اليوم وفى ظل كل ما يواجهه العالم وفى القلب منه منطقتنا الشرق أوسطية، لم يعد بناء قدرات الدولة الشاملة ترفاً، بل هو ضرورة ماسة لمن أراد أن يمتلك إرادة الحياة والبقاء فى عالم وزمن لا يعترف بغير الأقوياء فى القرن الخامس قبل الميلاد، ظهر مفهوم «استراتيجيا»، وهو مستوحى من كلمة يونانية تعنى «نشر القوات فى ميدان القتال»، فقد كان القتال والحروب بشكلها التقليدى القديم الذى يقوم على القوة البدنية والتنظيم الميدانى للمقاتلين، هو كل ما يشغل القادة ومخططى المعارك فى تلك العصور القديمة. اليوم تغير كل شيء فى مفهوم الحروب والقتال، لكن بقيت معانى الاستراتيجية باعتبارها تحسباً وإعداداً للمستقبل عابرة للعصور، ومتجاوزة مئات التعريفات وآلاف الدراسات بدول العالم ولغاته المختلفة، الجميع يكتب ويحلل، لكن الجميع أيضاً يتفق على معنى واحد لتلك «الاستراتيجيا» وهو الاستعداد واليقظة الدائمة للتعامل مع مختلف المتغيرات، والإدارة عالية الكفاءة للموارد لاقتناص الفرص، ومواجهة المخاطر. تغير العالم، وتبدلت أدوات حروبه وصراعاته، لم تعد الشجاعة والقوة البدنية هى العنصر الأبرز لحسم القتال، بل صارت الحروب فى العصر الحديث تُدار عن بعد، وبأدواتٍ خفية، وعناصرها ومشعلوها لا يتحلون دائماً بذلك القدر من الشجاعة التى كان يتحلى بها المقاتلون القدامى. الآن تدور الحروب فى ميادين الاقتصاد والتكنولوجيا وفى الفضاء الإلكتروني، بل وحتى فى الفضاء الخارجي، ليزيد كل ذلك من تعقيد الفكر الاستراتيجي، الذى باتت حدوده تتجاوز «نشر القوات فى ميدان القتال»، لتشمل إدارة كل شئون الحياة وفق رؤية شاملة لا تستثنى بعداً، ولا تتجاهل احتمالًا، لجعل المستقبل أكثر أمناً واستقراراً. ■■■ تبادرت إلى ذهنى الكثير من تلك الأفكار، بينما كنت أتوجه برفقة مجموعة من الزملاء الصحفيين والإعلاميين إلى مقر القيادة الاستراتيجية بالعاصمة الإدارية الجديدة، أدركت أن الانتقال إلى ذلك المكان ليس فقط انتقالاً مكانياً يطوى المسافة من القاهرة إلى حيث مقر القيادة، لكنه كذلك رحلة عبر الزمن، سفر إلى قطعة من المستقبل الذى نبتغيه لوطننا العريق، حيث يُبنى كل شيء وفق تخطيطٍ دقيق، وبإمكانيات تلبى أعلى متطلبات العصر التكنولوجي، ويقوم عليه أفراد مُؤهلون يمتلكون الكفاءة والجدارة اللازمة للتعامل مع مختلف المتطلبات. مقر القيادة الاستراتيجية ليس مقرًا عسكريًا، بل هو بالفعل وبلا أية مبالغة «عقل» الدولة المصرية بكل مؤسساتها وأدواتها، فى هذا المكان تجتمع جميع الموارد المعلوماتية الضرورية لإدارة الدولة بانسجام وتناسق تحتاجه صناعة القرار، وبما يضمن أعلى درجة كفاءة الإدارة وفاعلية الأداء. لعقودٍ طويلة ظللنا نشكو من فكرة «الجزر المنعزلة» فى إدارة شئون الدولة، بكل ما يتسبب فيه ذلك من بيروقراطية وإضاعة للوقت والفرص، الآن نستطيع القول: إننا أمام فكر