«أنا سلطنجي السلطنة لعبتي، أقدر أغني وأتنقل بين المقامات من الراست أروح على النهاوند والحجاز، ألعب بالسيكا وأروح على البياتي والصبا» .. عندما تقرأ تلك الكلمات قد يُخيل لك أن قائلها درس الموسيقى دراسة أكاديمية، وتخرج من أحد معاهدها، لكن المفارقة أنه لم يُكمل تعليمه بعد حصوله على الشهادة الإعدادية، وبحكم شغفه بالموسيقى والغناء صانع لنفسه مدرسة خاصة في الغناء الشعبي لم يُنافسه فيها أحد حتى أصبح أحد أهم أعمدتها، ومُطوريها على مر التاريخ. وُلد أحمد محمد مرسي العدوي الشهير بأحمد عدوية في 26 يونيو عام 1945 بمحافظة المنيا، لأب يعمل تاجرًا للمواشي، ولاحظ الأب تعلق نجله بالغناء، حيث كان يهرب من المنزل والمدرسة حتى يحضر الأفراح ويستمع إلى الموسيقى، وهنا حاولت عائلته منعه من التعلق بالغناء بأساليب وطُرق عديدة سواء بالضرب أو الطرد والحرمان من أجل استكمال مراحل تعليمه، لكنهم فشلوا حتى قاطعوه ماديًا ومعنويًا إلى أن قرر السفر إلى العاصمة من أجل حلمه وشغفه بعالم الموسيقى والغناء، و وجد ملاذه في شارع محمد علي الذي كان قبلة أشهر وأبرز الموسيقيين، العازفين، والمطربين، وهناك بدأ رحلته مع الغناء حيث كان لا يُضيع أي فرصة تُمكنه من إظهار مواهبه سواء بالغناء في الأفراح الشعبية أو الملاهي الليلية أو الحفلات التي كانت تُقام في الحارات الجانبية. حصل عدوية على فرصة للغناء في عيد زواج المطربة شريفة فاضل، وأطرب الحاضرين بصوته، ولفت الأنظار إلى موهبته حتى اقتنع به مُؤسس ملهى «الأريزونا» الليلي، وقرر التعاقد معه على الغناء في الملهى حتى أصبح في وقت قليل معروفًا بين رواد (كازينوهات) شارع الهرم، لكن شعبيته وجماهيريته كانت لا تزال محدودة حتى جاءته الفرصة الأكبر بعد التعاقد مع شركة (صوت الحب) لمؤسسها عاطف منتصر، والتي بدأت بالإنتاج لعدد من الأصوات الشابة الواعدة آنذاك أمثال هاني شاكر، وأنتجت أيضًا لعدد آخر من النجوم أمثال شادية، لكن تعثرت الشركة ماديًا حتى اقترح الشاعر مأمون الشناوي على مُؤسسها عاطف منتصر إنتاج موال شعبي لربما يتجاوب معه الجمهور، وينقذ الشركة من الإفلاس. لعبت الصدفة دورًا في تعرف الشاعر مأمون الشناوي والمنتج عاطف منتصر على أحمد عدوية، حيث التقيا في أحد الملاهي الليلية التي كان يُغني عدوية فيها، وإلتفت الشاعر مأمون الشناوي إلى صوته، وطلب منه الحضور إلى مكتبه، ومن هنا تفجرت موهبة أحمد عدوية بعد إنتاج أغنية «السح الدح امبو» عام 1972، والتي حققت وقتها نجاحًا ساحقًا بكلمات غير مألوفة على أذن المُستمع العربي، وشكلت نقطة فارقة في مشواره الفني، إذ بِيع 170 ألف نسخة من إسطوانة الأغنية بما يُعادل عشرات الأضعاف من معدل بيع أي إسطوانه أخرى لكِبار النجوم أمثال أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش وغيرهم، ليتحول عدوية بعدها إلى ظاهرة جديدة على المجتمع المصري والعربي، والتي انقسمت حولها آراء الجمهور بين مؤيد ومُعارض، لكن المؤكد أن عدوية واجه آنذاك موجة هجوم، غضب، وانتقادات حادة باعتبار أن أغانيه تحمل كلمات ركيكة وتُفسد الذوق العام، حتى تم منع إذاعة أغانيه في الإذاعة المصرية، كذلك مُنع من الظهور على شاشة التليفزيون المصري. وما لا يعرفه الكثيرون أن عدوية لم يكن أول من غنى «السح الدح إمبو»، بل كانت تتغنى في حفلات (السبوع) منذ خمسينيات القرن الماضي، وغناها من قبل محمود شكوكو في واحدة من