وعلى الرغم من صعوبات تطبيق المواثيق الأخلاقية للذكاء الاصطناعى، إلا أن عدالة وشرعية هذا المسعى لا تسقط . ضرورة أن يكون الذكاء الاصطناعى لصالح البشرية، فى إطار التزام بقيم وأخلاقيات الإنسانية الرقمية، والتى ترفض استبدال البشر بآلات رقمية. يشبه الذكاء الاصطناعى من وجهة نظرى الطوفان، الذى لا يتحكم فيه أحد، ولا يستطيع قيادته، صحيح أن الدول الغربية المتقدمة والصين والشركات التكنولوجية العملاقة التابعة لها، هى التى تحوز أكبر قدر من المعارف والمهارات والتطبيقات الخاصة بالذكاء الاصطناعى وما تيحه من فرص وتحديات هائلة، وما يوفره من إمكانيات هائلة فى كل المجالات، ومع ذلك لا أحد منهم قادر على معرفة مسار تطور إمكانيات الذكاء الاصطناعى أو مصيرها، وبالتالى لا أحد يعرف شكل المستقبل. من هنا ضرورة ترويض هذا الطوفان وتنظيمه، لأنه يتضمن تحديات وإشكاليات كبيرة تطرق، وبعض هذا الإشكاليات تهدد البشرية، وهيمنة الإنسان وتفرده بعمليات البحث والتطوير والإبداع. ويدور نقاش عالمى صاخب حول الفرص والتحديات والإشكاليات التى يطرحها الذكاء الاصطناعى، وضرورة أنسنة الذكاء الاصطناعى، بمعنى أن يكون الذكاء الاصطناعى لصالح البشرية، فى إطار التزام بقيم وأخلاقيات الإنسانية الرقمية، والتى ترفض استبدال البشر بآلات رقمية أو تحويلهم إليها. بل على العكس ترى ضرورة تصميم الآلات واستخدامها بطرق تعمل على تحسين حياة جميع البشر ، بمن فيهم شعوب دول الجنوب - من خلال تحقيق المزيد من التنمية المستدامة التى تهتم بتنمية قدرات الإنسان والمجتمع وتحقيق العدالة والمساوة. فى هذا الإطار يمكن رصد ثلاثة تيارات أو محاور رئيسية تتصارع حول عملية تنظيم الذكاء الاصطناعى، الأول : التنظيم الذاتى من خلال الالتزام الطوعى لشركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعى العملاقة بتنظيم عمليات تطوير الذكاء الاصطناعى. والثانى إصدار مواثيق بمواثيق ومبادئ أخلاقية، يفترض أن يلتزم بها عمالقة الذكاء الاصطناعى والباحثون والمطورون والعاملون فى المجال. والثالث إصدار تشريعات وقوانين محلية ودولية لترويض طوفان الذكاء الاصطناعى. وهناك من يرى إمكانية الجمع والتأليف بين التيارات أو المحاور الثلاثة، وهو أمر يعارضه عمالقة الذكاء الاصطناعى، خاصة الشركات الأمريكية، بينما يتجه الاتحاد الأوربى لتطبيق القانون والمبادئ الأخلاقية، مع الشك فى صدقية فكرة التنظيم الذاتى، والتى لم تنجح فى التطبيق، بدليل ما حدث فى تجارب التنظيم الذاتى لوسائل التواصل الاجتماعى الأمريكية، حيث تلاعب أصحاب الشركات بفكرة التنظيم الذاتى وبالعاملين فى الشركات والمجالس الاستشارية التى أعلنوا عن تشكيلها من خبراء مستقلين، وغلبوا الربح والمنافسة على مبادئ وآليات التنظيم الذاتى. تبقى إذن ومن وجهة نظر الكثيرين «وأنا منهم» المواثيق الأخلاقية، والقوانين، علاوة على حلول ومقترحات أخرى تراهن على تفعيل ودعم دور جمعيات المجتمع المدنى ومحو الأمية الرقمية ومحو أمية الذكاء الاصطناعى، وهى مقترحات مهمة ومفيدة، لكن لابد من وجود تعاون دولى للاتفاق عليها وتطبيقها. وعلى الرغم من صعوبات تطبيق المواثيق الأخلاقية للذكاء الاصطناعى، إلا أن عدالة وشرعية هذا المسعى لا تسقط، كما أن نبل مقاصدها يؤكد ضرورة الاستمرار فى تحسينها بحيث تعكس كل ثقافات العالم، كذلك ضرورة العمل لتطبيقها جنباً إلى جنب مع إصدار تشريعات محلية ودولية مرنة تحاول ترويض جموح الذكاء الاصطناعى، وتعظيم فرص دول الجنوب فى الاستفادة منها، حتى لا يعاد استغلالها من جديد، ومن خلال الذكاء الاصطناعى الاستعمارى، فى هذا السياق لابد من الاهتمام بتحليل ونقد هياكل رأسمالية الذكاء الاصطناعى، والتى لا تحترم حتى اليوم متطلبات التنمية المستدامة، وتعمل من دون ضوابط بيئية، من هنا ظهرت الدعوة إلى ما يعرف بالذكاء الاصطناعى الأخضر، والدعوة أيضًا إلى المشاركة فى موارد وإمكانيات الذكاء الاصطناعى والتى يقصد بها إعادة التفكير فى أنظمة الملكية والحوكمة الجماعية وتمكين المزيد من الدول خاصة دول الجنوب والمجموعات داخل المجتمع من السيطرة على الذكاء الاصطناعى وإبداء الرأى فى تطويره وكيفية مشاركة فوائده لصالح البشرية، عوضاً عن الاستسلام لعمالقة الذكاء الاصطناعى بالانتصار والهيمنة وجنى الأرباح الطائلة. قد تبدو المشاركة فكرة مثالية، وصعبة التحقيق، وقد يصفها البعض بالمثالية، لكنها ضرورية وكم من الأفكار وصفت عبر التاريخ بالمثالية ثم طبقت مثل إنهاء العبودية. لا بديل عن المشاركة والتعاون للحفاظ على البيئة، ولتطبيق القوانين والمواثيق الأخلاقية للذكاء الاصطناعى، ما يعنى ترويض وأنسنة الذكاء الاصطناعى عوضاً عن الانفلات والفوضى التى يحدثها، والتى قد تؤدى إلى إنهاء سيادة أو خلافة الإنسان على الأرض .