أحمد الزناتى صدر الكتاب قبل أسابيع قليلة، وكعادتى لم يقرّ لى قرار إلا بعدما رقد إلى جوار أشقائه، العمل بعنوان (فلسفة الترجمة) للكاتب والمترجم داميون سيرلز، وقد صدر فى 29 أكتوبر الماضى، ويتناول موضوعًا حيويًا وشائقًا متصلًا بفلسفة الترجمة بوصفها عملية إبداعية تمزج بين الفهم الثقافى والقراءة النقدية، وقد ازداد إعجابى بالكتاب لمّا علمت أن المؤلف مترجم عن الألمانية، نقل أعمال الكِبار الذين أحبّهم وترجمتُ لهم (هيسه، ريلكه وروبرت فالزر). أما عن المؤلف فهو يجمع بين خبرته العميقة ككاتب مفكَّر ومترجم لأكثر من ستين كتابًا وبين رؤيته الفلسفية التى تضع الترجمة فى قلب النشاط الإنسانى. وبما أننى رجل انتقائى آخذ من النصوص والكتب والحياة عمومًا ما يروقنى، ويُكمل ثغرات أفكارى، وأرمى بالبقية فى البحر، فسأتطرّق إلى نقاطٍ بعينها. يعتمد الكتاب على أمثلة من تجارب المؤلف، كترجمته لمحاضرات عالم الاجتماع الألمانى ماكس فيبر أو حين يشير أعمال أدبية معقدة من لغاتٍ مختلفة مثل: الألمانية، والفرنسية (بروست) والنرويجية (يون فوسه)، ويوضح سيرلز كيف يمكن أن تؤثر هذه القرارات على فهم النصوص، مشيرًا إلى أن الترجمة هى شكل من أشكال الإدراك الشخصى والقراءة التأملية، وهى النقطة المهمة فى اعتقادى. المقولة الأساسية فى كتابه أن الترجمة هى شكل من أشكال التأويل الأدبى الذى يستلزم الانسجام مع السياق الثقافى، مؤكدًا أنه «لا توجد قواعد فى الترجمة، بل قرارات فقط»، ومشيرًا إلى أن النص «يقترح أو يتيح لنا مجموعة كبيرة ولكن غير محدودة من الترجمات المناسبة» التى يجب على المترجمين الاختيار من بينها. ويقول سيرلز: كيف إن ترجمته لمحاضرات ماكس فيبر التى كانت مُوجّهة إلى الناس العاديين فى أواخر عشرينيات القرن العشرين سعت إلى إعادة خلق التجربة التى كان سيخوضها الجمهور المعاصر الناطق بالإنجليزية، مما تطلب منه التركيز على التأثير العام للنص بدلاً من الدقة فى اختيار الكلمات، وهو ما يوافق رؤيتى الشخصية فى نظرية الأثر عند الترجمة، فيضرب مثلًا برواية Herkunft «بترجمة حرفية أصل» للكاتب الألمانى اللسان، البوسنى الأصل ساشا ستانيشيتش، التى ترجَمَها إلى الإنجليزية تحت عنوان (من أين أتيتُ) بهدف استحضار دلالات النص الأصلى التى تشير إلى رحلةٍ انطلقت من نقطة بعيدة. ثم ينقل رأيًا للعلامة الأمريكى الراحل جورج شتاينر، إذ يقول: «صاغ جورج شتاينر فى كتابه «ما بعد بابل: جوانب اللغة والترجمة» (1975) [ولا أعرف ماذا تنتظر دور النشر لنقل هذه الدرة الفاخرة إلى العربية!؟ ، الحالة الإنسانية والثقافية برمتها بوصفها عملية تفسير وإعادة صياغة، أو باختصار، ترجمة. ولقد كان هذا الكتاب، الذى كُتب قبل ظهور دراسات الترجمة على الصعيد الأكاديمى، أكثر حرية فى التنقل عبر الزمان والمكان من الكتب التى صدرت فى عصرنا الأكثر تخصصاً. ولا يسعى كتابى الحديث هذا لتناول الأشياء من «موقع شتاينر» الأوليمبى الفوقي ، يقرر كل شيء من أعلى من برج عاجى ، ولكنه يسعى إلى تقديم استبصارات حول ماهية الترجمة وكيف تؤدى وظيفتها، ويتحدى ويصحح بعض الأفكار