مبادرات القراءة ومسابقاتها أصبح لها حضور ملموس فى المشهد الثقافى المصرى. خصوصا عقب إطلاق "المشروع الوطنى للقراءة" الذى تنظمه مؤسسة البحث العلمى وتشارك فيه عدة وزارات منها التعليم والتعليم العالى والشباب والرياضة والثقافة. وما أعقبه من مشروعات مماثلة داخل قطاعات وزارة الثقافة المختلفة كهيئة قصور الثقافة، المركز القومى للترجمة، مكتبة الإسكندرية، دار الكتب المصرية، والتى استلهمت الفكرة، وتحاول السير على نهجها. فى الدورة الثانية من المشروع الوطنى للقراءة والتى أعلنت نتائجها مطلع هذا العام شارك 12 مليون مشترك، من 35 ألف مدرسة ومعهد أزهرى، و145 جامعة و780 كلية و600 مؤسسة تنويرية، تمت تصفيتهم على عدة مراحل ليصلوا إلى 40 مشتركًا نجحوا فى الوصول لمنصة التتويج والفوز بجوائز المشروع، وذلك بعد اجتياز مسابقات التنافس المعرفى فى الفئات الثلاثة للمشروع وهى: فئة الطالب المثقف بين طلاب المدارس، وفئة القارئ الماسى بين طلاب الجامعات وفئة المعلم المثقف بين المعلمين. فى المقابل نجد أن أعداد الطلاب المصريين المسجلين فى "تحدى القراءة العربي" الذى يقام بالتعاون مع دولة الإمارات قد تجاز 16 مليون طالب. بخلاف المسجلين فى مبادرات أخرى من هذا النوع، وكلها أرقام لافتة لكنها تثير التساؤلات أيضا فهل نجحت فعلا هذه المشاريع فى خلق قارئ فعلى أم مجرد متسابقين تنتهى مهمتهم بانتهاء المسابقة؟ وهل يمكن اعتبارها مؤشرات حقيقية على حركة القراءة فى مصر؟ هنا نستعرض أبرز تلك المشاريع، ونحاول الإجابة على الأسئلة مع مجموعة من المثقفين والمتخصصين، كما نناقش جدواها وتأثيرها على عملية القراءة ورواج الكتب.. أبرز المبادرات فى مارس 2020 تم إطلاق المشروع الوطنى للقراءة، بهدف تنمية الوعى بأهمية القراءة، وتمكين الأجيال من مفاتيح الابتكار، ودعم قيمهم الوطنية والإنسانية، وهو من مشاريع مؤسسة البحث العلمى، وتتمثل رسالته فى إحداث نهضة فى القراءة عبر جعلها أولوية لدى فئات المجتمع ويسهم المشروع الوطنى للقراءة فى تصدر شبابنا وأطفالنا ثقافياً من خلال إثراء البيئة الثقافية، كما يشير إلى العناية بكتب الناشئة عبر إثراء المكتبات ورفع جودة المحتوى والإخراج، وتشجيع المؤسسات والمشاركات المجتمعية الداعمة للقراءة عبر تقديم مشروعات ثقافية نموذجية مستدامة وذلك وفق خطة عشرية تتوافق مع رؤية مصر 2030. ويستهدف المشروع جمع فئات المجتمع من طلاب المدارس والمعاهد الأزهرية والجامعات، والمعلمين، والمؤسسات التربوية، والمجتمعية. وقد رصد المشروع 20 مليون جنيه جوائز الفائزين على مستوى الجمهورية. تحدى القراءة وفى ابريل الماضى، وبالتعاون مع دولة الإمارات، عقدت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى، التصفيات النهائية لمسابقة تحدى القراءة العربى، بهدف ضرورة تفعيل الأنشطة المدرسية بمختلف أنواعها فى المدارس لاكتشاف قدرات ومواهب وميول الطلاب والعمل على تنميتها وصقلها وبناء الشخصية المتكاملة. وتعد مسابقة «تحدى القراءة العربى» إحدى أكبر المسابقات التى تشارك فيها وزارة التربية والتعليم على المستوى العربى وتهدف إلى غرس حب القراءة فى نفوس الطلاب لإثراء البيئة الثقافية فى المدارس وتنمية الوعى بأهمية القراءة وتعزيز الحس الوطنى والشعور بالانتماء ونشر قيم التسامح والاعتدال وقبول الآخر، بالإضافة إلى تكوين جيل جديد من المتميزين والمبدعين فى جميع المجالات. هذه المسابقة تمر بخمس مراحل: فى الأولى يقرأ الطالب عشرة كتب ويلخصها، وفى المرحلة الثانية، يقرأ عشرة أخرى ويلخصها، وهكذا فى كل مرحلة، وبذلك يكون مجموع ما يقرأه الطالب ويلخصه هو خمسين كتاباً خارج المنهج المقرر عليه. وتعد مصر أكثر الدول ترحيباً وإسهاماً فى المسابقة، حيث بلغ عدد الطلاب المسجلين بها 16 مليوناً و651 ألفاً