مختلف للتعامل مع التحديات وإدارة الدولة بعقل نابه يعتمد على توظيف التكنولوجيا الرقمية، ويضمن سرعة اتخاذ القرار فى التوقيت المناسب، وهو أهم مبادئ الإدارة الناجحة. تجولنا فى مقر القيادة، رأينا بأعيننا ملمحًا لوجه مصر المستقبل، ليس المبنى هو الأهم فى تقديري، بل الأهم هو المعنى الذى يمثله ذلك المبنى وتلك الأدوات، الأهم هو الفكر الذى يتجلى واضحاً فى جنبات ذلك المبنى الرمز، مستنداً إلى رؤية عميقة مبنية على معلوماتٍ محدثة واستيعاب لجميع العوامل المؤثرة على اتخاذ القرار، بما يجعله قراراً علمياً وعمليًا صائباً وفى توقيته المناسب، والأهم أيضاً هو ذلك الطموح الذى لا يستسلم لقيود الواقع، بل ينطلق نحو أفق أرحب متطلعاً إلى ما وصل إليه العالم، لنضع قدماً حيث كنا نحلم دائما أن نكون. ■■■ اليوم وفى ظل كل ما يواجهه العالم وفى القلب منه منطقتنا الشرق أوسطية، لم يعد بناء قدرات الدولة الشاملة ترفاً، بل هو ضرورة ماسة لمن أراد أن يمتلك إرادة الحياة والبقاء فى عالم وزمن لا يعترف بغير الأقوياء، ولا يمنح تصريح المرور إلى المستقبل إلا لمن يبقى متماسكاً ومتمسكاً بهويته وأرضه واستقلالية قراره، ويتحلى بالقدرة على قراءة واقعية وعقلانية عميقة لما يدور حوله من متغيرات. فى عالمنا اليوم تتلاشى دول فى أيام معدودة، وكأنها قصور بُنيت من رمال على شاطئ، تذروها ريح عاصفة أو تلتهمها موجة اضطراب عاتية، لا يُشترط بالضرورة أن تأتى من بعيد، بل قد تكون تلك الموجة كامنة تتحين الفرصة للانقضاض فى لحظة غفلة أو غفوة اطمئنان. اليوم .. اليقظة وقراءة ما يدور من حولنا بصورة صحيحة صار «فرض عين» على كل من يريد أن ينجو بوطنه نحو بر الأمان، فما يدور من حولنا فى سنوات إعادة بناء النظام الدولى يفوق خيال أعتى المؤلفين، لكن التاريخ دائماً عودنا على أنه كاتب السيناريو الذى لا يمكن التنبؤ دائماً بمفاجآته الدرامية، وقد رأينا على مدى عقد كامل فى منطقتنا الشرق أوسطية كثيراً من تلك المفاجآت التى لا تسر سوى العدو! هل كان يتصور أحد أن ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه فى سوريا الحبيبة على مدى أكثر من سبعة عقود منذ عام 1967، تستطيع فعله فى بضعة أيام ودون أن تخسر جنديًا واحدًا أو تُراق قطرة دم لواحد من جنود الاحتلال!! لكن هذه هى الحقيقة المؤلمة دائماً عندما تختل عجلة القيادة، ويصيب الاضطراب سفينة الوطن، ساعتها يتحول المستحيل إلى واقع مؤلم، لتبقى الشعوب تدفع فواتيره لسنواتٍ طوال. وقبل ما حدث فى سوريا، استطاعت إسرائيل أن ترتكب مذبحة جماعية ضد الكتلة السكانية الأكبر التى بقيت متماسكة من إجراءات التمزيق بسكين الاستيطان الإسرائيلي، وأعنى هنا قطاع غزة، دون أن يفزع العالم المستنيم للهيمنة الغربية من مشاهد القتل الوحشية لأبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم يرزحون تحت قبضة