فى ذكرى ميلاده ال113، نسلط الضوء على رحلة البحث عن مسقط رأس الأديب العالمى نجيب محفوظ، الذى حملت أعماله نبض شوارع الجمالية وأزقتها، تلك المنطقة التى شكّلت وجدانه الأدبى، لم تعد تحتوى على البيت الذى وُلد فيه؛ فقد هُدم، وبُنى مكانه منزل آخر، ومع ذلك، لا يزال عبق ذكرياته يسكن الحى، حيث يتذكره الشيوخ، بينما يجهل الكثير من شباب المنطقة أين عاش فترة طفولته، ولكن ذكريات محفوظ فى تلك المنطقة العريقة دفعته إلى العودة لها مرارًا، ليوثق أنه هنا ولد صاحب نوبل، وزرعت بداخله بذرة الإبداع، وتعلق قلبه بحب القاهرة القديمة، ليرسم لنا مشاهد أدبية عظيمة بأسلوبه السهل الممتنع، الذى لم يتكرر فى زماننا ليتوج الأدب المصرى بأديب نوبل جديد، متأثرًا ببيئتنا الخصبة، ومعبرًا عن تراثنا وهويتنا المصرية الأصيلة. فى درب قرمز بالجمالية يقع أول بيت سكنه أديب مصر العالمى نجيب محفوظ سنوات طويلة من عمره، ومنه كان يطل على حارته التى كتب عنها معظم أدبه، وفى ذكرى ميلاده نكشف لماذا لم يتحول منزله إلى متحف، فالبعض يرى أنه بيت عادى، ومتواضع، ويقع أسفله مقهى شعبى، وأمامه قسم شرطة الجمالية القديم، فلا يصلح لأن يكون متحفًا؛ ولكن السبب الحقيقى الذى رواه لنا الحاج أحمد الحسينى من أقدم سكان الحى أن ورثة المنزل يطالبون بمبالغ ضخمة لتركه، ويطرحون فكرة هدمه، واستثمار موقعه من حين للآخر، وهذا حقهم. ولكن كان لصاحب نوبل إشارات أخرى يسرت على وزارة الثقافة اختيار مكان مناسب ليكون متحفًا باسمه، فعندما انتقل مع أسرته إلى حى العباسية، وسكنوا فى شارع رضوان شكرى حيث كان الانتقال الاجتماعى فى هذه الفترة يسير فى هذا الاتجاه.. أن تنتقل من الجمالية إلى العباسية التى كانت محاطة بالحدائق، ولكن «محفوظ» ظل يتردد على درب قرمز ،وبيته هناك فى رقم 8 ميدان بيت القاضى أمام قسم الجمالية وعلى سائر أنحاء الحى العريق، واستكمل ما بدأه من ذكريات الطفولة لتصبح حياة كاملة مرتبطة بالعديد من الأماكن التى وثقها فى رواياته ومجموعاته القصصية، والتى نالت شهرة عالمية. وكان أبرزها ارتباطه الكبير بتكية محمد أبو الدهب التى صدر قرار حينها من وزير الثقافة آنذاك الفنان «فاروق حسنى» فور وفاة «محفوظ» عام 2006، بتحويلها إلى مركز ومتحف للأديب الكبير نجيب محفوظ، ولكن تأخر إنشاؤه 10 سنوات، حتى بدأ تأهيل التكية لتصبح متحفا للأديب العالمى ، وذلك المكان ربما يكون ترجمة حقيقية لما أراده أديبنا الكبير، فقد عشق هذا المكان، وارتبط به نفسيا منذ ولادته، وذلك ما وثقه فى حواراته مع الأديب الكبير الراحل جمال الغيطانى فى كتابه «نجيب محفوظ يتذكر»، الصادر عام 1980.. وذلك ما أكد أن علاقة نجيب محفوظ بالأماكن علاقة روحية خالصة، فلم يكن المكان عنده عالما مغلقا على ذاته، بل كان حياة كاملة لا ترتبط بزمان، أو مكان محدد، وكان يأتى بالمكان، ويضفى عليه من خيالات،ه فيستحيل عالما يتنفس قلقا، ورقة، وطيبا، ويضخ فيه من الكلمات، والصور الشعرية ما جعل من الحارة الضيقة، والأزقة المتعرجة عالما واسعا، ودنيا أخرى تعج حبا ،وأملا. فإذا تأمل القارئ نصوص محفوظ الأدبية، يجد معظمها يدور فى دائرة جغرافية لا يزيد قطرها على « كيلو مترين» فى منطقة الحسين، والجمالية فى قلب القاهرة الفاطمية، والعجيب أنه صنع من هذا العالم الضيق دنيا بأسرها، وانطلق من المحلية الضيقة إلى رحابة العالمية، فمن وحى الجمالية أخذ فكرة «الحارة» التى أصبحت عنده رمزا للمجتمع