و479 طالباً. اقرأ فى مكتبة الإسكندرية مكتبة الإسكندرية بدورها تقدم مسابقة «اقرأ»، والتى توفر الفرصة للقارئ لحصد لقب «قارئ العام» عبر رحلة تبدأ بالتسجيل ليدخل القارئ بعدها ملتقى اقرأ الإثرائى. وفى هذه المسابقة يحصل القارئ الخبرات الثقافية والفكرية والتجارب الاستثنائية، فى أن يختار كتابه، حيث إن مكتبة «إثراء» تزخر بأكثر من 326 ألف كتاب مطبوع، وأكثر من 43 ألف كتاب إلكترونى ومسموع. وفى ماراثون اقرأ، يبحر القراء بين صفحات كتبهم ليسهموا فى خضرة الأرض، حيث يتم زراعة شجرة لكل 100 صفحة يتم قراءتها! كما أطلق المركز القومى للترجمة، مبادرة جديدة بعنوان «أنا أقرأ» تستهدف شباب المدارس والجامعات. وتفاصيل هذه المبادرة تتلخص فى كتابة عرضا باللغة العربية لأحد الكتب الصادرة عن المركز القومى للترجمة، ولا يقل العرض عن ألفى كلمة، ولا يزيد على ثلاثة آلاف كلمة، مع مراعاة الأمانة فى كتابة عرض الكتابة، وألا يكون منقولاً من أحد المواقع الإلكترونية أو الصحف الورقية. ويمنح الفائزون مجموعة كتب من إصدارات المركز وشهادات تقدير. ارتفاع نسب القراءة الدكتور زين عبدالهادى، أستاذ المكتبات والمعلومات، وعضو لجنة الكتاب والنشر بالمجلس الأعلى للثقافة، له العديد من الدراسات حول القراءة والكتابة والنشر، على المستويين الإقليمى والدولى وأيضاً فى مصر. سألناه عن كل تلك المشاريع والمبادرات وإن كانت تعد مقياسا على حركة القراءة فقال إن القراءة ربما تكون هى أهم فعل فى حياة الإنسان، وثمة كثير من الشواهد على أن الطبقات المتوسطة فى المجتمعات البشرية كافة تهتم بالدرجة الأولى بالقراءة. وتكشف الأبحاث العلمية عن ارتفاع نسبة القراءة فى الكثير من دول العالم فى الآونة الأخيرة، وفى جميع أنحاء العالم تقريباً تقام مسابقات للقراءة تدعمها منظمات ومؤسسات وهيئات مختلفة. مؤكداً أن المبادرات الإقليمية والوطنية تسهم بشكل كبير وعادل فى اتخاذ القراءة عادة تكاد تكون يومية، خاصة إذا علمنا أن هناك ارتفاعاً عاماً فى نسب القراءة فى العالم، وفى مصر وصلت معدلات القراءة سنوياً نحو 64 ساعة فى العام وبمعدل تقريبى حوالى 27 كتاباً، وإذا كانت الهند تحتل عام 2023 المرتبة الأولى فى القراءة وفقاً للمؤشر العالمى للقراءة WCSI، فمصر تقع فى المرتبة الخامسة عالمياً بمعدل قراءة أسبوعية يصل إلى سبع ساعات ونصف.. وأن هذا ينفى تماماً شبهة الكسل القرائى عند الشعب المصرى. ويرى د. زين أن أحد أسباب ارتفاع القراءة ومعدلاتها فى مصر يعود إلى المبادرات التى تتبناها مؤسسات وزارة الثقافة كدار الكتب، والهيئة العامة لقصور الثقافة، ووزارة التربية والتعليم، إلى جانب المبادرات الإقليمية فى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وجمهورية تونس. ولفت د. زين إلى أنه ربما تكون هناك مجموعة من الإرشادات المهمة للقائمين على هذه المبادرات، كى تؤتى ثمارها، الأمر الأول: ليس الوقت هو العنصر الحاسم فى معدلات القراءة، وهذا أمر فى غاية الأهمية، فعنصر الجودة وسرعة القراءة، والقراءة بلفظ صحيح، وفهم ما يُقرأ والتعبير البلاغى عنه، كلها مؤشرات نوعية عادة لا نهتم بها، وهو أمر يفقد المبادرات الهدف منها، وهو تكوين العقل الصحيح، وهناك مئات الأبحاث العلمية حول طرق قياس كل عنصر من هذه العناصر، بل وتدخل الذكاء الاصطناعى فى الأمر لتحسين معدلات القراءة فى الدول المتقدمة. كما يرى د. زين أن الأمر الثانى يتعلق بإدارة هذه المبادرات، وهنا على كل من وزارات الثقافة والتربية والتعليم والتعليم العالى والشئون الاجتماعية والشباب والرياضة، التنسيق معاً من خلال لجنة عليا تشكل سنوياً لهذا التنسيق إذا أردنا فعلاً الوصول بالعقل الجمعى إلى قراءات رصينة وقراءة صحيحة وفهم طيب لما يتم قراءته. أما الأمر الثالث فهو التركيز على