مونولوجاته، لكنها لم تنجح إلا بصوت عدوية الذي أعاد من خلالها اكتشاف شكل الموال، وتقاضى عنها أجر 15 جنيهًا، حتى أصبح بعد نجاحها النجم الأول المطلوب في مصر. لم يلتفت عدوية إلى الهجوم، ولم توقفه حملات المعارضة عن استكمال مشواره الفني الذي تميز بالتمرد على القاموس المعتاد للأغنية العربية، ودافع عدوية عن فنه قائلًا : «أنا مش بغني كلام هايف.. أنا بغني كلام عن الناس اللي أنا منهم، بغني عنهم وعن مواجعهم».. وهذا بالتأكيد سر نجاحه واستمراره، فإلى جانب قوة وشجن صوته، لكنه كان يتعمد اختيار الكلمات القريبة من لغة ونبض الشارع المصري، الكلمات القريبة الحقيقة والصادقة التي لمست قلوب الجمهور، وفرضت نفسها على الشارع المصري، وبرهنت مدى نجاح صاحبها، وظلت حاضرة بقوة حتى كتابة هذه السطور. آمن بموهبته العديد من كِبار الكُتاب والموسيقيين، حيث تعاون مع صلاح جاهين، كمال الطويل، منير مراد، حلمي بكر، محمد عبد الوهاب، لكن الموسيقار بليغ حمدي كان من أكثر داعميه، ولحن له أغنيات (القمر مسافر)، و(ياختي اسملتين)، وشاركه الشاعر حسن أبو عتمان رحلة نجاحه وصعوده بعدما اكتشف عدوية موهبته عن طريق الصدفة، وكتب له أغنيات عديدة أبرزها وأشهرها (سلامتها أم حسن)، و(بنت السلطان)، كما تعاون مع الموسيقار هاني شنودة في أغنيته الأشهر (زحمة يا دنيا زحمة) والتي حققت مبيعات ضخمة، وتحدى شنودة نفسه أثناء تنفيذ وصُنع الأغنية لأنه كان معروفًا بألحانه الغربية، حيث استخدم آلات «البيز جيتار»، و»الدرامز» لأول مرة في عزف أغنية شعبية. استطاع عدوية أن يُجدد نفسه بتعاقب الأجيال الفنية، فعلى الرغم من ابتعاده عن الأضواء والساحة الغنائية لسنوات طويلة بسبب الحادث الشهير الذي تعرض له، إلا أن مكانته لم تهتز عند الجمهور، بل ظل محافظًا على مجده وشهرته، وحققت أغنية (الناس الرايقة) التي قدمها مع المطرب اللبناني رامي عياش نجاحًا كبيرًا عند إصدارها، كما شارك بالغناء في العديد من التجارب الغنائية مع نجله المطرب محمد عدوية، وكذلك الفنان محمد رمضان. وعلى الرغم من الهجوم الذي رافق أعماله الغنائية لسنوات طويلة خاصة من طبقة المُثقفين، إلا أن رأي الأدباء وأصحاب الأقلام والفكر، وكِبار الفنانين عن صوته وموهبته كان صادمًا بالنسبة للكثيرين، ومنصفًا لموهبة الفتى الأسمر، حيث قال عنه الأديب نجيب نحفوظ : «رجل من الشعب يستخدم أساليب شعبية، صاحب صوت خشن لا يخلو من الحلاوة»، مشيرًا إلى أن كلماته بها معاني ومغزى لا يجب أن تفوت على المستمعين، فيرى لافتًا إلى أنه نجح في منح فوضى العصر قالبًا غنائيًا جميلًا، واصفًا إياه بلقب «مغني الحارة». الكاتب الراحل أنيس منصور كان على رأس قائمة المدافعين عن فن أحمد عدوية، حيث تحدث عنه أكثر من مرة في مقالاته التي جمعها في كتاب بعنوان «بطن الحوت»، و وصف صوته ب «أقوى الأصوات الشعبية وأكثرها تميزًا»، مؤكدًا في مقاله أن الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب يشاركه نفس الرأي ولكنه لم يعلنه خوفًا من أن يُساء فهمه من قِبل المطربين والملحنين، كما روى أيضا الكاتب الراحل عن افتتان الفنان الفرنسي شارل أزنافور بصوت عدوية عندما جاء إلى القاهرة وسمع صوته في إحدى الحفلات، قائلًا: «لو كان يغنى بالفرنسية لأصبح من أغنى الأغنياء، فصوته قوي وممتلئ بالشجن». لم يقتصر الإعجاب بصوت عدوية على الكتاب والمثقفين فقط بل وصل إلى الفنانين، فكان