والعالم، بل رمزا للحياة والبشر، وأطلق عليها أسماء كثيرة من رواياته مثل: «خان الخليلي، «زقاق المدق» ، «بين القصرين» ، «قصر الشوق» ، «السكرية» ، فكل هذه الروايات هى أسماء حارات صغيرة وضيقة وملاصقة لمقام سيدنا الحسين رضى الله عنه. ومن الحارة، والتكية استلهم شخصية «الفتوة» التى تظهر كثيرا فى رواياته، والفتوة عنده رمز للسلطة فى كل وجوهها، وتقلباتها المختلفة بين العدل والظلم، والسماحة وضيق الأفق، والعنف والاعتدال والشهامة. فكانت الحارة هى عشقه وملتقى أحبابه، كما كانت التكية هى ملاذه، ومكان عزلته وأمانه، والتكايا أوقاف كان يشيدها الأغنياء ويخصصون لها ريع وقف تقربا إلى الله تعالى، ويتردد عليها الفقراء، وعابرو السبيل للمبيت والمأكل والمشرب.. ووصف محفوظ التكية فى أغلب رواياته، وتطرق إلى الحياة داخلها حتى جعل من أحجارها حياة تتنفس، وذلك ما ذكره فى ملحمة «الحرافيش»: عندما قال: «وكلما ضاق صدره مضى إلى ساحة التكية، يؤاخى الظلام، ويذوب فى الأناشيد، وتساءل مرة فى حيرة: ترى أيدعون لنا؟ أم يصبون علينا اللعنات؟ كما قال: «رغم تعاسة حارتنا فهى لا تخلو من أشياء تستطيع إذا شاءت أن تبعث السعادة فى القلوب المتعبة». وفصل «محفوظ» بين أهل التكية، وعالم الحارة بسور باطنه الحكمة، والغناء، والأشعار، وظاهره صور من جبروت واستبداد البشر، حتى تأتى الذروة الدرامية، حين تخلو الساحة للمصير المحتوم، ويواجه أبطال الملحمة محنتهم فرادى، تنساب أناشيد التكية بحثا عن العدل الغائب بين الأحياء. ورغم كل ما حمله من عشق لحوارى القاهرة القديمة والتكية إلا أنه كان متعلقًا بذلك البيت الذى لم يعد موجودًا، وتحدث عنه فى كتاب الغيطانى قائلًا: «عندما أرحل بذاكرتى إلى أقصى بدايات العمر، إلى الطفولة الأولى، أتذكر بيتنا فى الجمالية، والبيت يرتبط فى ذكرياتى دائما باللعب، خاصة السطح فيه مجال كبير للعب.. كنا أيضا نلعب فى الشارع، مع أطفال وبنات الجيران، كان البيت يقع فى مواجهة قسم الجمالية القديم، يطل على ميدان بيت القاضي، وأذكر أنه كان البيت رقم 8، وكنا نتبع مشيخة درب قرمز، والآن يبقى لنا التذكير بأن البيت المكون من ثلاثة طوابق وتحته مقهى، متفرع من ميدان القاضى الذى احتفظ بصفاته المعمارية القديمة مثل حارة درب قرمز ويمتد على طول طريقه مساجد القاهرة الفاطمية ولد به صاحب نوبل، ونبتت به زرعة إبداعه، وكان سر تميزه وبساطته.. فمن هذه المنطقة العتيقة كان يذهب إلى الكتاب، بحارة الكبابجي، ثم التحق بالمرحلة الابتدائية بمدرسة مواجهة لمسجد الحسين، ومن تلك المدرسة رأى المظاهرات، وشهد اندلاع ثورة 1919، مشيرًا فى مذكراته التى كتبها «الغيطاني»، أن أكبر شيء هز الأمن الطفولى فى نفسه هو ثورة 1919، عندما رأى الإنجليز وسمع ضرب الرصاص، ورأى الجثث والجرحى فى ميدان بيت القاضي، وشاهد كيف كان الهجوم على القسم، وذلك ما جسده ببراعة فى ثلاثيته الشهيرة.. ويضيف محفوظ فى ذكرياته: فارقت الجمالية إلى العباسية وعمرى 12 عاما، ولم أنس الجمالية، حنينى إليها ظل قويا، دائما كان حنينى يشدنى إلى العودة إلى الجمالية، وذلك بسبب صديق من شلة العباسية توقف عن الدراسة وعمل مع والده فى محلات القماش القديمة بمنطقة الحسين، وعرفت «زقاق المدق» بفضل صاحبنا هذا، والحقيقة كان بينى ،وبين المنطقة، وبين الناس ،والآثار هناك، علاقة غريبة، تثير عواطف حميمة، ومشاعر غامضة، لم يكن ممكنا الراحة منها فيما بعد إلا بالكتابة عنها».