فى عالم تتغير فيه الموازين السياسية وخرائط الجغرافيا بسرعة، تواجه الدولة الوطنية واحدة من أكبر التحديات فى تاريخها الحديث: محاولات استهدافها وهدم مؤسساتها. إن مفهوم الدولة الوطنية، الذى تأسس على أساس وحدة الأرض والشعب والمؤسسات، يتعرض اليوم لضغوط هائلة تستهدف تقويضه من الداخل والخارج على حد سواء. هذه المحاولات ليست مجرد حوادث عابرة أو عشوائية، بل هى استراتيجية منظمة لإضعاف الدول وجعلها كيانات هشة مفتتة يسهل السيطرة عليها. منذ بداية القرن الحادى والعشرين، تصاعدت المحاولات لإضعاف الدولة الوطنية تحت شعارات براقة مثل "الفوضى الخلاقة" و"التدخل الإنساني" و"تحقيق الديمقراطية" هذه المفاهيم، وإن بدت نبيلة على السطح، كانت فى الأغلب أدوات لإشعال الصراعات الداخلية وتقويض أسس الدول. لقد أصبحت مؤسسات الدولة، مثل الجيش والقضاء والتعليم والإعلام، أهدافًا رئيسية لهذه الاستراتيجية. فالجيش، باعتباره حامى سيادة الدولة، كان دائمًا أول من يُستهدف بالتفكيك أو الإضعاف. الإعلام، الذى يمثل صوت الدولة الوطني، يتم الهجوم عليه والسخرية منه والاستخفاف بدوره وتشويه المحتوى الذى يقدمه بأنه يطرح الأمور برؤية أحادية ويتم وصمه بأنه أداة للتطبيل وهو المصطلح الذى أصبح شائعا لإقصاء الجمهور وعزله عن إعلامه الوطنى وإن كنا نحن بأنفسنا نمارس دور النقد الذاتى، للتصويب وتصحيح المسار ولكن فارق كبير بين الاستهداف الممنهج للهدم والنقد البناء حتى التعليم، الذى يفترض أن يكون حاضنة الوطنية، أصبح ساحة للتلاعب بالقيم والهويات. التفتيت الجغرافى والعرقى والدينى أصبح الوسيلة الأبرز لهدم الدولة الوطنية. يتم تغذية النزاعات الطائفية والإثنية لتفكيك وحدة المجتمعات، ما يؤدى إلى نشوء كيانات صغيرة متصارعة تُفقد الدول هويتها وقدرتها على التماسك. إن استهداف النسيج الاجتماعى يُعد أخطر ما تواجهه الدولة الوطنية، إذ يتم اللعب على الوتر الحساس للهويات الفرعية، لتحل محل الهوية الجامعة فى بعض الأحيان، يتم تقديم ذلك كحلول سياسية تحت مسمى "اللامركزية" أو "حكم الأقليات"، لكنه فى الحقيقة خطوة نحو تجزئة الدول إلى دويلات صغيرة ضعيفة لا تستطيع الوقوف أمام الضغوط الخارجية. فى ظل هذا المشهد القاتم، تبرز مصر كواحدة من الدول التى استطاعت أن تحافظ على هويتها الوطنية ووحدة مؤسساتها رغم كل المحاولات لاستهدافها. لقد أدركت مصر مبكرًا خطورة التفتيت وأهمية الحفاظ على الدولة الوطنية كعمود فقرى للاستقرار. فى عالم أصبح فيه الهدم أسهل من البناء، والصراعات تُدار كأنها مشاريع اقتصادية، تختار مصر الطريق الأصعب: البناء فى وجه العواصف. إنها تعيد تعريف البطولة فى العصر الحديث. البطولة ليست فى القوة العسكرية فقط، بل فى القدرة على الحفاظ على الهوية، وتعزيز المؤسسات، وحماية الشعب من التفكك. مصر ليست فقط دولة تواجه تحدياتها، بل هى نموذج عالمى للصمود. حينما ينظر العالم إلى الشرق الأوسط، يرى فى مصر الأمل فى إمكانية بناء مستقبل مختلف، مستقبل يرفض الفوضى ويختار الوحدة. منذ سنوات، تخوض مصر معركة حقيقية على جبهات متعددة: الإرهاب الذى يسعى لضرب استقرارها من الداخل، والأزمات الإقليمية التى تهدد أمنها القومي، ومحاولات التأثير الخارجى الذى يسعى إلى إضعاف قرارها السياسى لكن رغم كل ذلك، تمكنت الدولة المصرية من تعزيز مؤسساتها والحفاظ على سيادتها ووحدتها الوطنية. مصر ليست مجرد دولة فى خريطة الشرق الأوسط، بل هى البطل الذى يكتب قصة المنطقة. إنها ليست استثناءً من التحديات، لكنها استثناء فى الطريقة التى تواجه بها هذه التحديات. حينما تكتب الأجيال القادمة تاريخ هذا العصر، ستقف عند اسم مصر لتقرأ قصة دولة لم تستسلم للفوضى، بل حافظت على كيانها، وأعادت تعريف دور الدولة الوطنية وسط عالم متغير. لم تكتفِ مصر بالدفاع عن نفسها فقط، بل حملت على عاتقها مسئولية حماية مفهوم الدولة الوطنية فى المنطقة من خلال الوساطة فى الصراعات الإقليمية، ومبادراتها لتحقيق الاستقرار فى دول الجوار، تقدم مصر نموذجًا لدور الدولة القائدة التى تعمل للحفاظ على استقرار محيطها، بدلًا من الانعزال أو الانخراط فى مخططات الهدم. الجيش المصري، الذى كان دائمًا حجر الزاوية فى الحفاظ على استقرار الدولة، يمثل نموذجًا للتماسك والانضباط، وفى ظل الظروف البائسة التى يعيشها الإقليم والانهيارات المدوية لجيوش عربية أصبح الجيش المصرى مطالبا بيقظة غير مسبوقة باعتباره عمود الخيمة للأمة المصرية والعربية بل ويقع على عاتقه مهام جسام أكبر وأضخم من ذى قبل. إن الحفاظ على الدولة الوطنية ليس خيارًا، بل ضرورة لضمان استقرار المجتمعات وتقدمها. الدولة الوطنية ليست مجرد حدود مرسومة على خريطة، بل هى هوية، وانتماء، ومؤسسات توفر للمواطنين الأمن والفرص والحياة الكريمة. ولتحقيق هذا الحلم، تعمل الدولة على مواجهة التحديات على ثلاثة مستويات: 1- تقوية المؤسسات: من خلال ضمان استقلالها وكفاءتها، بحيث تكون قادرة على مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية. 2- تعزيز الهوية الوطنية: عبر نشر الوعى بقيم المواطنة والانتماء، وترسيخ فكرة أن الاختلافات العرقية والدينية ليست تهديدًا بل مصدر قوة. 3- تحقيق العدالة والتنمية: إذ لا يمكن للدولة أن تحافظ على تماسكها إذا لم يشعر المواطنون بأنهم متساوون فى الحقوق والواجبات، وأن الدولة تعمل لتحقيق رفاهيتهم. إن الحلم بالحفاظ على الدولة الوطنية يتطلب من كل فرد أن يدرك مسئوليته فى هذا المشروع. فالأوطان لا تُبنى بالقرارات السياسية فقط، بل تحتاج إلى وعى جمعى وإيمان مشترك بأهمية الوحدة. وسط عالم تموج فيه الفوضى ومحاولات الهدم، تظل الدولة الوطنية هى الحصن الأخير الذى نحتمى به، وحلمنا المشترك الذى لا يمكننا أن نتخلى عنه.