السائدة حول الترجمة. آمل أن أتجاوز إلى حد ما مجال «نظرية الترجمة».. يبدى شتاينر انزعاجه الشديد فى كتابه «بعد بابل» من الأشخاص الذين يزعمون أنهم يقدمون أى نظرية ترجمية على وجه العموم، وهو ما يعنى به أى «معنى نظرى» قابل للتعميم الاستقرائى والتنبؤ وقابلية إثبات الخطأ من خلال الأمثلة المضادة». ويزعم شتاينر أنه ليس من الممكن وجود علم الترجمة، إذ لا يوجد نموذج منهجى للهيكل العام والسلامة المعرفية لتحديد آليات نقل المعنى بين اللغات، وسأقول: إن النظرية تخلق بطبيعة الحال توتراً مع الممارسة والممارسين، ففى حين تتعارض النظرية مع الممارسة من حيث التعريف، فإنها تميل أيضاً نحوها، وتشير دائماً إلى حماقة أو استحالة محاولة الانخراط فى الممارسة دون تطبيق النظرية. إن كل المعضلات الفلسفية التى تدور حول ما إذا كانت الترجمة «تعكس» أو «تحوّل» ما هو موجود فى النص الأصلى لابد وأن تُزاح جانباً. وأنا أسأل: لِمَ يستحيل وجود نظرية شاملة للترجمة، أو نموذج منهجى عام لنظرية الترجمة. قبل ربع قرن، عندما كنت فى العشرين، وأنا فى طريقى إلى الجامعة، يُقلّنى ترام مصر الجديدة المراجيحى إلى العباسية، طرأتْ بذهنى فكرة أن العلاقة بين الأصل والترجمة كالعلاقة بين الله والبشر، لا سبيل إلى الإحاطة بالأصل - بالمعنى المجازى للكلمة - إلا عبر رسالة/وسيط (أنبياء وكتب سماوية)، وحتى هذه الإحاطة مقصورة على الصفات والتجليات. اللغة هبة ربانية (وعلَّم آدم الأسماء كلها) (سورة البقرة 31)، ومن ثم فطبيعة اللغة غيبية، وغامضة. كل الرسالات السماوية هى ترجمات للمقصد الأسمى والحكمة الأعلى التى لا سبيل إلى الوصول إلى غايتها إلا عبر الترجمة، أى عبر وسيط. تكلم ألبريتو مانجويل فى محاضرة مشهورة ألقاها السنة الماضية عن فن الترجمة عن تحليل مفردة pure عبر الإشارة إلى القرآن الكريم وسورة العلق. النص القرآنى على حد تعبير مانجويل تمثيل لغوى لكلام الله الأزلى الموجود فى أم الكتاب وفق الفهم الإسلامى، وبالتالى يستحيل نقل/ترجمة القرآن الكريم (بأثره اللغوى والشعوري) إلى لغة أخرى غير العربية، يجوز طبعاً نقل المعانى العامة، لكن إعادة إنتاج pure text كالنص الأصلى هو المستحيل نفسه (بل إن القرآن المجيد فيه آيات لا يعلم تأويلها إلا الله بنصّ القرآن). فى كتاب بلاغة النور - جماليات النص القرآنى لنافيد كيرمانى، لفت نظرى قراءة/تأويلات العلماء المسلمين والمستشرقين والمترجمين، للآية 35 من سورة «النور» (الله نور السموات والأرض)، فالصور المتتابعة فيها بشكل مذهل، وثمة صعوبة فى التعرف على الفاعل فى أجزاء الكلام، المستمع يفكر ما الذى يُوقَد تحديدًا من الشجرة المباركة (منذ متى تُوقد الأشجار قبل أن تصير حطبًا؟ هكذا يسأل د. كرماني): الكوكب الدرى أم الزجاجة أم المصباح؟ وهل للشجر زيت تُضاء به؟ يقول المستشرق جولدتسيهر: إنه لا توجد آية فى القرآن أكثر احتشادًا بالأسرار والمعانى الخفية أكثر من هذه الآية (وربما أحيل القارىء إلى تأويل الإمام أبى حامد الغزالى فى مشكاة الأنوار وسيقرأ العجب العجاب، وكذلك كتاب أعمال الغزالى لعبد الرحمن بدوى فيه تفاصيل مهمة)، ثم أصل الآية 39 من سورة النور، وأحاول تحليل الصورة البلاغية فيُشلَّ عقلى ولسانى، وأدرك أن سر اللغة عند خالقها. فى فصلٍ بعنوان ترجمة الكلمات يقول المؤلف: «ليست مهمة المترجم إيجاد الكلمة الملائمة لكلمة أجنبية معينة»، وهى مقولة بدهية، إلا أن الرجل يفاجئنا إذ يقول: يكتب يون فوسه «الحائز على نوبل فى الأدب 2023» مشاهد طويلة تشبه الأحلام، حيث تتعايش العديد من الأحداث والأطر الزمنية فى الوقت الحاضر؛ أخبرنى ذات مرة عن كتابه «أليس عند النار» أنه يعتقد أن «بنية الكتاب» فى ترجمتى «أوضح من الأصل»، وأعتقد أن هذا يرجع إلى أن اللغة الإنجليزية، أى ترجمتى الإنجليزية من كتابه، تعمد إلى التمييز بين الحاضر والمضارع المستمر، وهو أمر غير مُتاح له، للتنقل عبر هذه الأطر الزمنية، أما إذا كنا نريد أن تكون الترجمة أكثر وضوحًا من الأصل فهذه مسألة مختلفة). كانت أول مقالة منشورة لى، قبل أن أصبح مترجمًا، عبارة عن حكاية شخصية محورها قراءة رواية ويلا كاثر الرائعة «بيت الأستاذ»، لقد استغرقت نفس المقدار من الوقت لقراءة أول أربعين أو خمسين صفحة الذى احتجتُ إليه لقراءة بقية الصفحات. لماذا؟ لم تكن هناك كلمات أصعب فى البداية، ولم تكن اللغة الإنجليزية فى الرواية غريبة عليَّ، ومع ذلك بطريقة أو بأخرى، كان عليَّ «أن أتعلَّم» لغة الكتاب، وبعد أربعين أو خمسين صفحة تعلمتُها. فهم «لغة» الكتاب/النص، لا اصطلاحيًا، بل فهم الطريقة التى يفكِّر بها وهو يكتب نصَّه. وأظن أن هذا منطبق على اللغة بوجه عام، ضرورة أن يستشعر الإنسان «مذاق النص» كما أحب القول، حتى وإن كانت نصوصًا غير أدبية، حتى النصوص المجرّدة تستلزم ذوقًا أو محاولة فهم دماغ المؤلف (مهندسًا كان أم طبيبًا أم قاضيًا، إلخ). أكُلّف أحيانًا بالترجمة التتبعية / الفورية فى بعض الأماكن، ومن فترة ترجمت فى أحد المؤتمرات الصناعية، صدرت عنها توصيات فنية. بعدها تواصلت معى الجهة لترجمة كتالوجات ووثائق، واعتذرت طبعاً، وبعد إصرار منهم على الأقل بمراجعة ما تمّ ألقيت نظرة على الكتالوجات، عرفت أن الورق ذهب إلى مترجمة شابة أنجزت شيئًا قليلًا، ولم تستطع إكمال المهمة. راجعت واكتشفت أنها ترجمَتْ مصطلح «البَرْشَمة»= بالإنجليزية riveting ،والجملة فى الأصل: (يُحظر على العمال البَرْشمة خارج الورش والأماكن المُخصصة)، بما يوزاى تعاطى المخدرات، مع أن بحثًا بسيطًا على جوجل (أو على الأقل common sense) سيخبرها أنه مصطلح فنى راسخ معروف فى اللحام، ويعنى وصل قطعتى معادن، أو كلمة الأجَنَة ترجمَتْها الأجِنّة (جميع جنين)، طبعاً لا يوجد تشكيل حروف فى هذه النصوص، وهى أشياء يُطلق عليها فى علم الترجمة Jargon = أى لغة اصطلاحية مهنية، لكنه كان سببًا أدعى لأتأمل أدمغة البشر فى عالم اليوم، وكيف انتقلت البَرْشَمة من ورش اللحام إلى العقول، وحاليًا إلى الفضاء الأزرق. من بين النقاط المهمة التى استرعت انتباهى إشارة المؤلف إلى رأى الكاتبة الأمريكية جيرترود شتاين حول الترجمة، حيث ينقل عنها: «قالت جيرترود شتاين شيئًا أفكر فيه كثيرًا: ليس الوضوح