احتلال غاشم لا يرعى فى المواثيق الدولية ولا حقوق الإنسان إلاً ولا ذمة. وتكررت المأساة - وإن بصورة أقل فى العدد لا فى الوحشية- فى لبنان، وبات العالم يشاهد عمليات الاغتيال الجماعية بصمت مخزٍ، وكأنه طفل يتابع لعبة بلاى استيشن، وليس مذابح جماعية تُرتكب بغير توقع لحساب أو عقاب، ولا يوجد - إلى الآن على الأقل- أية ضمانات لعدم تكرار ذلك السيناريو الإجرامى فى جبهات أخرى، طالما بقى «شيك» ما يُسمى ب «حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها» موقعاً «على بياض» من جانب معظم القوى الغربية وفى مقدمتهم: الولاياتالمتحدة لحكومة التطرف والإرهاب فى تل أبيب!! ■■■ قدر الشرق الأوسط أن يبقى ساحة صراع وتنافس، وميداناً ل «لعبة الأمم» التى تسعى فيها الإمبراطوريات إلى استخلاص مصالحها، وامتصاص مقدرات شعوب المنطقة، بقوتها تارة، أو عبر إضعاف دول تلك المنطقة، ورسم الحدود بفرشاة الدم وليس بأدوات الجغرافيا، ولا أعتقد أن أملاً قريباً فى أن تصل المنطقة - فى حدود ما نرى ونتابع - إلى مرفأ هادئ فى المستقبل المنظور على الأقل، وهو ما يفرض على الجميع الحذر والاحتياط، فحروب اليوم لا تخضع لمنطق، والاستعمار الجديد غير جلده وأدواته وبات أكثر نعومة وغموضاً، وأشد فتكاً وضراوة. وما عاناه الشرق الأوسط طيلة العام الماضى أو يزيد قد لا يكون «الأسوأ» إذا ما استمرت موجة الجنون الإسرائيلى تعربد فى جنبات المنطقة، وهو أمر يقتضى تحركاً إقليميًا منسقًا، وضغطاً دولياً غائباً إلى حد الآن، لكن لا بديل عنه، فالمنطقة لا تقتصر المصالح فيها على سكانها وحسب، بل يتشارك العالم الاهتمام والانشغال بحاضرها ومستقبلها، تماماً كما كان دائماً جزءاً من ماضيها. لذلك كان لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسى بعددٍ من قادة القوات المسلحة والشرطة والمحافظين، ثم لقائه بعدد من رؤساء التحرير والإعلاميين، كان لى بالغ الشرف أن أكون منهم، فرصة كبيرة للاستماع إلى قراءة شاملة ومحيطة بكل أبعاد ما يدور حولنا، والرد على جميع الشواغل التى ربما تثيرها الأحداث وتطرحها التطورات الراهنة على أكثر من صعيد، من زعيم وطني، وقائد شاء القدر أن يقود سفينة الوطن فى سنوات صعبة ووسط أمواج وتحدياتٍ لا تهدأ، لكنه عبر 10 سنوات فى موقع القيادة أثبت قدرة وحكمة تمنحنا الثقة والاطمئنان فى المستقبل بمشيئة الله. ■■■ لقاء الرئيس السيسى مع الإعلاميين، تجاوزت مدته الساعة الكاملة، جاء حافلاً برسائل واضحة، ولغة محددة، ومكاشفة ليست بغريبة على الرئيس، بل هى جزء من منهجه وأسلوبه، لم يرفض سؤالاً، ولم يبخل بإجابة، طاف بكل التحديات التى تواجه المنطقة، من بؤرها الساخنة فى سوريا والأراضى الفلسطينية المحتلةولبنان، مروراً بأزمات قد يتصور البعض أن الرماد الذى يعتلى السطح دليل على هدوئها، لكن الحقيقة أن جذوة الخطر لا تزال متقدة