قضايا الخيال والمعرفة والتاريخ والبيئة بدلاً من إطلاق مبادرات حرة، كما أن إهداء الطلاب والشباب لمجموعات من الكتب لأول ألف مثلاً من الفائزين به فائدة كبيرة لكل عناصر القراءة من المؤلف والناشر والوزارة. ويتبلور الأمر الرابع فى القيمة التربوية للقراءة، إن استراتيجيات تعليم الطلاب القراءة تتمحور حول سبع استراتيجيات، يجب أن تعكسها مبادرات القراءة، وهى تنشيط القراءة، وبناء العادة والقدرة على الاستنتاج والمراقبة والتوضيح والاختيار والبحث والتلخيص والتصور والتنظيم. أما الأمر الخامس والأخير، فهو لتحسين المبادرات وهو تشجيع التنافسية بين طلاب المدارس فى الدول العربية والغربية وغيرها، بحيث توجه قراءات طلاب الصفوف الدراسية نحو أعمال بعينها، تساعد على الارتفاع بقيمة عادة القراءة ومستوى التحصيل، والقدرة المهارية على استخدام الخيال بشكل فعال. تمنى د. زين وجود مبادرة عالمية تقترب من الألعاب الأوليمبية فى منافسات القراءة وهو يرى أنه حلم ليس بعيداً. قطاعات مستهدفة الدكتور حسين البنهاوى، المحاضر بجامعة عين شمس، وعضو لجنة الكتاب والنشر بالمجلس الأعلى للثقافة، قال إن مبادرات القراءة موضوع فى غاية الأهمية والمسابقات التى تقام بشأنها وكل أشكال التنافس فى القطاعات العمرية المختلفة لها تأثير إيجابى. لكن السؤال الذى يجب طرحه هو: هل وصل خبر هذه المسابقات لأكبر قطاع مستهدف؟! ويجيب د. البنهاوى: فى تقديرى أنها لم تصل، رغم الإعلان عنها، ورغم أنه فى بعض الأحيان نجد أن وسائل التواصل الاجتماعى تتداول مثل هذه المسابقات. ويرى د. البنهاوى أننا فى حاجة إلى توسيع عملية الإعلان والتعريف بمثل هذه المسابقات. كما يرى أن مثل هذه المبادرات غير كافية لضمان ترسيخ فكرة القراءة، قائلاً: للأسف مثل هذه المبادرات غير كافية، لأن السائد الآن هو القراءة العشوائية بمعنى أننى كنت أتمنى وجود خطة يضعها خبراء التربية وخبراء الكتب والنشر، تتضمن تحرير مائة أو خمسين كتاباً لكل فئة عمرية معينة للقراءة، ويكون هذا بمثابة هدف تكوين "فكر عام"، أنا لا أنادى بتكوين أيديولوجية أو فكر موجه أنا أريد فكراً ينمى الاهتمام بالقراءة، وينمى الانتماء الوطنى للوطن، ينمى الفكر والتفكير العلمى من خلال تحديد مجموعة الكتب المراد قراءتها، متضمنة أمثلة لعظماء التاريخ ليكون هؤلاء بمثابة نماذج للشباب والناشئة أن تحتذى حياتهم وتتعرف على كفاحهم. لكن للأسف الفكرة القائمة الآن مفتقدة ما طرحته، فى تقديرى أنه يجب تحديد موضوعات محددة للفئات العمرية المختلفة، حتى تصبح هذه بمثابة قاعدة لتكوين فكر معتدل، غير متطرف، يشمل الفكر بصفة عامة والدين والنواحى العلمية والأدبية، وعادات الشعوب وما إلى ذلك. فى حين يرى الكاتب أحمد القرملاوى، مدير دار نشر ديوان، أن حجم الإسهام وتأثيره فى مثل هذه المبادرات والمسابقات يعتمد على مدى تفاعل الجمهور المستهدف مع المبادرة، ولابد من وجود آلية لقياس هذا التفاعل وتقييمه وفقاً لمعايير رقمية نوعية. وطالب بضرورة تقديم أفكار أكثر تفاعلية تجتذب الشباب، كما طالب بربط نشاط القراءة بأنشطة أخرى جذابة للشباب والجمهور المستهدف مثل الألعاب الإلكترونية Games والمسابقات التفاعلية والعوالم الافتراضية Virtual Veality. فالقراءة فى العالم المعاصر لا يمكن أن تستمر كنشاط منفصل عن غيره من الأنشطة التى تهتم بها الأجيال الأحدث عمراً. وأشار القرملاوى إلى أن آليات القياس التى تحدد تعامل الشباب أو النشء مع مبادرات القراءة، يسأل عنها خبراء التسويق، وتحليل البيانات، فهى تبنى على قياس التفاعل على منصات التواصل الاجتماعى لذا من الضرورى عمل منصات خاصة لمبادرات القراءة والتسويق لها، ليس فقط بهدف التعريف بها للتسويق والتواصل مع جمهورها، بل لقياس كفاءتها وتحليل أدائها فى نفس الوقت.