هو المرغوب فيه بل القوة»، وهو ما أسمَته أيضًا «حيوية الترجمة»، حيث كتبتْ شتاين بنصاعة أسلوبها الذى لا يُضاهى أن «الوضوح غير ذى أهمية، لأن لا أحد يستمع إليك، ولا أحد يعرف ما تقصده تحديدًا، ولا مدى وضوح ما تقصده»، ولكن إذا تمتعتكَ بالقَدْر الكافى من الحيوية لقول ما تقصده، أو على الأقل إذا كانت تمتلك معرفة كافية بما تقصده، فلن يكون أمام الناس إلا قبول حقيقة أنك تقصد شيئًا محددًا، وليس مربط الفرس هو وضوح الترجمة، بل قوتها. النص هو استعمال اللغة استعمالًا يمارس فعل القوة، ويحقق إمكاناتٍ مختلفة فى اللغة، ويؤكد أو ربما ابتكر أشياء يمكن للغة أن تفعلها. إن الكلام الذى ننظر إليه بهذه الطريقة ليس فكرة أو رسالة أو فعلًا يتم توصيلها من خلال اللغة. يذهب عديد من المترجمين الممارسين إلى أننا نترجم لخلق نفس التأثير فى الترجمة كما فى الأصل. وأوضَح تأكيد لهذا التعريف هو حالة الفكاهة، فإذا احتوى النص الأصلى على نكتة، فينبغى أن نضيف روح الفكاهة إلى الترجمة، ولا يهم إذا كانت نكتتنا الجديدة تحتوى على محتوى حرفى مختلف عن النكتة الأصلية، وهو ما أفعله شخصيًا». أحالتنى هذه الفكرة المُلهمة إلى فكرة روائية تشغل ذهنى منذ فترة، اعتدتُ وأنا أكتب أو أعمل ليلًا الاستماع مرارًا وتكرارًا إلى مسرحية فاوست لكريستوفر مارلو بترجمة رشاد رشدى. لستُ متأكدًا لو كان هذا اقتراح المخرج أم رؤية رشاد رشدى (أستاذ د. محمد عناني)، لكنى رأيته حلًا ذكيًا، أقصد لما وردت جُمل بالعامية المصرية على لسان خادم فاوست، حيث يقول: «أنا عارف ومش عارف، أنا راجل غلبان مالوش فى الثور ولا فى الطحين». صحيح أن المسرحية كلها مترجمة بعربية رصينة، لكن هذه الحلول الذكية المُوظفّة بحدود ووعى لها قدرة تأثيرية فعالة، وهنا أرى تجلّى مصطلح قوة الترجمة حيويتها الذى ذكَرَته جيرترود شتاين. أعجتنى كذلك رؤية طه محمود طه فى ترجمة عوليس، وهو أسلوب مقبول (ومحبذ) فى عمل معقد مهيپر مثل: رواية جويس، الأمثلة كثيرة، أخفها دماً فى أثناء مرقعة ربة الصون والعفاف موللى بلوم فى السرير وهى تسأل ليوبولد: فيه ريحة شياط ..إنت سايب حاجة على النار؟ أو وهو يشرح لها معنى مصطلح تناسخ الأرواح، فتجيبه بسخريتها الماجنة: أرواح؟ آه.. إلّا وراح فين بعدها؟ بلا وجع دماغ..قل لى كلام عادى. هنا تتضح الحيوية التى كان يقصد إظهارها جيمس جويس (فى اعتقادى الشخصى): حيوية اللغة، وحِسّية موللى بلوم، لكنى أظن مع ذلك أن هذه الحلول لا علاقة لها بطبيعة النص بقدر ما هى متعلقة بشخصية/طبع المترجم نفسه، أقصد لو اطلَّع عبد الرحمن بدوى مثلاً على ترجمة عوليس هاته لنظر إلى الجميع شذرًا، ومضى وكأن لم يسمع شيئا ولم ير شيئًا، فما أشار إليه عبد الرحمن بدوى موجود، وما لم يُشر إليه عبد الرحمن بدوى لم يوجد من الأساس، قمامة إلى البحر، وكأن العالَم يبدأ عنده وينتهى. فى الفصل الختامى ويحمل عنوان Coda، يقول المؤلف: إن الشِعر هو الذى يضيع فى الترجمة، ثم يتساءل: ولكن ما معنى ذلك؟ وكأن الرجل يتناصّ مع مقولة الجاحظ «والشعر لا يُستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوّل تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب منه». يقول المؤلف: «أعتقد أن التفسير المبدئى لهذه العبارة هو أن الشِعر الحقيقى لمعنى ما يكمن فيما يتجاوز الكلمات، صحيح أن الترجمة تستطيع نقل الكلمات، لكنها عاجزة عن نقل ما يعبّر عنه النص الأصلى تعبيرًا ملموسًا. ومع ذلك فليس هذا التفسير منطقيًا تمامًا، لأنه إذا كان «الشِعر» داخل قصيدة هو جوهرها غير اللفظى أو معناها الحقيقى العميق أو فكرتها الأفلاطونية، فإن لغة القصيدة الأصلية لا علاقة لها بهذا الجوهر. وعليه، سواء تمت ترجمة الكلمات إلى الفرنسية أو الصينية أو الإنجليزية، فإن الكلمات الجديدة سيكون لها نفس القدرة على نقل الفكرة مثل الكلمات الأصلية. ما يقصده شعار فروست «شاعر أمريكي» وهو محق فى ذلك – هو أن «الشعر» يكمن فى العلاقة أو الارتباط بين الكلمة والجوهر، فى استدعاء أو إيصال الفكرة عبر اللغة. وبما أن الشعر هو شيء تؤدّيه به الكلمات، فإن ذلك الشعر المحدد يُفقد عندما يتم تغيير جميع الكلمات. لكن من الصحيح أيضًا أن الشعر يُخلق فى الترجمة، لأن الكلمات الجديدة فى اللغة الجديدة تدخل فى علاقة جديدة مع الفكرة، وتوصل ما توصل إليه بطريقة جديدة»، وقد جذبتنى هذه الفقرة لعلاقتها الضمنية بما قلتُه آنفًا عن استحالة ترجمة اللغة القرآنية، والقياس مع الفارق بالطبع. ربما أختم هذه المادة بالفقرة التالية الكاشفة عن تجربة عُمر مع الترجمة، إذ يقول: «فى أثناء تأليف هذا الكتاب أدهشنى تنوع الاستعارات المُستخدمة لوصف الترجمة، وكلها صحيحة بطريقتها الخاصة، فهى تبرز جوانب مختلفة من هذه العملية. أحد التشبيهات هو أن المترجم «يعزف قطعة موسيقية»؛ فعندما تستمع إلى عزف جلين غولد إذ يعزف موسيقى باخ «هل يشير صاحبنا إلى رواية الخائب لتوماس بيرنهارد؟»، فأنت تستمع إلى باخ بالفعل، مع أنك تستمع فى حقيقة الأمر إلى جلين جولد. من جهة أخرى إذا أردنا تأكيد التغييرات التى تطرأ على النص فى أثناء الترجمة، يمكننا القول إن المترجم يعيد «توزيع» معزوفة بيانو لتتناسب مع السيمفونية، هذه الاستعارات تنطوى على شىء من التناقض، لكنها تحمل جوانب من الحقيقة. فى دون كيخوته تُوصف الترجمة بأنها تشبه رؤية نسيج فلمنكى من الجهة الخطأ «وقريبًا سنقِّدم مفاجأة حلوة للقارىء العربى فى هذا الصدد» ترى الأشكال لكنها مغطاة بخيوط تفسد وضوحها. وصفت مارجريت سايرز «مترجمة أميركية عن الإسبانية» الترجمة بأنها إذابة عمل أصلى وإعادة تجميده، لتُنتج مكعبات متكافئة فى الوظيفة رغم تغير جزيئات الماء. أما فالتر بنيامين فقد شبّه الترجمة بعباءة ملكية تحيط النص. يرى مايكل إيمريش «مترجم أميركى عن اليابانية» يرى المترجم شبحًا يعيش بين اللغات والثقافات دون انتماء كامل لأى منها، تُولِّد الترجمة استعارات رائعة لقراءة النصوص وكتابتها، وهو أمر يعكس الخيال الإبداعى للمترجمين والكتّاب الذين يحملون هذه الرؤية. والحق أن ترجمة النصوص ليست نسخة أقل قيمة من الأصل، بل هى الوسيلة الُمثلى للوصول إلى الأصل». وإن كنتُ أظن استحالة الوصول إلى الأصل، وهذه الجملة للعبد لله.