة أكثر قتامة، فبينما يتباهى نتانياهو فى أكثر من مناسبة بتفوق شركات التكنولوجيا الإسرائيلية، ويعول كثيرًا على القطاع فى إنعاش الاقتصاد، جاءت الكارثة من حيث لا يشتهى، إذ انسحبت عديد الشركات الناشئة الإسرائيلية والأجنبية من إسرائيل فى إطار موجات الهجرة غير المسبوقة، وخصص موقع news-israel العبرى لمناقشة الظاهرة، ونقل عن روَّاد القطاع دعوتهم لنظرائهم: «اخرجوا من إسرائيل وتوقفوا عن دفع الضرائب لتمويل صكوك «الحريديم»، وتحقيق أحلام المستوطنين». ويحذر المسئولون التنفيذيون فى صناعة التكنولوجيا الإسرائيلية المتقدمة من أنهم لن يسمحوا لأنفسهم بأى شكل من الأشكال بأن يكونوا مثل الآخرين فى الاقتصاد الإسرائيلى، الذين توفر أعمالهم اليدوية أكثر من نصف حماية إسرائيل من خلال دفع الضرائب، لا لشىء إلا ليصبح نتانياهو ديكتاتورًا يحكم إسرائيل إلى الأبد. ويرى دافيد عيشيت معد التقرير أن صراع شركات ال«هاى تك» الإسرائيلية دخل مرحلة جديدة من مواجهة الواقع المأزوم، إذ يحذر روَّاد الأعمال من تنامى ظاهرة هروب المستثمرين الأجانب. وينقل التقرير عن رجل الأعمال الإسرائيلى توم ليفنا، وهو مؤسس أحد الصناديق الاستثمارية برأس مال 2 مليار دولار قوله: «قررت الهجرة من إسرائيل، وتجميد عمليات دفع الضرائب. إذا فعل رجال الأعمال والمستثمرين مثلى، فلن يكون هناك مصدر يمكِّن حكومة نتانياهو من دفع مميزات مالية للحريديم. فى حقيقة الأمر لا يعشق نتانياهو الحريديم، وإنما يستميل قادة تلك الفئة، لضمان البقاء على رأس الحكومة للأبد». وفيما لا يمثل قطاع التكنولوجيا الفائقة سوى 10% فقط فى العمود الفقرى للاقتصاد الإسرائيلى، لكن القطاع يوفر 25% من قيمة مدفوعات الضرائب التى تدخل خزانة الدولة، كما أن هذه الصناعة مسئولة أيضًا عن حصة كبيرة من الصادرات الإسرائيلية، فضلًا عن توظيف الشركات العالمية العملاقة فى إسرائيل آلاف العمال. آدم فيشر أحد أنجح المستثمرين فى مجال التكنولوجيا الإسرائيلية الفائقة، وهو الشريك الإسرائيلى الكبير فى صندوق «بيسمر» الأمريكى، الذى يدير استثمارات بقيمة 20 مليار دولار، 4 مليارات شيكل منها مستثمرة فى إسرائيل «الشيكل يعادل 0.27 دولار أمريكى» يقول: «بدأت الظاهرة بهجرة رجال الأعمال الإسرائيليين وفى ذيلهم غادر المستثمرون الأجانب أيضًا. يحدث ذلك بالفعل، وأرى أنه نتيجة لعدم اليقين، لا سيما فى ظل سن تشريعات غير ليبرالية». ويضيف فيشر أنه ينصح أى مستثمر إسرائيلى أو أجنبى بتسجيل شركته فى الخارج، لا سيما فى الولاياتالمتحدة، تفاديًا لأزمات الداخل الإسرائيلى المتشعبة والمعقدة.