تحت ذلك الرماد، كما هو الحال فى ليبيا والسودان والبحر الأحمر. بعث الرئيس برسائل طمأنة بالغة الأهمية لجموع المصريين، استبقها بالإعراب عن تقديره البالغ للشعب المصري، ووعيه وتمسكه ببناء وطنه، والحفاظ على بقاء مصر رقماً صحيحاً فى معادلة المنطقة التى يريد كثيرون فى منطقتنا ومن حولها أن تطغى عليها «الكسور»، وشدد على أن الحفاظ على الأوطان يبقى أولاً وأخيراً قرار الشعوب وحدها، مهما كانت التحديات والمهددات، وأن ما يدور فى المنطقة يتطلب اليقظة والحذر لكنه لا يقتضى الخوف والهلع. عشرات الرسائل عن أن امتلاك مصر للقوة والقدرة يمثل ضرورة للحفاظ على مقدرات الشعب، فضلاً عن التأكيد على أن وحدة وصلابة الشعب أمام التحديات هى الأمر الضرورى لاستقرار الدولة المصرية، ووقوفها بقوة أمام التحديات التى تحيط بها، والتأكيد كذلك على أن «الأصعب» قد مررنا به، ومن المهم أن نسير معاً فى الطريق للانتهاء من الإصلاحات الاقتصادية وتحقيق التنمية المنشودة. الإشارة كذلك إلى حفاظ مصر على توازن علاقاتها الاستراتيجية مع دول العالم، وبخاصة مع القوى المؤثرة وفى القلب منها: الولاياتالمتحدة التى تستعد لاستقبال إدارة جديدة يقودها الرئيس دونالد ترامب، كان إشارة فى غاية الأهمية، فالعلاقات المصرية - الأمريكية ضرورة لحلحلة الكثير من الملفات المهمة فى المنطقة كالوضع فى الأراضى الفلسطينية المحتلةولبنانوسوريا والسودان. ■■■ قد يبدى البعض تفاؤلًا أو تشاؤمًا عندما يحاول أن يرسم سيناريوهاتٍ لمستقبل المنطقة، لكن حتى أكثر السيناريوهات تفاؤلاً لا تخلو من تحديات بالنظر إلى ما يحمله «اليوم التالي» فى الكثير من أزمات المنطقة من صعوبات جمة، يقتضى تضميد الجراح فيها شهوراً وربما أعواماً طوالاً، فضلاً عن حاجة المنطقة إلى إعادة بناء وإعمار تتطلب سنواتٍ من الهدوء والاستقرار، لا يبدو أن المنطقة فى ضوء المعطيات المتاحة تحظى برصيد وافر منه يمكن أن يُستخدم مستقبلاً. أخطر ما تواجهه المنطقة فى حقيقة الأمر، أنه لا يمكن التنبؤ بما سيحدث، وأن الواقع لا يلقى بالاً بأدوات التحليل السياسى أو الاستراتيجى المعتادة، فالقوى الفاعلة فى صناعة المشهد الإقليمى لا تبدو جميعها بادية للعيان، وحالة من الضبابية تكسو كثيراً من المشاهد، مما يجعل التنبؤ بالمستقبل صعباً ومستعصياً، لكن من يجيدون قراءة التاريخ وفهم مقتضياته واستيعاب دروسه يمكنهم أن يستنيروا ببعض حقائقه، وأولها أن كل احتلال إلى زوال مهما طال به المقام. إن إرادة الشعوب، والتمسك بنهج الإصلاح الشامل والمستمر، والحفاظ على مقدرات الأوطان المادية والمعنوية، والتحلى بالصبر والثقة بالله ثم الأخذ بأسباب القوة الشاملة، تمثل كلها طوق النجاة لمن يريدون التحصن من غوائل الدهر وكيد المؤامرات التى باتت فى منطقتنا كقطع الليل المظلم. حفظ الله مصرنا وأمتنا العربية من كل مكروه وسوء.