الراحل عبد الحليم حافظ يحب صوت عدوية، وكان يطلب منه أن يذهب إلى منزله برفقة عدد من الموسيقين حتى يغنوا معًا، إذ كان ينبهر بقدرته على غناء «كركشنجي» وحفظه لها، وهو ما كشفه عدوية في لقاء سابق، قائلًا إنه في إحدى حفلات الزفاف الكبرى، غنى عبدالحليم «السح الدح امبو» أمام الحضور، بينما غنى عدوية «خسارة»، فيما لم يتمالك عمر الشريف دموعه عندما غنى الفنان الشعبي موال «يا قلبي سيبك»، في إحدى الحفلات بالعاصمة الفرنسية باريس. إلى جانب نجاحاته الغنائية الكبيرة، شارك عدوية في العديد من الأعمال السينمائية المصرية، منها (أنا المجنون)، (البنات عايزة إيه)، (المتسول)، (أنياب)، (السلخانة)، (مطلوب حيًا أو ميتًا)، (ممنوع للطلبة)، (حسن بيه الغلبان)، (4-2-4)، و(يارب ولد)، وكان يُمثل ظهوره في تلك الأعمال بمثابة ضمان لنجاح الفيلم، وتحقيقه لإيرادات ضخمة بصرف النظر عن مستوى الفيلم من الناحية الفنية. اقرأ أيضا: وزير الثقافة يحضر عزاء أحمد عدوية بمسجد المشير ارتبط الكثيرون بصوته، فنه وأثره، فكان مشهد وداعه مؤثرًا، حيث حرص عدد كبير من الفنانين والنجوم على حضور جنازته ونعيه بكلمات مُؤثرة، حيث كتبت اللبنانية إليسا : «أحمد عدوية خسارة كبيرة للفن الشعبي بمصر وبالعالم العربي، وبصمته رح تبقى بأعماله يللي ما بتموت ورح تستمر بذاكراتنا من جيل لجيل، ألف رحمة لروحه». بينما كتب المطرب الشعبي حكيم : «الله يرحمك ويغفرلك ياللي كنت السبب في حبي للغنا، اتربيت على سماع أغانيك وجمال صوتك وحلاوة وبساطة أدائك، مع السلامة يا عم أحمد عدوية عمي وعم الشغلانة كلها، البقاء لله ادعوا له بالرحمة». وكتبت نانسي عجرم : «رحل اللي ترك بسمة بقلب كل من سمع أغانيه، الله يرحم الفنان أحمد عدوية، رمز من رموز الفن االشعبي الأصيل، التعازي لعيلته ومحبينه ولكل الشعب المصري الحبيب»، أما أصالة فقد كتبت : «الله يرحم الفنان الكبير أحمد عدوّية ويعين أهله وأحبابه وناسه وكلّ التعازي للوسط الفنّي اللي اليوم فقد رمز من رموزه بأغنيات خالده ومشوار خاص لفنان مختلف». ونشرت الفنانة شريهان، ستوري، عبر حسابها الرسمي بموقع «إنستجرام»، وكتبت: «إنا لله وإنا إليه راجعون في المطرب والفنان الإنسان المصري الطيب الجدع المحترم الجميل أحمد عدوية.. عظم الله أجركم وجبر مصابكم». ونعاه وائل جسار بكلمات مؤثرة حيث قال: «ببالغ الحزن والأسى ننعى وفاة الفنان الكبير أحمد عدوية، رمز الأغنية الشعبية المصرية، الذي رحل عن عالمنا بعد مسيرة حافلة بالإبداع الفني أثرت أجيالًا عديدة.. ستظل أعماله خالدة في قلوب محبيه، وندعو الله أن يتغمّده بواسع رحمته، ويُلهم أسرته ومحبيه الصبر والسلوان.. إنّا لله وإنّا إليه راجعون». وكتب إيهاب توفيق، عبر حسابه الرسمي بموقع «إنستجرام»: «خالص عزائي لوفاة الفنان الكبير والقدير أحمد عدوية ، إنا لله وإنا إليه راجعون، ربنا يرحمه ويغفر له ويلهم أهله ومُحبيه الصبر والسلوان». تجاوزت رحلة أحمد عدوية الفنية نحو نصف قرن من الزمان، منذ بدايته بأغنيته الشهيرة «السح الدح امبو» في بداية سبعينيات القرن الماضي، وحتى منتصف العام الجاري، ليصبح امتدادًا لمن سبقوه من نجوم الأغنية الشعبية، أمثال شفيق جلال، محمد رشدي، عبده الاسكندراني، محمد العزبي، وخضرة محمد خضر، وغيرهم، ومُلهمًا للأجيال العديدة التي ظهرت بعده أمثال حسن الأسمر، عبد الباسط حمودة، حكيم، أحمد شيبة، ومحمود الليثي.