قبل زمن قرأت قصة تراثية عن ملك رغب فى امتلاك المعرفة لكنه كان كسولًا إلى درجة الاكتفاء بالتمنى وبطلب إلى حكيم قصره بأن يلخص له الكتب.. صفحتان! لا هذا كثير. إذًا صفحة. لا وقت. نصف صفحة إذًا! هذا جيد إنما.. ألا توجد وسيلة لتلخيص الكتاب فى جملة أو جملتين على الأكثر! لا أذكر كيف انتهت قصة الملك وحكيمه، نسيتهما وإن جالت فى نفسى الأمنية الملكية، الحصول على خلاصة الأمر بلا تعب أو مجهود القراءة والبحث، لكنه مطلب فوق أنه مستحيل فإنه ساذج ذلك أننا نكتشف مع التعود على القراءة أنها الفعل الوحيد المتصل بالمعرفة، عبر أدواتها: الجدل مع كل جملة، السعى إلى الفهم والتدرب على تكوين آراء نقدية، عدم التهيب من الاعتقادات المخالفة، والأهم الاعتراف بالجهل والتواضع كسمتين أساسيتين للتعلم. الملك السابق الإشارة إليه سيئ الحظ لأنه لم يعش عصرنا المدار بالتطبيقات الإلكترونية والذكاء الاصطناعى، عصر ليس فى حاجة إلى حكماء يعصرون أذهانهم للبحث عن حقائق، ليس لأنه لم يعد لها قيمة بل لأن ثمة بشارة ووعداً بإمكانية الوصول إليها عبر رفاهية ملكية.. تطبيقات تقوم على تلخيص الكتب وتقديمها للقارئ فى عدد كلمات أقل ووقت أقصر وعلى الأغلب فى صيغ مبسطة تخلص الأعمال من صعوبات قد يفرضها موضوعها، وهذا يعنى بداهة أن التركيز فى عملية التلخيص يقوم على تقديم الأفكار الأساسية مع تجنب ما يتطلب الجدل لأن هذا ضد الهدف من عملية قائمة على تمجيد السرعة. ثمة نوع جديد من الثقافة يفرض نفسه ومعه تتغير عملية التعلم والاستيعاب التقليديتين، المفارقة أنه مع تقدمه المذهل إلا أنه قائم على التلقين، الأسلوب القديم ذاته لكن الفارق الوحيد أن السلطة المهيمنة عليه ليست بشرية بل آلة وفيما يحتدم النقاش حول مدى قدرتها على منافسة الإبداع البشرى تتضاعف قدراتها مرات فى أزمنة قياسية بفعل إمكانات لا محدودة على إجراء العمليات الحسابية المعقدة فى زمن يسير والخروج بمعطيات ونتائج من غير المرور بمرحلة التجربة بشكلها الإنسانى، وبمعنى آخر فقد وهبنا الآلة الفكرة الأساسية ولم يبق إلا أن تتعلم الوسيلة الأفضل لتلقيننا وإرشادنا ولن يستغرق هذا الكثير ليكتمل فى شكله النهائى! هناك أشكال عدة لتطبيقات تلخيص الكتب بعضها احترافى ومفيد إذا كانت النية استخدامه لتقديم ملخص واف عما سبق قراءته بالفعل، أو للتدرب على كيفية قراءة كتاب وكيفية الخروج بالنتائج العامة بعد سابق الغرق فى التفاصيل، كما أنها قد تكون مفيدة على صعيد إجراء المقارنات بين الأعمال وبعضها. تساعدنا الملخصات، التى هى هنا بديل لأقوال الحكماء، على رؤية الاختلافات وتتبع التغيرات والتطورات فى عمل حقل معرفى ما وإسهامات الثقافات المختلفة فيه. هذا ما يفترض استخدام الذكاء الاصطناعى فيه، هذا ما يقوله الخبراء وما تقوله أى أداة من أدوات ذلك الذكاء حين سؤالها عن تلك التطبيقات المساعدة فى قراءة الكتب أو غيرها من تطبيقات يتم التوسع فى استخدامها وتحل مكان أفعال أخرى مثل القراءة كالصداقة، الحب، الإرشاد الروحي، التدريب الرياضى، نسمع الكثير من النصائح والمطالبات بضرورة التروى والتمهل فى هذه الثورة، التى قد تفوق كل ما مر به البشر قبلًا، غير أنه من الواضح أن الإغراء فى التورط مع أداة واقعية تجارى سرعة وغزارة الخيال البشرى يعمى بصائرنا عن الأخطار. التلاحم والتواصل غير المسبوقين بين البشر والآلة يصنع عالمًا مغايرًا بالكامل تتغير فيه كل القواعد المألوفة لتلقى المعرفة، وعلى رأسها تلك العلاقة الجوهرية التى نشأت عليها الحضارات بين طالب صامت يتلقى العلم ومعلم صبور هدفه تمرير معرفته إلى الأجيال التالية، تنهدم العلاقة بصورة دراماتيكية مع تحول كليهما إلى متابعة إملاءات طرف ثالث يستخلص النتائج من حصيلة المعطيات التاريخية السابقة ليقدم ما يوحى بأنه المطلوب بعد اختصار مراحل التعلم التقليدية إلى الحد الأدنى. كم كنا ننفق من وقت لقراءة كتاب ما؟ يختلف الزمن بحسب عوامل عدة كل منها يؤثر على الآخر، نوع الكتاب ومجاله ودرجة تخصصه ثم ما يقود إليه من قراءات على هامشه تثرى الفهم لموضوعه أو تفتح الباب لمباحث تتصل به. فهل ما زالت عادات القراءة على حالها أم غيرتها تطبيقات الهواتف والذكاء الاصطناعى، وبالتالى ما شكل الثقافة الذى ترسمه للمستقبل القريب هنا على المستوى المحلى بشكل خاص، وعالميًا؟ على الأغلب نحن فى حاجة للعودة إلى كتب وروايات وأفلام الخيال العلمى المنتجة قبل سنوات، تلك التى رسمت شكل العالم الذى تنفتح أبوابه حاليًا، الأعمال التى طالما شاهدناها وقرأناها وعلى شفاهنا بسمة إعجاب من شطحات الخيال ثم نكتشف أنه كان الأجدر بنا دراستها باعتبارها خرائط ترسم شكل عصرنا المقبل، ليس فقط ما الذى ستكون عليه الثقافة، بل كيف سيكون الإنسان نفسه والسلطة الجديدة غير المتوقعة التى لن يكون ثمة مجال للحوار معها فى فرضها نظاماً عالمياً جديداً يقوم على هيمنة الآلة هذه المرة. ربما لا يوجد اتفاق على أمر ما فى مسيرة البشر بقدر الصراع الدائم بين العقل فى سعيه إلى التحرر وعدم فرض قوانين عليه من خارجه وبين سلطة ترى أنه لا بد من فرض الانضباط تحقيقًا لصالح الأغلبية انطلاقًا من أن الحرية المطلقة للعقل فى ظل قواعد الحياة الطبيعية الممنوحة لنا لن تنتج إلا الفوضى، ليس ضروريًا هنا الانحياز لنظرية منهما بقدر التأكيد على أن ناتج الصراع بينهما خلف لنا معارف قراءاتها المدققة تعطينا سبلًا للتفكير فى واقعنا على المستوى الفردى والجماعى، وأن العمل الأساسى للتطبيقات الإلكترونية يقوم على مبدأ يناقض مسألة الحوار هذه تمامًا إذ يجرى الترويج والتبشير بكثافة تمهيدًا لسيطرة الآلة على العقل باعتبار أنه لا مقارنة فى نسب الخطأ بين العنصرين. من السهل ملاحظة علامات وملامح لشكل العصر الجديد، نظرة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعى تقدم لنا صورة جلية عما سيكون عليه الحال، وجهات نظر حدية تكاد تصل إلى حد التطرف فى إيمانها برأيها فى مقابل نفى تام للآخر الذى يسلك السبيل نفسه، لا مناطق وسط تجمع الطرفين، ولا نقاط مشتركة أو رغبة فى اكتشافها، وهذا نمط تفكير آلى بامتياز تسود فيه حقائق يبثها الذكاء الاصطناعى إلى متابعيه ومع الوقت تقل المساحة الممنوحة للبشر للتدخل أو للتعديل ولم يعد خياليًا جدًا ما قرأناه فى روايات توقعت امتلاك الآلة لإرادة مستقلة بعد تحليلها للبيانات وتوصلها إلى أنه من الأفضل للبشر ألا يكونوا أحرارًا. بحثت مطولًا بين التطبيقات المعنية بتلخيص الكتب، قارنت بين الأنواع المختلفة.. المزايا والعيوب وسعدت بما تعد به من توفيروقت ومجهود، لكنى فيما أستمع إلى تلخيص لكتاب ما لم أقرأه قبلًا انتبهت إلى أنى سأكون نسخة إضافية مماثلة لآخرين استمعوا إلى التلخيص نفسه، تسيرهم قناعات مشابهة، ويعبرون عنها بإيقاع متناغم بأقل قدر من العيوب والأخطاء كما ينبغى لمن تلقوا تعليمًا آليًا.. أخافتنى تلك الصورة المستقبلية فحذفت التطبيق وفتحت كتابى الورقى أدون ملاحظاتى حوله بالورقة والقلم زاهدًا فى معرفة تأتى عبر طرق ملَكية!